على رغم الجبروت الذي يظهر به رئيس وزراء اسرائيل آرييل شارون، وما نشر عن ارتفاع متزايد في شعبيته، فإن الوقائع والدلائل والمؤشرات وحتمية التاريخ وتجارب أسلافه المتطرفين تؤكد انه يتجه نحو الهاوية اذا لم يتدارك الأمر ويتراجع عن صلفه وعناده واستراتيجيته القائمة على الارهاب والاجرام والقتل والتدمير واغتيال القيادات الفلسطينية وتدمير البنى التحتية في مناطق السلطة الوطنية. فقد دفع شارون من قبل ثمناً فادحاً لغروره وتهوره عندما تجاوز كل الخطوط الحمر خلال غزو لبنان عام 1982 وسقط اسرائيلياً قبل ان يسقط عربياً ودولياً، وهو اليوم يسير على نفس النهج والمنوال ويخبط خبط عشواء كأنه لم يتعلم من دروس الماضي أو أنه يريد ان ينتقم للمهانة التي تعرض لها من قبل. وما يفعله شارون في فلسطين بشكل خاص وبمسيرة السلام في المنطقة بشكل عام يجعله شبيهاً بالقط الغبي الذي يلحس المبرد ويتلذذ بطعم الدم من دون ان يدرك انه يلحس دمه وبالتالي يعرض نفسه للهلاك والموت المحتوم. صحيح ان المجتمع الإسرائيلي يعيش أجواء التطرف والعنصرية والرغبة الاجرامية بقتل العرب وارهابهم والتشفي بتعذيبهم وحصارهم وقصف قراهم ومدنهم وقتل أطفالهم وخيرة شبابهم الا ان هذه النزعات المجنونة سرعان ما تنحسر عندما يدرك الإسرائيليون ان عليهم دفع اثمان باهظة لهذه السياسة الخرقاء. وصحيح ان استطلاعات الرأي بينت ان شعبية شارون ترتفع باستمرار على رغم كل ما يسببه من مآسٍ وتدهور أمني وخراب اقتصادي الا ان الأيام المقبلة ستكون كفيلة بكشف المستور واكتشاف النتائج الوخيمة الناجمة عن سياسة الحكومة الشارونية الليكودية المتطرفة والمغطاة بعباءة "العمل" التي لم تعد تخفي حقيقة سياسته العنصرية المشابهة لسياسة الليكود من حيث الشكل والجوهر والأهداف الخبيثة. فقد جاء "الجنرال" شارون على رأس حكومة الليكود - العمالية وهو يرفع شعار الأمن قبل لاسلام مزايداً على الحكومة العمالية برئاسة "الجنرال" المهزوم ايهود باراك التي رفعت شعار الأمن مقابل السلام فسقطت وأسقطت معها الشعارين معاً بسبب جبنها وتخاذلها وتحايلها على شعار "الأرض مقابل السلام" الذي قامت على أساسه مبادرة السلام الأميركية عام 1991 وتكرس في مرجعية مؤتمر مدريد. فماذا جنى شارون بعد مئة يوم على حكومته، بل وماذا سيجني حتى ولو بعد مئة عام على هذا المنوال؟ من يتابع الأحداث ويعيش على أرض الواقع يدرك جيداً ان شارون سيفشل حتماً وسينتهي كما انتهى أسلافه عندما استبدت بهم شهوة العنف والقوة والارهاب ولن يحقق بنداً واحداً من سياسته الرعناء وخططه الجهنمية. ويجمع المراقبون اليوم على أنه، وخلال فترة قياسية، حقق نجاحاً منقطع النظير في تحطيم صورته المهتزة أصلاً وفي تعريض أمن اسرائيل والمنطقة لخطر داهم وضرب مسيرة السلام واشاعة أجواء التشاؤم وخيبات الأمل والحقد والكراهية والرغبة في الثأر لدى كل الأطراف. ولن يمضي وقت طويل حتى تظهر الحقائق جلية للجميع، وأولهم "المجتمع الإسرائيلي" الغارق في أجواء العنصرية والتطرف ان شارون اضاع الأمن في غياهب سياسته وخسر السلام الذي لا يمكن ان يتحقق بالاكراه ووفق منطق القوة الغاشمة المعراة وفرض الشروط التعجيزية المرفوضة. وتكفي الاشارة الى حجم الخسائر الاسرائيلية منذ اندلاع الانتفاضة مادياً ومعنوياً اضافة الى أكثر من 72 قتيلاً وعشرات الجرحى. ولو قرأ شارون تاريخ أسلافه وبينهم عتاة الصهيونية لأدرك انه يسير نحو الهاوية، من مناحيم بيغن الإرهابي الشرس الى اسحق شامير شريكه في الارهاب والتطرف الذي "سيق مخفوراً" الى مدريد، الى اسحق رابين الذي ابتكر سياسة تكسير عظام الأطفال والشبان الفلسطينيين ورفض الاعتراف أصلاً بوجود شعب فلسطيني أو حقوق فلسطينية ثم ذهب طائعاً الى واشنطن "ليبصم" على اتفاقيات اوسلو ويصافح الرئيس ياسر عرفات. ولكن شارون على ما يبدو لم يتعظ ولن يتعظ ولو أراد ذلك لاستفاد من تجربتين قريبتين ما زالتا ماثلتين للعيان: الأولى لليكودي المتعجرف بنيامين نتانياهو والثانية للعمالي الماكر والخبيث ايهود باراك. فقد جاء نتانياهو على رأس حكومة ليكودية متطرفة تتماشى مع "مزاج" الشارع الإسرائيلي الذي اغتال رابين وأسقط خليفته شيمون بيريز حامل جائزة نوبل للسلام زوراً وبهتاناً، فذهب بعيداً في تطرفه ورفضه لتطبيق اتفاقات السلام وممارسة أشد أنواع العنف ضد الشعب الفلسطيني واعادة بناء المستوطنات وفتح النفق تحت الحرم القدسي الشريف معلناً انه يريد احياء حلم "اسرائيل الكبرى" الذي نعاه الإسرائيليون يوم انعقاد مؤتمر مدريد. ولم يكتف نتانياهو بهذه الاجراءات التعسفية بل تطاول على العالم كله، وعلى الولاياتالمتحدة بالذات عندما تمرد على سيد البيت الأبيض وهدد بإحراق واشنطن. وكانت النتيجة ان كسب عداء العالم وكشف القناع عن الوجه الصهيوني البشع وتبرأ منه أقرب المقربين في اللوبي الصهيوني في أميركا وأوروبا وعزل اسرائيل قبل ان يعزل نفسه. وأذكر انني وصفته يومها بأنه أكبر حليف للعرب وأعز صديق لأنه حقق لهم ما لم يتمكنوا من تحقيقه خلال أكثر من نصف قرن من الصراع: عداء الرأي العام العالمي والأميركي لإسرائيل، وتعاطفه مع العرب والفلسطينيين، وتوفير شبه اجماع عالمي على مواجهة الاجراءات الإسرائيلية، وإحداث شرخ هائل في المجتمع الإسرائيلي ادى الى اسقاط نتانياهو سقوطاً ذريعاً من دون ان يترحم عليه أحد أو يرحمه من سكاكين التعليقات اللاذعة. اما التجربة الثانية فقد خاضها باراك بخبثه الذي حاول تحسين صورة اسرائيل في العالم واصلاح الدمار الهائل الذي تسبب به نتانياهو عبر الادعاء بأنه رجل سلام الا ان كذبه لم ينطل على أحد بعد ان ناور ولعب على الحبال وعلى الكلام... والسلام الى ان سقط سقوطاً مدوياً وانزوى في غياهب التاريخ. وها هو شارون يعود ليمارس السياسات نفسها ويلجأ للأساليب نفسها جامعاً بين خطايا نتانياهو وباراك في سلة واحدة: عنف وتسلط ورفض ومطامع وتهديد ووعيد ومشاريع استعمارية استيطانية جديدة واعداد مخططات جهنمية من بينها التلويح بترحيل آخر للفلسطينيين ونسف لمسيرة السلام من أساسها مع محاولة الادعاء بالرغبة في تحقيق السلام بعد "الأمن" ولكن وفق حلول جزئية تنفذ على مراحل قد تمتد على مدى عشرات السنين!! ولكن حساب الحقل لن يكون أبداً وفق حساب البيدر، وسيحصد شارون قريباً ثمار سياسته الهوجاء داخلياً وخارجياً وفق مؤشرات بدأت تتجمع لترسم معالم الصورة الكاملة لنهايته الوشيكة. - داخلياً: بدأت الأصوات تتعالى، على رغم ما قيل عن نتائج الاستطلاعات، لتحذر من العواقب الوخيمة