قصائد أدونيس، القديمة والجديدة ما برحت "تنتقل" الى لغات عدة، وما زال المترجمون الغربيون يقبلون على نقل مختارات من دواوين الشاعر الرائد الذي حقق ثورة في اللغة العربية، جامعاً بين اللحظة الشعرية واللحظة الفكرية، بين جذوة الوجد ونار الحدس. أما أحدث الكتب المترجمة حديثاً لأدونيس فإثنان: واحد صدر بالإيطالية في عنوان "مئة قصيدة حب" وآخر صدر بالفرنسية تحت عنوان "لمس الضوء". "مئة قصيدة حب" ديوان كتب أدونيس قصائده بين عامي 1999 و2000. وهو من ترجمة الشاعر والفنان العراقي المقيم في إيطاليا فوزي الدليمي. وللشاعر أدونيس باللغة الإيطالية كتب عدة منها "شهوة تتقدم في خرائط المادة"، "سجيل"، "كتاب التحولات"، وهي من ترجمة فوزي الدليمي، وصدرت لأدونيس باللغة الإيطالية أيضاً مختارات شعرية أخرى منها "ذاكرة الريح" و"في الحجر وفي الريح" إضافة الى كتابه عن "الشعرية العربية" وستصدر في خريف هذا العام الترجمة الكاملة ل"كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل" وفي مطلع العام المقبل "أغاني مهيار الدمشقي" وهي من ترجمة فوزي الدليمي أيضاً. وكتب الشاعر والناقد الإيطالي جوزيف كونتي مقدماً الكتاب: "من يقرأ أدونيس، وهو من أكبر الشعراء العرب الذين لاقوا حماسة مطردة في استقبال القارئ الإيطالي، يجد في هذا الكتاب "مئة قصيدة حب" قصائد كُتبت في فترة زمنية قصيرة بمتانة أسلوبية وبإيحائية خارقتين. وتتجلى دروس الشرق هنا في الثقة، من دون مبالغة. فالحب وجسد المرأة، ونشيد الحب، ما زالت مادة الشعر، وتمثل الطريق لمعرفة ما هو سري وخفي. وأدونيس يحصد هنا ثمار تراثه الشعري والروحي وهو يشهد على اتحاد الجسم والروح، الجسد والنّفس، ما هو انساني وما هو رباني، في خلاصة مملوءة بطاقة خلاقة. انه تفتح مجازي متواصل يقول للقارئ ان أعضاء العاشق زوارق مبحرة وأن فم الحبيبة ضياء، وليس هناك "حمرة تليق بآفاقه"، وأن أجساد المحبين كواكب أو سديم، وأن سُرة المرأة "نيلوفرٌ بَطِرّ". ان التركيز على الجسد في مقطوعة مثل "جسدي الحالم العاشق" تعيد الى الذهن الشاعر اليوناني كفافيس لو لم يكن عند أدونيس اهتمام أقل بالمتعة لذاتها ووعي ميتافيزقي أكثر عذاباً. ثم ان القارئ يجد في هذه القصائد ما يحاوله الشعر العظيم في الأزمنة كلها، ان يجد تعريفاً للحب: يرى أدونيس أن المكونات الأساسية للحب هي المرارة، البكاء، الكراهية، الألم والعذاب "أجمل ما فيكِ دَمْعُكِ"، وهو يشعر به كالغريب، أصل كل جنون وهو عدو. وفي الوقت نفسه، "ما من صديق سواه": انه شعور أكبر مما تتخيّله، أبعد مما فكّر به، وهو الشيء الوحيد الذي يتيح أن "أكون الطريق الى لا قرار". هنا تتداخل الرؤية والبحث المعرفي والطاقة الاسطورية. عوليس وأثقال المنفى نستشرفه في هذا الكتاب: غير أن أبرز حضورهو لأرفيوس الذي تمزقه كاهنات الإله باخوس والذي كان يستطيع ترويض الوحوش المفترسة بالغناء، وفي المقابل فإن عشتار تعلِّم الشاعر النزول السرّي والصعود على "درجات الجحيم". وبعد الكثير من التشرد والتعب. يرفع الآن شاعر الحب أناشيده الباهرة من أجل طفولته، لكي ينكر شيخوخته: وهذا يعني، لكي يستلذ القارئ أيضاً، نكران شيخوخة الشعر والعالم". أما الكتاب الفرنسي فصدر عن منشورات "المطبعة الوطنية" وفي سلسلة "لاسالامندر" التي تضمّ أعمالاً شعرية بارزة لكبار الشعراء في العالم. القصائد هي من ترجمة المستشرقة الفرنسية آن واد مينكوفسكي ومختارة من دواوين عدة. واللافت هو التقديم الذي خصّ به الكتاب الناقد جان اني ماسّون وعنوانه "أدونيس شاعر التحولات". يقول ماسّون: "أبصر أدونيس النور عام 1930 في قرية شمال سورية تدعى "قصابين". هكذا، تبدأ عادةً عملية التعريف بالشاعر. لكن أدونيس "ولد" فعلاً في العام 1947، حين نشر الشاب علي احمد سعيد قصائده الأولى في صحيفة في اللاذقية، قصائد حملت اسم الإله الفينيقي الذي يعني "السيّد" في اللغات الساميّة. إذاً، بعد ولادة أولى ترعرع فيها أدونيس في كنف والد لقّنه حب اللغة والشعر العربيين، ها هو لغز ولادة ثانية روحيّة وشعرية، ولادة تغرف من ينبوع الأساطير القديمة مكتنفةً الإيحاءات الإغريقية والساميّة في ثناياها. لكن أيّهما أهمّ؟ الاولى أم الثانية؟ ليست الثانية سوى بداية تجربة طويلة. ظلّت أعماله وفيّة للاسم الذي اختاره الشاعر لنفسه، فجاءت مشحونة بولادات وانبعاثات متعدّدة. كان قانون تطوّرها التحوّل الابدي وتجدّد الاشكال والصور الدائم. لكنّ هويّة الشاعر أصبحت موضع تساؤل غنيّة بالصور الجديدة في 1961، حين أبصر ديوانه الثالث "أغاني مهيار الدمشقي" النور، متوّجاً الشاعر كأحد أبرز الشعراء العرب المحدثين. استحوذ مهيار، توأم أدونيس الخيالي، الأجزاء السبعة في كتاب انقطع نظيره، ذاك الذي أغنى اللغة الشعرية من قدرة الشك النقدية لا من يقين الايمان. "لأنّه يحار/ علمنا أن نقرأ الغبار". وأدونيس يحاكي مهيار، أدونيس سيّد التحوّلات،لا يكتنف في زوايا ذاكرته عودة "عوليس" في "الاوديسة" بل قصّة الرحيل، ضرورة الترحال وأخطار التيه والمنفى. كتب أوكتافيو باث في نصّ عن الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، أنّ الشاعر لا يملك سيرة ذاتيّة، فأعماله هي سيرته اليتيمة. لكن سيرة ذاك الشاعر، الذي اختار أدونيس اسماً له تخطّت أعماله لتنصهر مع انبعاث ولادة جديدة، ولادة الشعر العربي الحديث الذي كان وبقي أحد أبرز روّاده منذ أن أسس مجلّة "شعر" في العام 1957 مع صديقه الشاعر يوسف الخال. فوضع اعمالاً تحت اسم اله وثني رحّالة لا ينفك يموت لينبعث من جديد، يكتنف في العالم العربي دلالات سياسية وفلسفية منها رفض التعصّب العرقي. كتب أدونيس في قصيدته "هذا هو اسمي": "لغم الحضارة / هذا هو اسمي". حسم الشاعر أمره واختار التحوّل وتحويل القيم، اختار الحياة الساحرة والمنبعثة دوماً في عالم ينوء تحت وطأة التقاليد، وعين الريبة تثقل كلّ ابتكار، وحيث التقيّد بالقوانين الهرمة يبعد تهمة الهرطقة الجمالية عادة ًاو الدينية، انّه جمود يحاكي الموت. في عالم فكري مدموغ بالجماعة حيث الماضي افضل دوماً، اختار أدونيس المستقبل باعثاً الحركة وحمّل اعماله دلالات "التاريخ" وأزخرها بالتحوّل والهجرة ضدّ التجارب "االماضويّة": لم يفعل ذلك نكراناً للتقاليد بل لاحيائها من جديد. حافظ أدونيس على هذه السمة في مجلّة "شعر" التي ضمت نخباً ثقافية في تلك الحقبة توقفت عام 1964، وفي مجلة "مواقف" التي أسسها عام 1968 وترأسها ثلاثين سنة خلت متحوّلاً بالتالي الى أحد أبرز روّاد الشعر الحديث، ذاك الشعر الذي نهل، خلال نصف القرن المنصرم، من منابع النصوص القديمة بما فيها المعلّقات وأبرز الشعراء والفلاسفة الغربيين المحدثين وبتمحيص نقديّ للكلاسيكيّة والحداثة المطبّقة بحذر في العالم العربي متحاوراً بلا كلل مع الغرب. يطالب أدونيس بحصّة الشعر في المغامرة الفكريّة في العالم المعاصر ويطالب بحق الغذاء المتبادل بين الفكر والشعر عوضاً عن التشبث بالزينة حيث المهارة شكليّة ليس الا. لهذا السبب، ارتبط الفعل النقدي وذاك الابداعي لدى أدونيس بحوار دائم: ولهذا السبب أيضاً عمل كمترجم ترجم الى العربية ايف بونفوا، سان جون بيرس، جورج شحاده وراسين فيما ترجم من العربية الى الفرنسية - بالتعاون مع آن ويد مينكوفسكي- مترجمته الرئيسة - مختارات من قصائد ابي العلاء المعرّي