مر العرب على امتداد تاريخهم الغابر والمعاصر بمراحل حرجة كثيرة وتعرضوا لانتكاسات وأزمات لا حدود لها ثم خرجوا منها بأقل قدر من الخسائر وهذا ما يدفعنا الى تلمس شعاع نور في نهاية النفق المظلم على رغم القراءة التشاؤمية للأوضاع الراهنة وانعكاسات الواقع الأليم على مختلف الصعد والقضايا والتوقعات. الماضي صار في ذمة التاريخ لكن الحاضر مظلم والمستقبل غامض ومرعب ومريب من العراق الى فلسطين، ومن المحيط الى الخليج، ومن القضايا القومية والوطنية الرئيسة الى الأزمات المتفرعة والمعضلات الداخلية المتشعبة... فالمرحلة حرجة جداً والأيام الصعبة المقبلة ستكون حبلى بالأحداث الجسام والمفاجآت ما دام الظلم مستمراً ولم ينته فصولاً سوداء بعد، وما دام التخاذل العربي متواصلاً باستمرار وقانعاً بالذل والهوان وما دامت الضربات الموجعة تتوالى في اتجاهين خارجيين: من اسرائيل عبر ممارساتها المتمادية في الوحشية والإرهاب، ومن الولاياتالمتحدة المتمادية في الانحياز لإسرائيل وانتهاكاتها حقوق الانسان وقرارات الشرعية الدولية بعد أن نصبت نفسها حارساً للممارسات الصهيونية ومدافعاً عن جرائمها ومعطلاً للأمم المتحدة ومجلس الأمن بمواقف مشينة ومفضوحة كان آخرها استخدام حق النقض الفيتو ضد مشروع قرار أجمع عليه العالم يدين جرائم اسرائيل في غزة ويطالبها بالانسحاب فوراً من المناطق التي غزتها قواتها أخيراً ووقف أعمال القتل والتدمير والخطف. أما الضربات الموجعة من اتجاه الداخل فحدث عنها ولا حرج وهي تراوح بين الصمت العربي المريب من القمة الى القاعدة والخلافات المستمرة وتأجيج نيران الفتن والحزازات داخل الدول العربية وفي ما بينها وبين اصرار مجموعة من المتطرفين على التمادي في أعمال الإرهاب وترويع المدنيين وضرب الاقتصاد الوطني وتقديم مادة دسمة للصهاينة وأعداء العرب والمسلمين لتنفيذ مخططاتهم العدوانية والتنفيس عن أحقادهم ضد الاسلام ورسم صورة مشوهة عنه وإخفاء حقيقته السامية كدين محبة وسلام وتسامح. أما على الصعيد الفلسطيني فالطعنات أخطر وقعاً، والظلم أشد إيلاماً لأنه يأتي من ذوي القربى وأصحاب القضية من دون أي حساب للمخاطر التي تتعرض لها القضية والتهديدات التي تطاول الكيان الفلسطيني والهوية الفلسطينية والعذابات التي تكوي بنارها الشعب الفلسطيني وتهدد حاضره ومستقبله وحياته ومصير أجياله وآمال أطفاله وتطلعاتهم لغد أفضل حافل بالاستقرار والأمن والأمان. ضياع كامل وفراغ كبير ونزاعات وخلافات تعصف بكل المنظمات والمؤسسات وفساد يستشري في الجسد الفلسطيني يزرعه صغار النفوس الذين يسرقون اللقمة المغمسة بالدم من الشعب الفلسطيني ليحصلوا على حفنة من الدولارات الملوثة بلا وازع من ضمير ولا إحساس بالمسؤولية ولا رادع من أخلاق وشعور بالخطر الداهم من حد السكين المصلتة على رقبة كل فلسطيني وعربي. وفي المقابل هناك شرود عن خط الانتفاضة الأول وفوضى في استخدام البندقية والبارود من حيث التنظيم والتوقيت والأهداف والحسابات الداخلية والخارجية بدلاً من توحيد السلاح الفلسطيني وتوجيهه الوجهة الصحيحة وخوض معركة كرّ وفرّ ضمن حسابات دقيقة ووفق استراتيجية واضحة تضع المصالح الوطنية الفلسطينية فوق أية مصلحة أو حسابات أو سياسات ومزاجات فقد بدأت الانتفاضة المباركة قوية زاهية تحظى بتأييد العالم كله وتثير هواجس الاسرائيليين ثم تحولت الى انتفاضات مبعثرة تبني استراتيجيتها على ردود الفعل وتتغذى من أصداء عمليات ودوي تفجيرات تحصد الأرواح ثم تنعكس سلباً على الفلسطينيين وحياة أولادهم ومصير قضيتهم وتسحب