الكتاب الذي كتبه عبدالرحمن بسيسو بعنوان "قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر"، تحليل الظاهرة، وصدر العام 1999 بطبعته الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، هو الأشمل والأعمق والأكثر تنسيقاً ومنهجية، بين عشرات الكتب التي تناولت ظاهرة القناع في الشعر العربي الحديث، وكان الرائد فيها إحسان عباس في كتابه "اتجاهات الشعر العربي المعاصر" الصادر في طبعته الأولى العام 1978 في سلسلة عالم المعرفة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب / الكويت... أما آخر ما صدر في هذا الموضوع فهو كتاب عبدالله أبو هيف بعنوان "قناع المتنبي في الشعر العربي الحديث" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2004. وأسباب تميّز كتاب بسيسو عن سواه من الكتب، يعود لأسباب عدة من بينها إزالة الخلط الحاصل في الدراسات الأدبية والنقدية بين القناع، على تعدد تجلياته النصية وقصائده، وبين مصطلحات وقصائد أخرى، كما يقول، من بينها الرمز والاستعارة، والطوطم، والروح... الخ، ما جعله يمحّص ويغربل الافتراضات المستعملة في النقد، الغربي والعربي، للوصول الى مصطلحات وفرضيات خاصة به تحمل سَمْتَه وعلامات جهده التحليلي الواسع. يضاف الى ذلك المنهج الذي اتبعه بسيسو في حفرياته المعرفية حول قصيدة القناع، سواء في أبحاث القناع أو في قصائد القناع، وهو ما نسميه تأصيل البحث... وصولاً الى تأصيل المفهوم. لقد بدأ بسيسو بريادة حفريات قديمة حول القناع تعود للعصور الطوطمية وسيادة السحر في الثقافات البدائية، مروراً بدخول القناع كعنصر من عناصر المسرح القديم، وصولاً الى دخول القناع في تشكيل أو صنع قصائد حديثة، كان الغرب سباقاً إليها من خلال قصائد الMask أو الPersona ومعناهما القناع، لدى كل من ييتس وعزرا باوند وإليوت، حيث كان عزرا باوند أطلق في العام 1914 مصطلح Persona للدلالة على الشخصية الشعرية والقناع في آن معاً، وكان قبله الشاعر الايرلندي وليم بتلر ييتس المتوفى العام 1939 اختار مصطلح Mask للدلالة على الشاعر حين يتكلم من خلال قناع... وصولاً الى إليوت الذي أطلق أصوات الشعر الثلاثة ومن بينها الصوت الدرامي Persona الذي تأثر فيه إليوت بالمذهب الأرسطي ومفهومه للمأساة حيث يعتبر المتكلّم هو الحدث لا الشخص... وحين يصل بسيسو الى قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر، فإنه يتبع منهجاً زمنياً إحصائياً لتثبيت مصادر بحثه... معتبراً قصيدة بدر شاكر السياب "المسيح بعد الصلب" التي كتبها الشاعر العام 1957 ونشرها في ديوان العام 1960 هي أولى قصائد القناع في الشعر العربي الحديث... هذه القصيدة الرائدة يماثلها بحث رائد لإحسان عباس قدمه في الستينات من القرن الفائت حيث تكلم على "الرمز الكبير" كرديف للقناع. آخر قصيدة من قصائد القناع عالجها بسيسو في كتابه هي قصيدة محمود درويش "أنا يوسف يا أبي" الصادرة العام 1986. فالمادة الشعرية للباحث تشمل القصائد والدواوين الصادرة بين 1957 و1986... وهي تتناول خمسين شاعراً وثلاثمئة