هذه الرسالة مستلّة من كلمة وجّهها الكاتب إلى المشاركين في الحوار العربيّ - الصينيّ الذي عقده منتدى الفكر العربيّ، بالتعاون مع معهد الصين للدراسات الدولية، في عمّان يومَيْ 29 و 30 تشرين الثاني نوفمبر 2004. وجاء هذا الحوار بعد سنتين ونصف السنة على لقاء سابق في بيجين، وبعد انقضاء ثماني عشرة سنة على أول حوار فكريّ عربيّ صينيّ استضافه المنتدى في عمّان] أبدأ بسلام الأخوّة والمحبة. فنحن نتحاور - عرباً وصينيّين - منذ سنين وسنين من أجل توطيد التّعاون العربيّ الصينيّ وإغناء مسيرته بالأفكار والمقترحات، في إطار التغيّرات السريعة التي تعصف بعالمنا. هنالك فرصٌ كثيرة ومجالات عدّة للتّعاون فيما بيننا. والرّغبة في ترسيخ هذا التعاون لا مجال للشكّ فيها لدى الطّرفيْن. إن آفاق التّعاون بين الصّين والبلدان العربيّة شاسعة رحبة. فهلاّ عملنا نحو رؤية شاملة يتم في ضوئها وضعُ الآليّات المناسبة لتفعيل التّعاون بيننا وبينكم في شتّى المجالات؟ لقد أكّدت وأؤكّد الدور الذي يمكنُ للصّين أن تنهض به على الصّعيد العالميّ، جنباً إلى جنب مع الاتحاد الأوروبيّ، من أجل إحلال السّلام في العالم. كما أكّدت وأؤكّد أهمّيّة منطقة الشّرق الأوسط الكبير أو الأكبر أو الأوسع"سمّوه ما تشاؤون بالنّسبة للصّين. وهذا يعود إلى الموقع الاستراتيجيّ للمنطقة وما تزخر به من ثروات استراتيجيّة، خصوصًا النّفط. نحن نعيش في عالم تتّسع فيه الفجوة بين الجنوب والشّمال بسبب النّظام الاقتصاديّ والسياسيّ الدوليّ الحالي. فنحن بحاجة إلى تفعيل الحوار والتّعاون بين الجنوب والشّمال، وبين الجنوب والجنوب، من أجل عالم أكثر عدلاً واستقراراً. وتتطلّب مواجهة التّحدّياتِ الرئيسيّة للبلدان النّامية تبنّي جدول أعمال مشترك يعالج هذه الأمور وما يترتّب عليها من تداعيات. مثل هذا الجدول قد يتبنّى النقاط الآتية: - الاعتراف بسيادة المواطنين. - السّيطرة على النّموّ السّكانيّ. - تحقيق نمو اقتصاديّ يقوم على العدْل والإنْصاف. - إعادة هيكلة مؤسّسات الحاكميّة. - التّنمية الاجتماعيّة. - تأكيد الثّقافة المشتركة. وممّا يساعد على تدعيم الاستقرار في منطقتنا معالجة هذه التّحدّيات وغيْرها من منظور عبْر إقليميّ وعبْر قطريّ، بل عبْر قارّيّ. إنَّ تجربة الصّين الرّائدة في مجال التّنمية و"ثقافة الاستدامة"تقدّم لنا نموذجاً نتعلّم منه ونحاول تطبيقه ضمن إطار ظروف منطقتنا وخصوصيّتها. لقد اختارت الصّين، التي يبلغ عدد سكّانها زُهاء خُمْس سكّان المعمورة، طريقاً تنمويًّا يناسب خصوصيّاتها الوطنيّة، مبنياً على مفهوم عميق شامل للتّنمية، يؤمن بالتّعاون مع بلدان العالم في هذا المجال، وبالتّوفيق بين الإصلاح والتّنمية والاستقرار. ونجد تأثير التّنمية والإصلاح في الصّين واضحاً على أفراد الشّعب الصّينيّ، من حيث التحسّن في دخل الأفراد وفي الخدمات التي