أود بهذا العنوان أن أوجه تحية للشاعر الألماني الكبير غوته الذي نشر قبل ما يقارب المئتي عام ديوانه الذي حمل عنواناً عربياً هو "الديوان الشرقي للشاعر الغربي". ومع أن الحديث هنا لا يتناول كيفية تفاعل الشعراء العرب مع الثقافة الغربية - أي أننا لسنا في وضع مقابل تماماً لما فعله الشاعر الألماني - فإن في التفاعل عبر الثقافي هنا ما يبرر الاستدعاء. والتفاعل المقصود هو الكيفية التي رأى بها عدد من الشعراء العرب المشهد الغربي. ذلك المشهد الغربي قد نبالغ لو قلنا إن من الممكن اختصاره في مدينتين فقط: باريسونيويورك. ذلك أن مدناً وثقافات غربية أخرى كان لها حضورها في الشعر العربي الحديث. لكن المبالغة لن تكون كبيرة على رغم ذلك الحضور. ففي كثير من الشعر الذي كتب عن الغرب كان الحضور يتأرجح بين تلكما المدينتين، مرة نحو باريس ومعها أوروبا ومرة نحو نيويورك ومعها الولاياتالمتحدة الأميركية، وعلى نحو يستثير الانتباه. في الفترة الممتدة من السبعينات وحتى يومنا هذا، وهي الفترة التي أحصر حديثي فيها، جاء إلى تلكما المدينتين، باريسونيويورك، أو الدولتين اللتين تقعان فيهما، شعراء عرب كثيرون، مثلما جاء غيرهم من مناطق أخرى من العالم، فكان حرياً بتجربة الإقامة تلك أن تترك أثرها في من عاش تجربة الإيواء. لكن أسباباً موضوعية أخرى لعبت دوراً مهماً في تشكيل ما يمكن أن نسميه المخيال الغربي في الشعر العربي الحديث، منها السياسي، ومنها الثقافي، وفي تقديري أن الشعر العربي الحديث الذي يحفل بذلك المخيال يشكل تياراً موضوعاتياً، أو منظومة من النصوص المتمحورة حول الآخر وما يعنيه للشاعر وللثقافة العربية في مرحلة تاريخية محددة وضمن ظروف سياسية وإنسانية محددة أيضاً. في الملاحظات التالية والحيز المتاح لها سيكون من الصعب حصر القصائد التي تتناول الغرب بصفته آخر في الشعر العربي الحديث، ناهيك عن تناولها بالنقاش. لذا كان ضرورياً الاكتفاء بالإشارة أولاً إلى بعض القصائد التي تشكل الإطار العام لهذا المبحث ليصار من ثم إلى تركيز الحديث في بعضها. وفي هذا السياق نذكر ما يأتي: في بداية السبعينات تطالعنا قصيدة الشاعر السوري علي أحمد سعيد أدونيس المطولة "قبر من أجل نيويورك" 1971 التي ترسم أنموذجاً يكاد يكون بدئياً لما سيؤول إليه التناول الشعري العربي لأميركا، ليس لأن الشعراء الآخرين احتذوا حذو أدونيس وإنما لأن الموقف والرؤية العربية لأميركا ارتسما وفق خطوط عامة أملتها ظروف تاريخية محددة التقطها أدونيس مبكراً. هكذا مثلاً سنجد موقف الشاعر السعودي محمد الدميني تجاه نيويورك في أوائل الثمانينات، وهكذا أيضاً جاء موقف الشاعر العراقي سعدي يوسف تجاه أميركا عموماً في أواسط التسعينات. فما يجمع هذه النصوص هو الموقف النقدي تجاه أميركا من حيث هي نظام سياسي واقتصادي معادٍ للشعوب العربية، إلى جانب الموقف المتصالح جداً مع أميركا بصفتها ثقافة كبيرة ومميزة. ولعل من المهم أن نلاحظ أن هذين الموقفين، لا سيما النقدي منهما والموجه الى النظام السياسي والاقتصادي الأميركي، لم يكونا غريبين على الشعر الأميركي نفسه. فهناك شعراء أميركيون اتخذوا مواقف تجاه بلادهم مشابهة لموقف الشعراء العرب منها، مثل ألن غنزبرغ وكلود مكاي. لنأخذ مثالاً من قصيدة أدونيس: "نيويورك، جسد بلون الإسفلت، حول خاصرتها زنار رطب، وجهها شباك مغلق ... قلت يفتحه ووالت ويتمان - "أقول كلمة السر الأصلية" - لكن لم يسمعها. ... لم يعد في مكانه. السجناء، العبيد، اليائسون، اللصوص، المرضى يتدفقون من حنجرته، ولا فتحة، لا طريق. وقلت: جسر بروكلين! لكنه الجسر الذي يصل بين ويتمان ووول ستريت، بين الورقة - العشب والورقة - الدولار"... ويتمان هو وجه أميركا المضيء، لكن فشله في فتح شباك نيويورك المغلق مؤشر على المسافة الهائلة التي تفصل تلك المدينة - مدينة وول ستريت وعبادة الدولار - عن شاعر "أوراق العشب". "أوراق العشب" هو العمل الذي نقله إلى العربية شاعر العراق سعدي يوسف، بيد أن سعدي المشدود إلى ويتمان، كما هو واضح، لم يجد في ذلك العمل الشعري الشهير ما يعين على تقبل الحضور الأميركي السياسي والاقتصادي، ما يدفع الشاعر إلى اقتراح مقايضة سياسية ثقافية تبدو أميركا فيها غير جديرة بشاعرها: "أميركا!/ لنستبدل هداياك/ خذي سجائرك المهربة/ وأعطينا البطاطا... خذي ما لا تملكين/ وأعطينا ما نملك./ خذي أشرطة البيرق/ وأعطينا النجوم./ خذي اللحية الأفغانية/ وأعطينا "لحية والت ويتمان الملأى بالفراشات". خذي صدام حسين/ وأعطينا أبراهام لينكولن!/ أو لا تعطينا أحداً". ما بين قصيدتي أدونيس وسعدي يوسف ربع قرن كتب أثناءها الكثير من الشعر العربي حول نيويورك وأميركا عموماً. وكان من تلك، في مطلع الثمانينات، قصيدة للسعودي محمد الدميني في عنوان "كتابة نهارية عن ليل نيويورك" ترسم غربة الشاعر في المدينة العملاقة والموحشة في الوقت نفسه. ومع أن القصيدة تحفل بمشاهد متعددة من الحياة الأميركية النيويوركية، فإنه لم يكن بد، كما يبدو، من استحضار ويتمان مرة أخرى وعلى نحو يذكر بما تبينه أدونيس وما أعاد اكتشافه سعدي يوسف في ما بعد: "ما جئت أبحث عن معاني/ السلم في قاموسك المصنوع من سقيا / دمارٍ، لم تكوني غصن "ويتمان" / ولكن كنتِ قبره". هذا الموقف إزاء نيويورك وأميركا في شكل عام هو ما نجد، كما ذكرت لدى شعراء أميركيين، وأضيف أنه أيضاً ما عبر عنه غير شاعر غربي من غير الأميركيين، مثل الروسي مايكوفسكي والأسباني لوركا قبل الشعراء العرب بنصف قرن تقريباً. وتوارد المواقف شاهد على موقف إنساني تجاه ما تمثله الولاياتالمتحدة في العالم، من إنجاز حضاري وثقافي هائل من ناحية، وما تستدعيه من كراهية سياسية عارمة، من ناحية أخرى. غير أن تشابه المواقف لا يخفي وجوهاً من الخصوصية لدى الشاعر العربي تتجلى من خلالها إشكاليات عربية محددة لا نجدها في الموقف إزاء أميركا في شكل عام لدى شاعر روسي أو إسباني أو أميركي. من وجوه الخصوصية العربية تلك توقف الشعراء عند ظروف سياسية تؤرق العالم العربي وتمثل أميركا فيها طرفاً أساسياً مثل قضية فلسطين" كما أن منها استعادة الشعراء في خضم مخاطبتهم لأميركا أو إحدى مدنها نيويورك بالدرجة الأولى هنا المعالم الجغرافية والثقافية للوطن العربي البعيد ومحن الاغتراب عنه وما يعنيه ذلك للهوية المهددة. فحين يخاطب سعدي يوسف أميركا نجده يستعيد البصرة بمعالمها الجغرافية والإنسانية الجميلة: النخيل، المساجد، الطيور، الطفولة. وهكذا أيضاً يستثير الدميني ملامح الصحراء العربية من خلال مفردات "الإبل" و"الخزامى" lavender و"حر