ديوان... أبرزهم السياب والبياتي وأدونيس والخال وحاوي وعبدالصبور والقاسم وبسيسو والمناصرة ودنقل ومطر والمقالح وسعدي يوسف وحداد ودرويش. وهو إذ يكشف من خلال ثقافته المعمقة كما نرى في الجداول والاحصائيات الغنية الواردة في الكتاب والتي لا يتسع المجال هنا لاختصارها، طرفاً من الأقنعة القديمة، يشير الى أحدها في الإلياذة لهوميروس حيث يتقمص "أوليسيز" ملك إيثاكا هوية فلاح مجنون يحرث شاطئ البحر ثم يحرث البحر ذاته ويقول: "أزرع ملحاً وأحصد سمكاً... ها ها... لا لا، سأحصد باذنجاناً"... وفي الإلياذة اشتغال دائم على مبدأ التقمص والتحولات... فالتقمص والتحولات جزء من مفهوم قديم للقناع... مفهوم مرتبط بالسحر وحلول الأرواح في الجسد البشري والتكلم من خلال القناع بلسانها، وتبادل الأدوار بين الأرواح أو الآلهة والبشر... ذلك ما يراه المفكر ريناخ، إذ يعتبر القناع جزءاً من نظرية الأرواح... وليس بعيداً منها النظر الى الديمون Dژmon كمطرح للسحر... وللرقصات الدينية أو السحرية بالأقنعة، فالقناع مربوط أصلاً وتاريخياً بالسري والمقدس والنفسي المخيف أو المسيطر فرويد، وتداول القناع أو صناعته لم يكن أمراً مباحاً بل هو عمل سرّي وضعت له قواعد وشروط مبكرة. من المرحلة الإحيائية أو الطوطمية الى المرحلة المسرحية الى المرحلة الفنية الإبداعية مرّ القناع في مفاهيم ومناخات أوصلته ليكون جزءاً من تقنيات حداثة القصيدة في الغرب أولاً وفي الشعر العربي تالياً... وبسيسو إذ يستعرض أو يحلل أبرز الأقنعة الشعرية في العربية الحديثة والمعاصرة، فإنه يستعرض أيضاً ما رافق النصوص الإبداعية من دراسات نظرية تحليلية لظاهرة القناع ويشير على التوالي وبالتسلسل الزمني الى كل من إحسان عباس وعبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور باعتبار أن لكل منهما كتاباً حول تجربته الشعرية وفاضل ثامر وجبرا ابراهيم جبرا وخالدة سعيد وأنس داوود وعلي عشري زايد ومحسن أطيمش وخلدون الشمعة وجابر عصفور وأحمد كمال زكي ومحمد هدّارة وعلوي الهاشمي وصلاح فضل. ومن خلال ضربات تحليلية ونقدية محكمة في موضوع جديد على الشعر العربي وشائك، ترى الكاتب يمحّص المفاهيم وقراءتها، ليميز بين القناع والقرين والمرآة، وبين القناع التاريخي والقناع البلاغي والقناع الطبيعي... لينتهي الى خلاصة معرفية مهمة حول قصيدة القناع، فيكتب: "... إن القناع ليس مجرد صوت يُنطق القصيدة أو مجرّد غطاء لوجه الشاعر أو نسخة مطابقة للشخصية أو الكينونة التي يحمل اسمها، وإنما هو نتاج علاقة تفاعلية بين قطبين: أنا الشاعر وأناه المغاير الواحد أو المتعدد، تتم في إطار تجربة رؤيا داخلية يحكمها ديالكتيك تماهٍ يتمظهر في ديالكتيك تناصّ يتجاوب معه ويوازيه. ولأن التقنّع فكرة ديالكتيكية تغذّي عقلية مزجية وخيالاً رؤيوياً، فإن القناع التكويني يجسد حضوراً عمقياً لاثنين في ثالث هو آخر سواهما: إنه يمتصهما ويغيبهما في أغواره العميقة". ويستنتج بسيسو ما يمكن أن نسميه "فلسفة القناع" عبر التاريخ، فهو "يجسّد انتصار الانسان على العزلة، وخروج