تقدّمها الدّولة لهم، صحيّة وتعليميّة وغيْرها. واسمحوا لي أنْ أهنّئكم على ذلك"لأنّ هذه سياسة من أجل البشر Anthropolitics التي أُنادي بها دوماً. لقد درج الحديث عن تعثّر مسيرة التّقدّم في الشّرق الأوسط والعالم الإسلاميّ. إلا أنَّ تقريري التّنمية الإنسانيّة العربيّة للعاميْن 2002 و2003 والتّقرير الاقتصاديّ العربيّ الموحّد تتضمّن الكثير من المؤشّرات الإيجابيّة التي تبشّر بمستقبل أفضل لشعوب المنطقة. ويبقى التّحدّي قائماً أنْ نبني على ما تمّ تحقيقه من تقدّم وإحداث تحوّل في اقتصادات المنطقة. وعسى أنْ تكون التّجربة الصينيّة في هذا السّياق قدوة وأمثولة لنا. إنّني أؤمن بقوّة الأفكار ودورها في تغيير واقع الشّعوب. وهذا يحتاج إلى برامج عمل مدروسة واستراتيجيّات ورؤى نافذة. ولعلَّ"سيناريوات ماذا لو"في هذا السّياق تساعدنا في تصوّر المستقبل وحتىّ المساهمة في بنائه، بعيدا عن"مفهوم المدى القصير"الذي كبح ويكبَح تحركنا. هذه دعوة إلى وضْع يدكم بيدنا للمشاركة في مثل هذه السّيناريوات. لقد دعوْت دوماً إلى الحوار مع"الآخر"وتبادل الأفكار معه، من أجل العمل سويًّا على وضع آليّات لمعالجة المشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا. وبذلك تتحوّل عَلاقتنا مع الآخر إلى علاقة شراكة من أجل بناء مجتمع أهلي متماسك. وهنا أجدّد دعوتي التي أطلقْتها عام 2000، في خطابي في معهد الشّعب الصينيّ للشؤون الخارجيّة في بيجين، حول"العوْلمة والثقافة: الصّين والعالم العربيّ"، والتي ناديْت فيها بضرورة البحث عن صيغة للشّراكة العالميّة تتّسم بالاستقلال المتكافل. وهذا يتمثّلُ في استراتيجيّة الصّين التي تقوم على الاحتواء لا الإقصاء، والتي تجعل من إمكانيّة التّعاون بين الأقاليم في مجال التّنمية، في إطار متعدّد الأطراف، أمراً قابلا للتّحقيق. أعود ثانية إلى خطابي ذاك. فقد ذكّرت فيه بأهمّيّة دعم الصّين لخطّة التنمية التعاونيّة عَبْر الحدود الوطنيّة لدلتا التومين Tumen Delta التي تضم روسيا وكوريا الشّماليّة والجنوبيّة على السواء"إضافة إلى دعمها للتجمّعات الإقليميّة الفرعيّة في جنوب شرق آسيا، مثل بلدان دلتا الميكونغ Mekong Delta. ويقدّم هذا تدليلاً عملياًّ لمفهوم"إدارة الأقاليم"وللتّفكير فوق القطريّ الذي يهدف إلى استخدام الموارد بشكل أفضل. خذوا مثلا منظّمة التعاون عبْر المتوسط للطاقة المتجدّدة TREC، التي يتمثّل هدفُها في المساعدة على تحويل إقليم البحر الأبيض المتوسط من منطقة انقسامات ونزاعات متعدّدة إلى منطقة منسجمة من حيث التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتّعاون وحسن الجوار. إنَّ مثل هذه المنظّمة تنسجم تماماً مع فلسفتكم ونهجكم. كما أنَّ رابطة المحيط الهادىء للتّعاون الاقتصاديّ APEC هي إطار آخر قام بتعزيزه كل من الصّين وشركائها الإقليميّين. إن منطقتنا