هناك انطباع عام بأن ثورات الأجيال وصراعاتها، في سنوات الستين من القرن العشرين، والتي وصلت الى ذروتها مع أحداث أيار مايو الطلابية في فرنسا، ولدت في شكل مباغت ومن رحم حداثة فكرية أتت كنتيجة لانهيار انماط معينة من الايديولوجيات، وبداية هيمنة التكنولوجيا على الحياة الغربية، ما محى الثورة الصناعية وآثارها. ومن المعروف ان هذه الثورة الصناعية التي ولدت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت هي محرك الوعي الطبقي الذي كان بدوره واحداً من أسس ايديولوجيات التقدم وعلى رأسها الماركسية الاشتراكية في ذلك الحين. كل ما سبق كان انطباعاً عاماً لا يخلو من الصحة، لكنه في الوقت نفسه لم يكن دقيقاً كل الدقة. ذلك اننا إذا ما تفحصنا الأمور عن قرب أكثر، يمكننا أن نرى أن تمرد الشبيبة، انما يجد جذوره المباشرة في النتائج التي تمخضت عنها الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من حرب باردة قسمت العالم معسكرات، لتضعه من جديد أمام احتمالات دمارات مقبلة. وكان من الواضح ان الشبيبة التي اكتوت بنار الحرب العالمية الثانية، موجهة أصابع الاتهام الى أجيال الآباء بأنهم بسياساتهم الخرقاء وتواطئهم الصامت أحياناً، المشارك في أحيان أخرى، كانوا هم الذين أوصلوا البشرية الى المذابح والى الآفاق المسدودة التي ألغت كل حماسة وعطلت كل بوصلة. محط الغضب في خمسينات وستينات القرن العشرين كان إذاً، الماضي نفسه بكل من وما يمثله. ولما كان الآباء والعائلة وقيم البورجوازية هم، معاً، من يمثل هذا الماضي، لم يكن غريباً أن يكون واحد من أهم شعارات ثورات الطلاب: "اهرب يا رفيقي... ان الماضي يطاردك". والحال ان هذا الشعار انما كان يجد جذوره في العنوان/ الرمز، لمسرحية انكليزية، كانت هي التي أعلنت منذ أواسط سنوات الخمسين، مجيء تلك الثورة الشبابية المندفعة ضد الماضي أكثر من اندفاعها ضد أية سلطة أو ضد أية ايديولوجية. وهذه المسرحية هي "انظر الى الوراء بغضب" للكاتب الانكليزي جون اوزبورن. ظهرت "انظر الى الوراء بغضب" للمرة الأولى في العام 1956، وقدمت على خشبة "رويال كورت" اللندنية، قبل أن تتحول بسرعة الى رمز وشعار. بل قبل أن تصبح الخطوة الأولى في انبناء تيار مسرحي انكليزي سرعان ما عمت أعماله العالم وصار علماً على ثورة أجيال مرتبطة جذرياً وواقعياً بما كان يحدث في قلب المجتمعات المتطورة، في العالمين، الرأسمالي والاشتراكي في آن معاً. ومن هنا يرى مؤرخو المسرح في القرن العشرين أن ليلة 8 أيار مايو 1956، التي قدم فيها العرض الأول ل"انظر الى الوراء بغضب" تسجل البداية الحقيقية للحداثة المسرحية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وخصوصاً في مجال المسرح الواقعي الفعال، إذا ما اعتبرنا تقديم "في انتظار غودو" للايرلندي صمويل بيكيت، بداية الحداثة المسرحية الرمزية والعبثية، علماً بأن التيارين سرعان ما ترعرعا بتواكب غريب خلال الحقب التالية. ولكن في الوقت الذي دنا فيه مسرح الغضب الواقعي من القضايا الاجتماعية، ظل هم المسرح الرمزي العبثي محصوراً في الهموم الفلسفية والميتافيزيقية. قبل أن تقدم مسرحيته الأولى هذه على خشبة "رويال كورت"، كان كاتبها جون اوزبورن ممثلاً في فرقة "رويال كورت" نفسها، منذ العام 1948... ولم يكن في ماضيه كممثل ما يشير الى انه سوف يصبح عما قريب زعيماً لما سمي لاحقاً "مسرح الغضب" بالاستناد الى عنوان مسرحيته الأولى. لكن الرجل، الذي عند ذاك