لسياسته، وهناك تعليقات كثيرة لسياسيين وخبراء وجنرالات تتحدث عن "ثور هائج" يقود اسرائيل للخراب، والمنطقة لمواجهة عسكرية مدمرة. ولا ننسى ان نتانياهو بدأ يسن سكاكينه ليعود الى الواجهة ويسقط شارون في الانتخابات التي قد تكون أقرب مما هو متوقع. كما ان عملية اقتحام بيت حانون احدثت شرخاً بين شارون وجنرالات الجيش، اضافة الى خلافات بدأت تطفو على السطح حول عدد من القضايا من بينها تجاوز التقارير العسكرية والسياسات الخاطئة التي قد تؤدي الى نشوب حرب يعتقد الخبراء انها لن تكون لمصلحة اسرائيل على المدى البعيد على رغم كل ما تملكه من قوة عسكرية وتفوق تكنولوجي. - خارجياً: تجمعت أخيراً وقائع كثيرة تثبت فشل سياسة شارون وحدوث تململ ومخاوف من نتائجها الوخيمة، فالولاياتالمتحدة في بداية عهد الرئيس جورج بوش بدأت تتخلى عن سياستها المعلنة بعدم التدخل المباشر في مجريات الأمور في المنطقة وعادت لتلقي بثقلها لرسم خطوط حمر يجب على اسرائيل عدم تخطيها كما حدث عندما اقتحمت قوات الاحتلال بيت حانون فتدخلت الادارة الأميركية بشدة وحسم لإجبارها على الانسحاب وكشرت عن انيابها فجأة لتحذر شارون من التمادي في غيه لدرجة ان صحيفة "يديعوت احرونوت" كشفت النقاب عن ان شارون بدأ يحسب ألف حساب لموقف الولاياتالمتحدة بعد اتصالات بوش المباشرة معه وتهديدات "الجنرال" كولن باول وزير الخارجية لشارون من تكرار ما فعله أي "ان يقول لنا شيئاً ويقوم بأشياء أخرى". في المقابل دلت المواقف الأوروبية، خصوصاً الفرنسية والتهديد بفرض عقوبات على اسرائيل، ومواقف روسيا، الى ان شارون لن يستطيع الذهاب بعيداً في الاستخفاف بالعالم. وتزامن التنديد باستخدام اسرائيل القوة المفرطة خصوصاً بعد اغارتها على موقع الرادار السوري في لبنان مع أول ادانة من نوعها تصدر عن الأممالمتحدة للخروقات الإسرائيلية المتكررة لقرار مجلس الأمن الرقم 425 وللخط الأزرق بين لبنان واسرائيل. أما على صعيد الشارع العربي والمشاعر العربية فحدث عنه ولا حرج بعد سنوات من انتظار ثمار مسيرة السلام والآمال التي علقت عليها فإذا هي تنقلب الى خيبات أمل ونقمة نتيجة للممارسات الاسرائيلية الوحشية والمهينة للعرب وللحق وللشرعية الدولية. لقد أضاع الاسرائيليون كل الفرص المتاحة لهم للعيش بسلام واستقرار ودمروا مسيرة السلام بضربات متتالية وجهتها الحكومات المتعاقبة التي استهلكت 6 رؤساء خلال عشر سنوات، والحبل على الجرار بالنسبة لشارون وكل من ينهج نهجه ويسير على دربه الشائك. والأهم من كل ذلك ان السياسة الإسرائيلية الهوجاء داست بأقدامها الهمجية على غصن الزيتون الذي قدمه العرب في مدريد وبعده بكل صدق ورغبة حقيقية في السلام، بل كانت هناك أجواء مهيأة للتطبيع وفتح صفحة جديدة... ولكن اليد العربية الممتدة للسلام تعرضت للطعن والضرب والمهانة من قبل قادة اسرائيل وآخرهم شارون. وسيدرك هؤلاء ومعهم كل اسرائيلي ان العرب لن يكونوا وحدهم يوم الحساب، والثمن سيكون فادحاً بالنسبة لإسرائيل قبل العرب إذا ساد التطرف في الاتجاهين. فهل يدرك الإسرائيليون قبل فوات الأوان هذه الحقيقة ويعملون على تجنب المخاطر القادمة من جراء سياسات شارون وأمثاله الذين أضاعوا الأمن وخسروا السلام. * كاتب وصحافي عربي.