تشن تل ابيب هذه الأيام حملة ديبلوماسية واعلامية غير مسبوقة ضد السلطة الفلسطينية ورئيسها الذي تتهمه بإدارة الارهاب وتنظيمه ضد اسرائيل، وتعمل على تعبئة الرأي العام بأن ياسر عرفات تحول الى خطر على أمن اسرائيل وأمن الشرق الأوسط كله. فهل هذه الحملة عابرة، أغراضها تكتيكية هدفها ابتزاز القيادة الفلسطينية لانتزاع تنازلات سياسية، أم أنها فصل في مشروع خطير يبيته ارييل شارون ضد السلطة الفلسطينية وقيادتها وضد السلام مع العرب؟ في سياق فهم أهداف هذه الحملة وابعادها من المفيد مراجعة واقعتين من وقائع الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي الكثيرة: في الأولى، هيأت القيادة الاسرائيلية الرأي العام الاسرائيلي للحرب، وفي الثانية هيأته للسلام. في تموز يوليو 1981 وقع ما اصطلح على تسميته حرب المدفعية بين قوات منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان والقوات الاسرائيلية. في حينه قصفت القوات الفلسطينية بالصواريخ والمدافع الثقيلة مدينة نهاريا ومواقع عسكرية ومدنية اخرى، في وقت كان مناحيم بيغن رئيس وزراء اسرائيل السابق يتفقد مدن وقرى شمال اسرائيل. واضطر بيغن للنزول الى أحد الملاجئ، حيث أطلق تصريحاً توعد فيه القيادة الفلسطينية قائلاً: "سيدفع المخربون الثمن غالياً، وسأجعل الطير يقف على رؤوس قياداتهم". وشنت وسائل الاعلام الاسرائيلية حملة قوية، دامت فترة طويلة، ضد الارهاب الفلسطيني وخطر التمدد الشيوعي في المنطقة بواسطة منظمة التحرير والمنظمات "التخريبية" الأخرى ربيبة الشيوعية خليفة موسكو. وقبل حلول ساعة الصفر التي حددها الجيش الاسرائيلي لبدء الهجوم على لبنان مطلع حزيران 1982 كان الرأي العام في اسرائيل والعالم قد أغرق تماماً بالدعاية وأشبع بالصور والتحليلات التي تؤكد ضلوع منظمة التحرير في الارهاب الدولي. واقتنع كثيرون بأهمية ان تقوم اسرائيل باجتثاث بؤرة الارهاب الدولي من لبنان وتدمير المنظمة حامية حماه. ففي يوم 3 حزيران 1982 تعرض السفير الاسرائيلي في لندن لمحاولة اغتيال، وفور وقوع الحادث حمّل بيغن قيادة منظمة التحرير مسؤولية الحادث، ولم ينتظر نتائج تحقيق الشرطة البريطانية. وعلى رغم ادانة منظمة التحرير الحادث ونفي مسؤوليتها عنه أعلن بيغن "نفاد صبر اسرائيل على المخربين القتلة". بعد 48 ساعة بدأت اسرائيل عملية غزو لبنان وحملت اسم "سلامة الجليل". وبينت التحقيقات البريطانية لاحقاً ان جهاز ال"موساد" الاسرائيلي كان ضالعاً في العملية من خلال اختراقه احدى المنظمات الفلسطينية. في الواقعة الثانية، أطنب الاعلام الاسرائيلي بعد اتفاق اوسلو في ايلول سبتمبر 1993، في الحديث عن ياسر عرفات كرجل سلام، وعمل جاهداً على تجميل صورة عرفات، ولم تتأخر وسائل الاعلام الاميركية، المعروفة بولائها لاسرائيل والممولة من منظمة ايباك واللوبي الصهيوني، في الانضمام للحملة. وتحوّل أبو عمار خلال اسبوع، بقدرة قادر، من قاتل وارهابي خطير... الى حمامة سلام وديعة تعبت وهي تبني عش السلام لسعادة شعوب الشرق الأوسط. ووصل الى تونس حشد من رجال الاعلام من اسرائيل