الوغى" the heat of war، من حيث هي جزء من معاناة الشاعر في المدينة الأميركية، وأيضاً من حيث هي جزء من هويته الثقافية، على النحو الذي لن نجده في قصائد لغنزبرغ أو لوركا. هذا الحضور للخصوصية العربية سواء على المستوى السياسي أو الثقافي أو غيره لا يغيب في ما يطالعنا من قصائد تعبر عن التجربة العربية - الفرنسية في الربع الأخير من القرن العشرين. تلك القصائد كثيرة أيضاً ولشعراء لا يقلون أهمية، منها قصائد للشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي ولسعدي يوسف أيضاً وللعماني يوسف الرحبي، وللعراقي سركون بولص. ما يستثير الانتباه هنا هو اختلاف التجربة ومثول غرب آخر، لأن فرنسا تجربة إنسانية وثقافية حميمة بالنسبة الى أولئك وغيرهم ممن عبر عنها من الشعراء العرب، والحميمية هنا لا تستثني التوتر الإنساني عبر الثقافي، لكنه توتر يختلف عن التوتر الذي نلحظه في التجربة العربية - الأميركية التي لمحنا بعض جوانبها. ذلك أن الحميمية هنا تعني تضاؤل المسافة أو الجفوة التي تسم العلاقة بنيويورك لدى أكثر من شاعر عربي، مع أن من الصعب أن نعمم كثيراً في وصف هذه العلاقات الإبداعية عبر الثقافية. الواضح في كثير من التجارب الشعرية العربية المتصلة بفرنسا هو أن ثمة خصوصية للعلاقة العربية - الأوروبية، الفرنسية بخاصة، لا تتكرر في العلاقة بالغرب إجمالاً، لا سيما العلاقة بالولاياتالمتحدة. ويعود ذلك في ما يبدو إلى عمق التداخل التاريخي بين أوروبا والعالم العربي على المستويات كافة. ففرنسا حاضرة في النهضة العربية الحديثة في شكل قوي، والتأثير الفرنسي في التيار التنويري في شكل خاص شديد الوضوح منذ القرن التاسع عشر. يضاف إلى ذلك أن مواقف فرنسا، بل أوروبا عموماً، تجاه العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى رغم التاريخ الاستعماري، أفضل بكثير من مواقف الولاياتالمتحدة. ولم يكن غريباً، والحال كذلك، أن تلجأ الثقافة العربية إلى باريس أو إلى ألمانيا أو غيرهما من دول أوروبية في أوقات المحن القومية والشخصية. هكذا وجد أحمد حجازي، حين اضطر للإقامة في باريس هرباً من الأوضاع السياسية في مصر أواسط السبعينات، أن اللاجئ إلى باريس ليس هو وحده وإنما هو أيضاً الحلم العربي بالثورة: "أنا، والثورة العربية، نبحث عن عمل في شوارع باريس، نبحث عن غرفة، نتسكع في شمس أبريل/... قلت للثورة العربية: لا بد أن ترجعي أنتِ أما أنا / فأنا هالكٌ تحت هذا الرذاذ الدفيء!". هذه المعاناة، أو "البطالة"، كما هو عنوان النص السابق، تتكرر مرة في قصيدة أخرى من قصائد مجموعة "كائنات مملكة الليل" 1978 حين يصادف الشاعر جرحى الحرب من العرب وقد لجأوا مثله إلى باريس. لكن جرحى العرب، وإن استظلوا مثله بظل المدن الأجنبية الفاتنة، يتميزون عنه بنضالهم من أجل الوطن وبما فقدوا من أعضاء أجسادهم من أجله. غير أن حجازي الذي دخل الشعر العربي من بوابة المدينة حين جاءها من القرية في أواسط القرن العشرين يظل حساساً ليباب المدنية المعاصرة، وفي باريس تطل تلك المدنية على نحو لم يألفه حتى في مدينة هادرة كالقاهرة، ما يكشف وجهاً آخر من وجوه الآخر الغربي إذ يحيط الشاعر بحضارة تنطوي على الكثير من القسوة. ذلك ما تعبر عنه مجموعة "كائنات مملكة الليل" مع مجموعة