وكتاب "المواكب" لجبران خليل جبران ناهيك بترجمة بعض الشعراء الغربيين في مجلّة "شعر". من هنا، تنبع أيضاً غزارة أعماله النقدية منها: "الثابت والمتحول"، أطروحة تم وصفها عام 1973 في جامعة القديس يوسف بيروت، ومختارات من الشعر العربي التي شكل نشرها عام 1964 أحد ابرز العوامل المؤسسة للحداثة الشعرية نظراً الى انها ردّت الاعتبار إلى شعراء عظماء منسيين، أو مغمورين أو مهمّشين ولا ننسينّ أيضاً المحاضرات التي ألقاها في "الكوليج دو فرانس" عام 1984 ونشرت في جزء أول تحت عنوان "مقدمة في الشعرية العربية". وبموازاة أعماله الشعرية، نشر أدونيس مختارات من مقالاته والمحاضرات التي ألقاها، تحت عنوان "الصلاة والسيف". لا يملك هذا التمحيص النقدي، في الاتجاه المعاكس، معنى إلا عبر مسار شعري يرفض اليقين المكتسب فيما يتزاوج فيه حب العالم الحسّي مع القلق الفكري والذي يطلق عليه "الصوفية" لطالما اجتذب الصوفييون العرب الكبار أدونيس، بمعنى أن الصوفية قد تتجلّى في البحث عن وحدة الكون بجلباب اللعبة المعقّدة للمظاهر. اختار أدونيس المنفى كاتباً "لغة تنفيه"، فالمنفى لم يكن جغرافياً فحسب يقيم في باريس منذ العام 1985 وعلّم في مختلف جامعات العالم، من السوربون الى برينستون، ومن جنيف إلى جورجتاون بل روحياً أيضاً. هذا المنفى، هو خارج الذات، موضع تساؤل ابدي عن الهويّة الحقيقية لشاعر لا ينفك "يطلق وجهه في الصباح للغبار/ للجنون". أعمال انطبعت بهيراقليطس وازدخرت بالأضداد وبالعنف الحيوي غالباً: إنها تنسف اليقين، تنسف القوانين والتصنيفات! إنها لا تعشق سوى تيهان القارئ لتعلّمه النظر إلى العالم من دون أحكام مسبقة، تنشئ تحالفاً بين الأجزاء والوحدة الشكلية. لا تترك شيئاً على حدة. أما الحفاوة التي استقبلت بها فرنسا والعالم "أغاني مهيار الدمشقي" الذي ترجمته آن ويد مينكوفسكي مبصراً النور عام 1983 والذي كان مندرجاً ضمن الدواوين غير القابلة للترجمة، فتعزى إلى أهمية أدونيس الفكرية والى نظره الثاقب المتغلغل في حضاراتنا الغربية والتجانس بين شعريته وتقاليد غربية استقت من منابع الرومانطيقيين الألمان والإنكليز الأوائل والسوريالية الحيّة رامبو خصوصاً، وآمنت بقدرة الخيال والرؤيا الشعرية لابقاء المنطق يقظاً والمفكر الذي يحدو دوماً نحو تجميد الواقع في لعبة المفاهيم المتجرّدة. برفضه عبودية الإنسان للقوانين الاقتصادية، تسلّط الأشكال الفنية وتوتاليتارية الأنظمة المنبعثة في كلّ مكان، برفضه عنف التاريخ الذي يطبع أبياته بقوّة لا تنسى، يتكاتف شعر أدونيس مع باقة من الشعراء الذين عملوا في الظل منذ قرنين في الغرب ليلحّوا على التذكير مستخدمين أسلحة القدح والسخرية إذا لزم الأمر بأنّ التحوّل، الانفتاح على الآخر ورفض الانغلاق طريق الخلاص اليتيمة. وما تنوّع الأشكال والتجدّد المستمرّ الذي يميّز أعماله سوى دليل دامغ على ذلك. شاعر تائه، شاعر الأزمان والمدن، شاعر بابل كما تشهد على ذلك ترجمة "قصيدة بابل" في "كتاب القصائد الخمس" المنشور عام 1980، يجوب أدونيس العالم، من باريس إلى نيويورك، ومن بيروت إلى برلين للشهادة على ضرورة أن يروي الشعرُ الواقعَ بكلمات حيّة، الشهادة على ضرورة البحث عن الحقيقة في الذات وخارجها. أعماله التي ترجمت إلى لغات عدة حتى يومنا هذا، خميرة ثمينة لحداثة مقبلة حيث ذاكرة الماضي لا تبقى ثقلاً يصعب حمله بل وعداً مقبلاً، حيث كلّ نقطة تصبح بدورها نواةً وجزءاً. "يوطوبيا" نعم، لكن ضرورية في نهاية الألفية هذه، حيث البعض لا يرى من العولمة سوى عنف تشتدّ ممارسته حدّة باستعمال المنفعية المهنية والتكنوقراطية". الاعداد والترجمة: أمل الأندري