وأوروبا واميركا، وبدأوا بالتنقيب في التاريخ السياسي لعرفات، وركزوا جهدهم على استخراج ما يمت للسلام بصلة، وأهملوا ما له علاقة بتاريخه العسكري. ولم يتردد بعض الصحافيين المرموقين عن القول صراحة بأن تعليمات رئيس التحرير تقضي بتجميل صورة عرفات وتنظيف صورته القديمة وتقديمه للرأي العام بأنه رجل صاحب كلمة كافح من اجل السلام فترة طويلة ونجح بعد جهد في تحقيق مسعاه الانساني. ومنذ فوزه بانتخابات رئاسة الوزراء في 6 شباط فبراير الماضي بدأ شارون حملة قوية ضد الارهاب الفلسطيني، وأصر على تشكيل حكومة وحدة وطنية تتولى مكافحة الارهاب الفلسطيني. ولم يتوقف شارون عن اتهام السلطة الفلسطينية واجهزتها الامنية بالتخطيط للعمليات "التخريبية" ضد اسرائيل والمستوطنين، ولم تهدأ وسائل الاعلام الاسرائيلية في ترويج التهمة وانضمت اليها وسائل اعلام اميركية وأوروبية. واخيراً، رفع شارون مستوى التحريض واتهم عرفات شخصياً بتزعم الارهاب وتنظيمه. وعلى رغم اعلان حركتي "حماس" و"الجهاد الاسلامي" مسؤوليتهما عن معظم العمليات التي نفذت في الآونة الأخيرة داخل اسرائيل وضد المستوطنين، الا ان الحملة تصاعدت ضد السلطة وضد عرفات بالاسم. وتتركز الآن حول قادة وافراد حرسه الشخصي في "القوة 17" والمخابرات العامة والاستخبارات العسكرية المنضبطة تماماً لأمرته. وطمست وسائل الاعلام الاسرائيلية بسرعة مذهلة اعترافات المناضل الغزاوي أبو علبة سائق الباص بمسؤوليته عن دهس الجنود الاسرائيليين عند مفرق يازور، وبأنه لا ينتمي لأي تنظيم سياسي أو عسكري فلسطيني وانه خطط العملية ونفذها بمفرده انتقاماً لشهداء الانتفاضة. واستناداً الى التجربة وتاريخ شارون، أرى ان لهذه الحملة أهدافاً سياسية وأمنية تتجاوز الابتزاز السياسي وتندرج في اطار توجه عدواني يأمل شارون ان تساهم في: أولاً: قلب الحقائق وخلط الوقائع وتبرير استمرار اسرائيل في اجراءاتها العدوانية العسكرية والأمنية والاقتصادية ضد الشعب الفلسطيني وارهابه وتجويعه واظهار هذه الاجراءات وكأنها تتم في نطاق الدفاع عن النفس. ثانياً: محاولة ارهاب القيادة الفلسطينية وقادة اجهزة أمن السلطة وكوادرها وابتزازهم عبر تحميلهم كأفراد مسؤولية شخصية عن أي عمل ينفذ في الأراضي الفلسطينية يمس الجيش الاسرائيلي والمستوطنين أو يمس المدنيين الاسرائيليين وممتلكاتهم داخل اسرائيل. ثالثاً: تضليل الرأي العام في اسرائيل حول الخسائر الاقتصادية والمعنوية التي تلحق باسرائيل جراء سياستها في الأراضي الفلسطينية وردود الفعل العربية والدولية السلبية على هذه الاجراءات، واظهارها وكأنها ضريبة لا بد من دفعها مقابل ضمان أمن اسرائيل، اضافة الى تبرير استمرار حال الاستنفار وتحضير الشارع الاسرائيلي لأعمال عسكرية واسعة قد تضطر اليها، مع العمل على ابقاء حال التوتر قائمة وتحميل الفلسطينيين المسؤولية عن تسخين أجواء المنطقة، واستدراج ضغوط سياسية واقتصادية دولية واقليمية وتوجيهها ضد السلطة الفلسطينية. رابعاً: تضليل الرأي العام العالمي بشأن مسؤولية اسرائيل عن توقف عملية السلام على المسار الفلسطيني، وتبرير رفض حكومة شارون استئناف المفاوضات من حيث توقفت في عهد باراك. وابتزاز القيادة الفلسطينية واجبارها على قبول شروط شارون الأمنية والسياسية لاستئنافها، ودفع الراعي الاميركي ودول أوروبا لمساندة هذه الشروط، واظهارها انها السبيل الوحيد لإنهاء حال التوتر القائمة في المنطقة، ومنع تفاقم الأوضاع داخل الاراضي الفلسطينية نحو الأسوأ. وعرض شارون على القيادة الفلسطينية، قبل توجهه الى واشنطن، عبر وسطاء صفقة تتضمن تعهد اسرائيل رسمياً بتجميد التوسع في الاستيطان بصورة علنية، ورفع الطوق الأمني والحصار الاقتصادي المضروبين حول المناطق الفلسطينية، والعمل بالتعاون مع أوروبا والبنك الدولي على انعاش الاقتصاد الفلسطيني بسرعة وبكل السبل المتاحة، واستئناف المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية للبحث في قضايا المرحلة الانتقالية وقضايا الحل النهائي، مقابل التزام القيادة الفلسطينية علناً، بالصوت والصورة، بوقف كل اشكال العنف، أي وقف الانتفاضة، ومحاربة الارهاب، واحياء التنسيق الأمني الفلسطيني المشترك وضمان أمن المستوطنين ومستوطناتهم، قبل الجلوس الى طاولة المفاوضات. الى ذلك، لم تتفاعل القيادة الفلسطينية مع الصفقة المعروضة واعتبرتها تراجعاً عن تفاهمات واتفاقات تم التوصل اليها في عهد الحكومات الاسرائيلية السابقة، ورأت ان فيها ابتزازاً مفضوحاً هدفه استبدال قاعدة الأرض مقابل السلام التي بنيت عليها عملية السلام بقاعدة جديدة قوامها العمل والخبز والدواء مقابل الأمن! ورفض أبو عمار منح شارون مكافأة وطالب الوسطاء ببذل جهودهم لرفع الطوق والحصار المضروب على الشعب الفلسطيني ووقف عمليات القتل والعقاب الجماعي التي يتفنن قادة اجهزة الأمن الاسرائيلية في ممارستها، قبل الحديث عن استئناف المفاوضات. وعلى رغم الجواب السلبي الذي تلقاه شارون من القيادة الفلسطينية فقد آثر ترك المجال مفتوحاً أمام الرسل والوسطاء وحضهم على متابعة جهودهم لاقناع عرفات بقبول عرضه السخي. وأظن ان هذه الصفقة والموقف الفلسطيني منها حملهما شارون الى واشنطن بأمل اقناع ادارة بوش تبني أفكاره وممارسة ضغطها على عرفات لقبولها. وبغض النظر عن نتائج محادثات شارون مع أركان الادارة الاميركية يمكن القول ان لا أفق لاستئناف المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية في وقت قريب. ومراجعة تاريخ الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي الطويل تؤكد ان تجويع الشعب الفلسطيني لا ينهي النزاع، كما ان اتهام شارون عرفات بتنظيم الارهاب ضد اسرائيل واتهام اجهزة الأمن الفلسطينية بتنفيذه، سلاح ذو حدين، سيؤدي استخدامه الى تأجيج الصراع. وتخطئ ادارة بوش ان هي استسهلت الأمر وساندت مواقف شارون وتوجهاته، فمساندة الظلم والعدوان الاسرائيلي يدفن عملية السلام الى اشعار آخر وقد يشعل حرائق كبيرة في عدة أماكن في المنطقة. ولعله من المفيد تذكير الوزير كولن باول بأن مساندة "الكسندر هيغ" وزير الخارجية الاميركي السابق شارون في العام 1982 شجعته على شن حرب واسعة ضد لبنان. * عضو المجلس الوطني الفلسطيني.