بساط الشرعية الدولية عنها وتحاول إلصاق تهمة الإرهاب بكل من يدافع عنها. واللافت خلال الأيام القليلة الماضية ان عمليات المقاومة قد صححت مسارها فركزت على العسكريين الصهاينة ومواقعهم وآلياتهم وعلى المستعمرات الاستيطانية وهذا حق مشروع يعترف به العالم كله طالما انه موجه الى قوات الاحتلال الغاشم. ولا شك في أن استمرار هذا النهج وتوحيد وجهة البندقية الفلسطينية سيعطي الفلسطينيين دفعة الى الأمام ويعيد إليهم الأمل باستعادة حقوقهم ويقلب الطاولة في وجه شارون وعصابته الليكودية المتطرفة ويحول"أيام ندمه"الى صدره ليندم على الساعة التي أطلق حملته الوحشية ضد الشعب الفلسطيني كما حول"جهنمه"الذي بدأ بها عهده غير الميمون الى صدر اسرائيل، وكما حول"عناقيد الغضب"ضد لبنان من قبل الى صدر اسرائيل التي حصدت العار في قانا والى شيمون بيريز الذي سقط مع حكومته شر سقطة. فما يخطط له شارون اليوم، وما أعلن عنه بصفاقة هو رأس الدولة الفلسطينية المستقلة بحيث يتم تنحيتها وسحبها من التداول ووقف مسيرة السلام بكل فصولها من أوسلو الى"خريطة الطريق"مروراً بمشاريع وخطط تينيت وطابا وميتشيل وغيرها لقاء ثمن بخس تباع به قضية فلسطين كاملة ويتمثل في وعد ملغوم بالانسحاب من قطاع غزة بعد تدميره ونسف البنى التحتية وزرع بذور الفتن والفوضى والدمار فيه، والتمهيد لحرب أهلية تأكل ما تبقى فيه من أخضر ويابس وهو يظن أننا لا نعرف أن اسرائيل كانت تعمل على الدوام وعلى امتداد عهودها على التخلص من أعباء غزة ومتاعبها. وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء الراحل اسحق رابين الذي قال انه يتمنى أن يصحو يوماً من النوم ويرى غزة غارقة في البحر. ويرد شارون أيضاً، هدية غالية على قلبه وهي رأس الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بقتله أو بترحيله أو بتنحيه بإرادته أو بتحريض من بعض الطامعين والطامحين والموعودين بالعرش الوهمي. فشارون الحاقد له"ثارات"قديمة ضد عرفات منذ غزو لبنان صيف عام 2891 فقد كان يحلم بأسره أو قتله لكنه خرج من باب مرفأ بيروت ليعود اليه من نافذة مرفأ غزة ويتمدد الى رام الله محفوفاً بشرعية دولية وعربية وشعبية فلسطينية. ويردد عدد من المسؤولين الاسرائيليين روايات مضحكة عن"كابوس عرفات"في رأس شارون وهو سه الجنوني في القضاء عليه كشخص يكرهه وكرمز للشعب الفلسطيني ولقضيته منذ أربعين عاماً. وعلى رغم كل المآخذ على الرئيس عرفات وإدارته للأمور، لا سيما خلال السنوات الماضية فإنه يجب على الجميع العمل على عدم تقديم هذه الهدية لشارون وتركه يحترق بنار حقده وهواجسه لا سيما في هذه المرحلة بالذات حيث تمر القضية الفلسطينية بمنعطف خطير وتهديدات جدية فيما يمر شارون وحكومته بمأزق حقيقي متعدد الجوانب مثل كلفة حملته الباهظة وانقسام القوى والاحزاب والرأي العام الاسرائيلي وتهديدات المتطرفين بقتله إذا نفذ خطته للانسحاب من غزة وإخلاء بعض مستوطناتها مما يذكرنا بمقولة"ما بظالم إلا ويبلى بأظلم"والدعاء بأن يتحول كيده الى نحره ونحر كل ظالم. فتنحي عرفات ربما كان مطلوباً من قبل، أي في بدايات الحصار، بحيث يتحول الى رمز ومرجعية وحكم وبعد أن يحرج اسرائيل والولاياتالمتحدة في عهد ادارة بوش ويسحب البساط من تحت أقدامهم وينزع أوراق المطالبة برحيله بعد أن يجري انتخابات عامة تنبثق منها حكومة شرعية منتخبة تمثل جميع أطياف وأطراف الشعب الفلسطيني وتحارب الفساد والمفسدين. لكن عرفات فوت على نفسه فرصة تاريخية نادرة وأضاع على الفلسطينيين آمال الخروج من هذا