أخرى صدرت بعدها بإثني عشر عاماً، ولكن من قصائد المجموعة الثانية ما يعود إلى مرحلة السبعينات الباريسية لدى الشاعر. من تلك قصيدة تحمل عنوان المجموعة وهو "أشجار الإسمنت" تبدو فيها باريس مدينة يبابية تعج بالنفايات والعقم: "النفايات التي تلفظها الشهوة في كل صباحٍ / سأماً، لا شبعاً - / توضع أكداساً على الأبواب، / والآلات تلقي غيرها زبداً / في النهيرات التي تفضي إلى الباعة، / والأرض تدور". تمتزج هذه المشاهد من تاريخ فرنسا الثقافي/ الاجتماعي مع مشاهد معاصرة ومع معاناة الشاعر العربي/ العراقي لتنتج من دراما إنسانية تتخطى الحدود ليس بين الشاعر العربي والشاعر الغربي فحسب، وإنما بين أنحاء الغرب نفسها. فبولص المغترب في الولاياتالمتحدة منذ نهاية الستينات كتب الكثير عن المدن الأوروبية، كما عن الولاياتالمتحدة، وقصائده فصل مهم في مبحثنا تضيق المساحة والوقت عن التوسع فيه. التجربة الأخيرة التي أود التوقف عندها هي تجربة العماني سيف الرحبي الذي عرف باريس وعاش اختلافها على نحو يذكر حيناً بتجارب غيره من الشعراء العرب، ويخرج حيناً عن تلك التجارب إلى تفرد متوقع. تلك التجربة عبرت عنها قصائد كثيرة للشاعر تبرز من بينها قصائد مجموعته "رأس المسافر" 1986 حيث تمثل باريس من خلال صور يختلط فيها الواقعي بالسوريالي ويغلب عليها الشعور بكابوسية الحياة المدنية الغربية. هذه الكابوسية تصل قدراً من الحدة قد لا نجده في التجارب الموازية. أحد مشاهد تلك الكابوسية يأتي في وصف الشاعر للمدينة إذ تستيقظ في ساعات الصباح الأولى. هنا يخاطب الشاعر نفسه: "تستيقظ آخر الليل، تلقي نظرة على الشارع الخالي، إلا من أنفاس متقطعة عابرة، تعبره بين الحين والآخر". تتلو ذلك مشاهد لقبائل بربرية وفرقة من الأقزام إلى جانب "رؤوس وهمية" و"مصابيح تتدافع بالمناكب"، ليمتزج في خضم ذلك مشهد قطارات باريسية "تحلم بالمسافرين" بمشهد جمال صحراوية عمانية "تقطع الصحراء باحثة عن خيام العشيرة". في مشاهد الرحبي الباريسية يتوارى البعد السياسي - وإن لم يغب تماماً - لتطغى التجربة الفردية على المستويين الاجتماعي والثقافي، أو الحضاري في شكل عام. نجد هنا حديثاً عن قسوة المدن، "المدن التي لا تتسع إلا لحديث عابر"، ولكثير من التشرد والمعاناة، عن الجانب اليبابي من المدن المعاصرة، من باريس نفسها حين تترك دورها التنويري وتصير مسرحاً للبؤس البشري: "في ليلة الخامس والعشرين من... حيث كان الربيع يزفر موسيقى أحشائي/ الناعمة، وحقول الطرقات في باريس /مرمية بين أضراس الخوف والمزابل /التي يضيع أطفال المشردين فيها بحثاً عن قطعة / خبز أو قماش". اللافت هنا هو امتزاج المشهد الباريسي بمشهد أميركي يأتي من خلال التلفزيون، إذ يشاهد الشاعر فيلماً أميركياً "تحرق فيه جان دارك معقوفة على الصليب". كأنما هو الغرب المتداخل يبرز وجوهه المؤلمة، من تشرد أطفال باريس إلى إحراق المرأة المناضلة من أجل وطنها، فرنسا وأميركا تلتقيان في تشابهات الألم. ومن هذا قد نرى أنه ليس الرحبي أو أدونيس أو غيرهما من الشعراء العرب المشار إليهم هم وحدهم الذين يعانون في المشهد الغربي ومن وراء ذلك المشهد العربي، بل هو الغرب نفسه يمْثُل شريكاً في بعض مشاهد المأساة التي انتدب الشاعر العربي نفسه شاهداً عليها.