الأنا من اكتفائها الذاتي واكتشاف الشاعر التظاهر الأسمى لذاته، لعمقه التاريخي، ولهويته المتطلع اليها"... فالهوية إذاً هي تخلّق مستمر والذات لا تجد حضورها إلا بانفتاح الأنا على ذات أخرى... .... حيال دراسة واسعة وعميقة، منهجية وبيانية معاً، على غرار دراسة عبدالرحمن بسيسو، لقصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر، لا يجوز لدارس لاحق عليها إلا أن يتوقف عندها ويستفيد من منجزها البيّن. وقد استفاد عبدالله أبو هيف من هذا المنجز وسواه، استفادة طفيفة، في كتابه "قناع المتنبي في الشعر العربي الحديث"/ عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2004. والكتاب هو في حقيقته اثنان أو ثلاثة، مجموعة تحت عنوان واحد. ففي الإمكان تجزئته الى كتاب أول حول القناع في الشعر العربي الحديث، في النصوص الشعرية والنظرية، وكتاب ثان حول قناع المتنبي بخاصة في هذا الشاعر، وكتاب ثالث خاص يتناول مفهوم القناع في عملين شعريين على حدة هما: "عذابات المتنبي" للشاعر والناقد كمال أبو ديب، وكتاب "الكتاب" لأدونيس بأجزائه الثلاثة... إن فضفضة الدراسة قربتها من الكتب الأكاديمية المعدّة لطلاب الجامعة... ولعل الدكتور عبداللطيف أبو هيف بحكم ممارسته التدريس الأكاديمي تأثر بذلك... فثمة ما يشبه العرض والتوصيف لعشرات الكتب الصادرة بالعربية والتي تناولت دراسة القناع في الشعر العربي الحديث والمعاصر، وأنواع الأقنعة، والنصوص الشعرية التي تؤلف المادة المؤسسة للتحليل. نقول ثمة عرض لأفكار الباحثين، مع ملاحظات نقدية طفيفة... فالعمل هنا تجميعي أكثر مما هو نقدي. الأصول المعرفية بين بسيسو وأبي هيف متقاربة. لكن أبا هيف يضيف عليها ما استجد من كتب بالعربية حول مفهوم القناع في القصيدة، بعد العام 1986 وهي السنة التي وقف عندها بسيسو في كتابه آنف الذكر. أبرز ما صدر بحثياً وتناوله أبو هيف بالعرض وبعض النقد: "التغريب والتأصيل في الشعر العربي الحديث" لنذير العظمة العام 1999 و"الصائح المحكي" للدكتور خالد الكركي العام 1999 و"البنيات الدالة في شعر أمل دنقل" لعبدالسلام المساوي 1994 و"جدلية اللغة والحدث في الدراما الشعرية الحديثة" لوليد منير 1997 و"الشعر والشعرية" لمحمد لطفي اليوسفي العام 1992... وقد تناولها المؤلف باستعراض يسير لا بحوار جدلي نقدي إلا في ما ندر. أبرز ما صدر من شعر حول المتنبي أو مستعيراً قناعه ديوانان هما: "عذابات المتنبي" لكمال أبو ديب العام 1996 والكتاب بأجزائه الثلاثة لأدونيس ابتداء من العام 1996 يلي 1998 و2002. وهما كتابان متفاوتان في الأهمية الإبداعية تفاوتهما في التقنية الشعرية. وقد بذل الكاتب جهداً مميزاً في تناوله النقدي لعمل أبو ديب، وفي إبراز الملامح الابداعية الكلية لقناع المتنبي في عمل أدونيس، في ما هو قناع مركّب للثقافة العربية والحضارة العربية من الجاهلية حتى القرن الخامس للهجرة... ولو أن المؤلف أفرد لتحليل هذين العملين الشعريين المميزين في الشعر العربي المعاصر كتاباً على حدة... لكان ذلك أصوب وأكثر تركيزاً.