النفق المظلم بعرقلته خطط الاصلاح وتمسكه بأسلوب عمل لم يعد صالحاً، وسياسة أثبتت فشلها وسوء تقديرها للمتغيرات وحسابات المرحلة لا سيما بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن التي ضربت القضية الفلسطينية في الصميم وأعطت الصهاينة ورقة قوية لضربها وإلصاق تهمة الإرهاب بالمقاومة الفلسطينية. أما ما ردده عرفات من أنه راغب في التنحي ليصبح مثل الزعيم مانديلا... و"لكن"بعد قيام الدولة الفلسطينية وانتخابه رئيساً لها ليقدم استقالته ويسلم الراية. فقد فسر بأنه نكتة من نكاته الشهيرة كإعلان يفتقر الى الصدقية ووعد وهمي على طريقة المثل"عالوعد يا كمون"أو في"المشمش"!! فالمخطط الشاروني ماض في طريقه ويسابق الزمن لحصد"الرأسين"بأسرع وقت ممكن وقبل فوات الأوان: رأس القضية الفلسطينية ورأس الرئيس الفلسطيني وتنحية مشروع الدولة المستقلة الى زاوية النسيان. وستكون الأيام المقبلة أكثر صعوبة وأشد ضراوة خلال فترة الفراغ الحاصل في الولاياتالمتحدة من الآن وحتى حسم الأمور في معركة الرئاسة الأميركية بسبب تسابق الرئيس جورج بوش ومنافسه الديموقراطي جون كيري على كسب ودّ إسرائيل والحصول على أكبر دعم من اللوبي الصهيوني الذي يلعب على الحبلين. وبكل أسف فقد تعودنا أن تبقى قضايانا وعلى رأسها قضية فلسطين رهينة في يد الآخرين تتقاذفها أمواج الانتخابات الأميركية تارة والانتخابات الاسرائيلية تارة أخرى وسط خنوع عربي وانتظار دائم لغودو الذي لن يأتي أبداً حاملاً، كما نحلم، الحلول السحرية والسلام المنشود فلا خير في الجمهوريين أو الديموقراطيين ولا أمل في الليكود أو في العمل، ولا نظنن أن كيري سيكون أفضل من بوش لأنه كشف عن نياته سلفاً وعبر عن مشاعره الحقيقية مع اسرائيل وضد العرب. وإذا كان هناك من بصيص فيكمن في أن بوش قد يحاول تقديم مبادرة ما في فترة رئاسته الثانية لأنه لن يكون مقيداً كمنافسه في طموح التمديد مرة أخرى والرضوخ لإرادة اللوبي الصهيوني؟ فصحيح ان بوش كان عدائياً منذ يومه الأول في البيت الأبيض ووقف مع اسرائيل في كل جرائمها وعملياتها العدوانية ووصف شارون برجل السلام ورفض التعامل مع عرفات وأيد عزله إلا أنه أول رئيس أميركي أعلن صراحة تأييد قيام دولة فلسطينية مستقلة. ولو أراد بوش، إذا عاد بولاية ثانية، أو رغب كيري في حال فوزه في حماية مصالح الولاياتالمتحدة ودخول التاريخ من أبوابه الواسعة فإن الخيار الوحيد المتاح أمام الفائز هو وقف نزيف الدم ونزع فتيل تفجيرات الإرهاب الذي يهدد الأمن العالمي وتقديم مبادرة عادلة لإحلال السلام ووضع آلية تنفيذ عملية لها وفق قرارات الشرعية الدولية حتى ولو اضطر الأمر لفرضها بالقوة. أما البديل فهو المزيد من العنف والدمار والتهديد للأمن العالمي والفوضى وعدم الاستقرار وإطلاق يد الإرهاب ودفع العرب دفعاً الى طريق لن يدفعوا وحدهم ثمن أخطاره وحرائقه. وما تفجيرات طابا الأخيرة سوى عينة من عينات ما يمكن أن تحمل إلينا الأيام المقبلة. فاليأس يدفع الناس لركوب موجة الخطر مهما كانت نتائجه، والظلم يحملهم على الانتفاض على الواقع، وطعم الظلم لا يعرف حجم مرارته إلا من تذوقه. وجرائم اسرائيل وآخرها تفريغ رصاصات الإجرام في جسدها الطاهر الطري، لم يعد بإمكان أحد أن يسكت عنها لأن السكوت صار فوق كل قدرات الاحتمال... ولا بد من أن يدرك الاسرائيليون الآن وقبل فوات الأوان أن شارون وعصابته يقودونهم الى الانتحار. وعندما يعم الظلم سينقلب السحر على الساحر ويتذوق الاسرائيليون طعم مرارته... و"طابخ السم آكله". * كاتب وصحافي عربي.