"القناع في الشعر العربي المعاصر" دراسة في الشعر العربي المعاصر وضعها الناقد الفلسطيني عبدالرحمن بسيسو في ثلاثة مجلدات، ظهر المجلد الأول منها حديثاً، تحت عنوان "قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر"، واعتبرها نقاد من أمثال صلاح فضل وجابر عصفور وعبدالمنعم تلّيمة واحدة من أخطر الدراسات النقدية التي أنجزت في العقدين الأخيرين. فهي دراسة شاملة تقع في أكثر من ألف صفحة تقصّى فيها بسيسو ظهور الأقنعة في الشعر العربي الحديث من خلال تحليل وقراءة شعر شعراء من أمثال بدر شاكر السياب وخليل حاوي وعبدالوهاب البياتي وأمل دنقل ومحمود درويش ومحمد عفيفي مطر وسميح القاسم وأدونيس وقاسم حداد وغيرهم. الكتاب صدر عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، ويقع في ثلاثة فصول، الأول حول "تأصيل المفهوم"، والثاني حول "دوافع التقنّع"، والثالث حول "تشكيل المصادر"، وفيها يقدم موضوعات دراسته تحت عناوين القناع: الروح، الطوطم، الإله - القناع في المسرح الشعري القديم - المعاني اللغوية للقناع وردائفه . وهنا يسوق قئمة من المعاني المختلفة وبفرّق ما بينها ليرسم الحدود الفاصلة بين القناع Maskوبين شخص Person وPersona. على أساس من هذا التفريق نقرأ بحوثاً ومحددات حول المنولوج الدرامي بين قصيدتي: الشخصية الشعرية والقناع، وبعد أن يدرس بسيسو مفهوم القناع وشخص عند كل من ييتس وباوند وإليوت يمضي بنا الناقد في رحلة البحث عن المقدمات الشعرية التي قادت إلى ظهور قصيدة القناع في الشعر العربي الحديث. وهو يبدأ مع قصيدة المخبر للسياب ليخالف النقاد الذين اعتبروها قصيدة قناع باعتبارها قصيدة الشخصية الشعرية، ومن ثم ليفرّق بواسطة بحث وتحديد لملامح كل من قصيدة القناع وقصيدة الشخصية الشعرية، معتبراً أن هذين نوعان شعريان . ثم يذهب إلى وضع محددات لقصيدة القناع انطلاقاً من محددين أساسيين، فهناك القناع البلاغي والقناع التكويني. ولأجل مزيد من التحديد يفرّق الباحث بين كل من العناصر التالية في القصيدة الشخصيات، والأقنعة وأصوات الشعر. وتأسيساً على محدداته يشرع الناقد في خوض غمار مناقشة مركبة ومتعددة المعالم للمساهمات النقدية والتعريفية العربية التي تطرقت إلى مسألة القناع، على سبيل نقد المفاهيم السابقة، أو الإتفاق معها، وصولاً إلى تركيز مفهوم جديد متكامل للقناع كما يراه هو. فيحلل مفهوم القناع لدى كل من النقاد الموضوعيين، والنقاد البلاغيين، وفي سيكولوجيا يونغ، وعند الشعراء والنقاد العرب. وتبرز وقفاته مع مفهوم الرمز الكبير القناع وردائفه لدى الناقد إحسان عباس، ومفهوم القناع عند البياتي، ومفهوم قصيدة القناع عند الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور، وعند الناقد فاضل ثامر، وجبرا ابراهيم جبرا وخالدة سعيد. ولا يهمل الناقد الإفادة من المصادر الجامعية كالرسائل غير المنشورة التي وضعها أنس داود، وعلي عشري زايد، ومحسن أطميش، فيقف من خلالها على النموذج الأسطوري القناع، الشخصية التراثية القناع، والقناع وقصيدته. ويناقش مفهوم قصيدة القناع وارتباطه، أو التباسه مع المنولوج الدرامي لدى الناقد السوري خلدون الشمعة الذي كان بين أوائل الذين