بالكاد تجاوز العشرين من عمره، كان حالة خاصة في تحدره من الطبقة العاملة وفي توجهه نحو النشاط السياسي على يسار حزب العمال. ومن هنا لم يكن غريباً، أن يتسم تأليفه المسرحي منذ البداية بطابع سياسي واضح، يلوح من خلال الموضوع الاجتماعي الذي قاربه. الشخصية المحورية في "انظر الى الوراء بغضب" هي شخصية جيمي بورتر، الشاب الغاضب الذي كان تخرج من جامعة في ميدلاندز تعيش على معونات تأتيها من الدولة، ما يعني انها جامعة لأبناء الطبقات البائسة في المجتمع. ومنذ بداية المسرحية يطالعنا جيمي بورتر شخصاً غاضباً لا يتوقف عن اعلان ضجره وكراهيته لمجتمع "لم تعد لديه أية قضايا جادة وحقيقية يدافع عنها". وإذ لا يجد جيمي بورتر مكاناً يعبر فيه عن غضبه، نجده يفرغ كل كراهيته للمجتمع الذي يعيش فيه على زوجته الطيبة اليسون. صحيح أن هذا كله يجعل حياة اليسون مع جيمي حياة مستحيلة لا تحتمل، لكن اليسون تجابه ذلك كله بأسلوب لا تحيد عنه أبداً: أسلوب يقوم في رفضها الدائم لابداء أي رد فعل ازاء ما تتعرض له من زوجها. وتتفاقم الأمور حين تجد اليسون نفسها، ذات يوم، حاملاً ما يثير حنق جيمي الذي لا يريد أن يمد المجتمع بذرية لا يعطيها هذا المجتمع شيئاً. واذ يزداد غضب جيمي وشراسته تأتي صديقة لأليسون وتقنعها بالرحيل. وإذ يلتقي جيمي بهذه الصديقة على ضوء هذا الموقف الجديد، يقيم معها علاقة يفرغ فيها كل موقفه السلبي من المجتمع وقيمه. أما اليسون فإنها سرعان ما تجهض الطفل الذي حملت به. وهي بهذا الاجهاض تستكمل الألم الذي يبرح بها والذي يراه جيمي ضرورياً لانسانيتها! وأمام هذا الألم الذي تعيش اليسون فيه، قبل أن ينضم جيمي اليها فيه بدوره، تحدث مصالحة بين الاثنين وسط عالم غرائبي صنعاه معاً، من خيالهما... عالم يعيشان فيه بعد أن "يطردا" خارجه صديقه اليسون، كما يستبعدان منه كليف، الجار الطيب الذي لا يتوقف عن حماية اليسون من هجمات جيمي عليها، وكذلك رد فرن، والد اليسون، ذو الأخلاق الادواردية المهذبة، والذي يقدم الينا هنا على أنه آخر الممثلين المهذبين لعالم لم يعد يبدو فيه أية فسحة لأمل. لقد تفجرت هذه المسرحية، حين عرضت للمرة الأولى، مثل مرآة وضعها جون اوزبورن أمام أعين المجتمع البريطاني كاشفاً له حقائقه في ذلك الحين. بيد ان ما يجدر التوقف عنده هو ان "انظر الى الوراء بغضب" التي أطلقت حركة شبان المسرح الغاضبين، لم تأت لتجدد في الشكل الفني للمسرح، حيث ان أسلوبه المسرحي يبدو كلاسيكياً وينتمي الى المسرح الاجتماعي كما ساد في القرن التاسع عشر. كان اوزبورن مجدداً في المضمون بالأحرى، كذلك كان حال أعمال زملائه "الغاضبين" من الذين، مثله، عرفوا كيف يستخدمون الشكل التقليدي للتعبير من خلاله عن تفتت المجتمع وخيبة الأمل في أي عمل جماعي والاستلاب والغضب لدى جيل شبان ما بعد الحرب. واللافت هنا هو أن ظهور ذلك المسرح كان في زمن يحكم فيه حزب العمال في بريطانيا، من دون أن يبدل في واقع الحياة الاجتماعية شيئاً، في ظل اختفاء غامض لكل ايمان ادواردي بالتقدم. ولد جون اوزبورن في العام 1929. وهو من بعد النجاح الكبير الذي حققته "انظر الى الوراء في غضب" والتي حولت الى فيلم سينمائي كان من أبرز انتاجات تيار "السينما الحرة" البريطانية لاحقاً، كتب مسرحيات كثيرة، جعلته علماً من معالم المسرح الحديث. ومن أبرز تلك المسرحيات "شاهدة لقبر جورج ديلون" 1958، و"عالم بول شيكي" 1959، و"لوتر" 1961 و"دم آل بامبرغز" وغيرها...