بحاجة إلى عمليّة إصلاح على مستوياتٍ عدّة. وأيّ مبادرة لتحقيق ذلك لا بدّ أنْ تأخذ بالحسْبان القضيّتيْن اللتيْن تشغلان شعوب المنطقة الآن"ألا وهما القضيّة الفلسطينيّة والوضع الحالي في العراق. إنّ موقف الصّين من هاتيْن القضيّتين هو موقف داعم لكلّ ما تطمح إلى تحقيقه الشّعوب العربيّة من سلام عادل ودائم في الشّرق الأوسط. كذلك لا يمكن للسّلام في منطقتنا أنْ يصبح حقيقة من دون معالجة موضوع الخطر النّوويّ وأسلحة الدّمار الشّامل. ما نصبو إليه هو أنْ تُصبح منطقتنا خالية من هذه الأسلحة. وقد يساعد في ذلك، حتى في تخفيض الأسلحة التقليديّة التي لا تقل عنها تدميرًا، تأسيسُ مركز إقليميّ لتجنّب الأزمات. مثل هذا المركز كفيل بأنْ يعالج الأزمات قبل نشوبها. من أجل تحقيق التّنمية، نحن بحاجة إلى مفهوم جديد للأمْن يقوم على الثّقة والسّلام والتّعاون وتعزيزِ الصّداقة على المستوى الإقليميّ. لا بدّ أنْ يركّزَ الإصلاح الإقليميّ على قضايا الأمن الجماعيّ، والتّجارة الحرّة، وإشراك الآخرين، كالاتّحاد الأوروبيّ، في هذه العمليّة. نحن بحاجة إلى التّعاون ليس فقط في مجال الأمن العسكريّ أو الصُّلب، وإنّما أيضاً الأمن الإنسانيّ أو الناعم. ولا بد هنا في معرض حديثي عن التّنمية والإصلاح أنْ أشير إلى الدّوْر المهمّ الذي ينهضُ به الشّباب في مواجهة هذه التّحدّيات في مجتمعاتنا. فالشّباب يشكّلون زهاء 70 في المئة من مجتمعنا. وكونهم يشكّلون الأغلبية، فإن التّنمية الشّاملة المستدامة التي نتطلّع إلى تحقيقها لا بدّ أنْ تركّزَ على الشّباب ودوْرِهم في بناء المستقبل وحمل رسالة"الخطاب العربيّ الإسلاميّ الوسطيّ الرّاشد"الذي ننشد. لقد أطلقت فكرة برلمان للشّباب العربيّ في المؤتمر الشّبابيّ الأوّل الذي عقده منتدى الفكر العربيّ في عمّان قبل ثمانية أشهر، والذي نتطلّع إلى أنْ تتبعَهُ سلسلة من المؤتمرات التي تتناول الموضوعات التي تهم شبابنا. أيُّها الأصدقاء: سيعقد المؤتمر العالميّ الثّاني للدّراسات الشّرق أوسطيّة في عمّان عام 2006. وقد عقد المؤتمرُ الأوّل في مدينة ماينز في ألمانيا وجمع تحت خيمته جمعيّات الدّراسات الشّرق أوسطيّة من أوروبا والشّرق الأوسط. وستكون هذه فرصة أخرى للمزيد من التّعاون المثمر، ليس فقط بيننا وبين الغرب، وإنما أيضاً بيننا وبين بلدكم العظيم. المهمّ أنْ نستمر في التّواصل وفي الاجتهاد وفي الابتكار. ماذا لو كثفنا حواراتنا أكثر فأكثر؟ ماذا لو وسّعنا من نطاق منبرنا ليشملَ أقطاراً وأقاليم أخرى، مثل جنوب آسيا وشرق آسيا؟ باكستان وإيران وتركيا، وغيرها؟ ماذا لو تبادلنا الخبرات والموارد البشريّة بشكل منظّم؟ ماذا لو ركّزنا على برامجَ عمليّة يشترك فيها مواطنون من كل القطاعات؟ القائمة طويلة"وإنّي لعلى يقين من أنَّ الإرادة والعقل والقلب والذهنيّة كلّها متوافرة. أحيّيكم"وأُسلم عليكم.