تناولوا موضوع القناع في الشعر، وكذلك تداخل القناع، والقرين والمرآة لدى احسان عباس. ثم يقف عند مفهوم القناع لدى جابر عصفور، والقناع نموذجاً ميثوبياً لدى أحمد كمال زكي، ونموذجاً بشرياً صوفياً لدى محمد هدارة، ويقرأ الخلط بين التقنع واستدعاء الشخصيات لدى علوي الهاشمي، ويقف عند القناع الدرامي لدى فاضل ثامر، والتقنع بصفته تناصّاً في الضمير عند صلاح فضل. وإذا كان الناقد عبدالرحمن بسيسو قد أفرد الفصل الثاني بأكمله لدراسة علاقات: الشاعر والواقع، والشاعر وذاته، والشاعر والشعر، فإن الفصل الثالث الذي يبدو بمثابة القلب من هذا العمل النقدي يدرس تشكيل المصادر، وأصول الأقنعة وتراتبها وكذلك السياقات وتراتبها ودرجات الإتصال، وعدد الأقنعة لدى الشعراء الذين درس شعرهم، وتكرارها عند شاعر واحد، وكذلك عند أكثر من شاعر. ويَنْفَذ بسيسو عبر التقصي والبحث والقراءة والتحليل إلى ما يسميه بالأنا المغاير، في تجلياتها عبر الطبيعة والابداع والتاريخ. فالقناع عنده هو أنا مغايرة، أنا أخرى. وسوف نقف على هذه النقطة لاحقاً في محادثة قصيرة معه حول جملة من النقطاط الجوهرية المتصلة بعمله النقدي واستنتاجاته التي توصل إليها عبر البحث. وفي التعاقب الزمني للأنا المغايرة وأصولها المصدرية، يتدرج بسيسو في قراءتها عبر التاريخ من المرحلة الأرواحية حيث نشطت أعمال أنسنة الطبيعة، وحتى العصر الحديث، حيث نقرأ تحت عنوان إبداعات الآخر وواقع الأنا تحليلاً لقائمة الأنات المغايرة التي استدعاها الشعراء من التاريخ، أو من التراث التاريخي العربي - الإسلامي أو من النصوص الإبداعية العربية، لا سيما ألف ليلة ولية. ويلاحظ الباحث انغلاق هذه القائمة مع مطلع الربع الأخير من القرن السابع الهجري، أي الثالث عشر الميلادي، إذ "تتوقف هذه القائمة نهائياً في ما بعد هذا التاريخ، عن احتواء أسماء شخصيات تاريخية مبتدعة تعود إلى ماضي وتراث الأنا العربي، أو الأنا الإسلامي. فبعد أن تسجل فترة انقطاع زمني قدرها ثلاثة قرون، تعود القائمة إلى استكمال نفسها بالانفتاح على الآخر الأوروبي: الانكليزي، الاسباني، الفرنسي، الألماني"، وذلك من خلال الانفتاح على نصوص إبداعية مسرحية وروائية وشعرية، ويسجل بسيسو علامات أساسية في هذا الحضور ممثلة في شكسبير، وريلكة، وبودلير، ولوركا وغيرهم، ويخلص إلى صور حديثة للأنا المغايرة ممثلة في ما ذهب إليه سعدي يوسف من استلهام الواقع الشمال إفريقي لينحت قرينه في قناع حديث وذلك في قصيدته المشهورة "...الأخضر بن يوسف ومشاغله". هنا يبدو الأخضر هو القرين، الشاعر نفسه، وغيره معاً، إنه الأخضر بن سعدي يوسف ومشاغله في الشمال الأفريقي. لكن الأخضر هو الخضر أيضاً، وهو تموز / الرامز إلى الخصب، وكذلك يوسف المتواري في الجب. ناقد مغامر يحتاج كتاب بسيسو إلى مناقشة نقدية مركّزة، فكتابه ليس من تلك الكتب النقدية السهلة التي يمكن العبور عليها بيسر. إنه عمل نقدي صعب، وفيه اجتهادات رؤيوية، ونقدية، وابتكارات اصطلاحية لا يمكن قراءتها بطمأنينة، وإنما بشيء ضروري من القلق، والانتباه. إنه محرّض على العمل، على موافقته، وعلى التناقض معه أيضاً، فعمله هذا يبدو مولّداً لشرارات جمة.. وليس يكفي القاريء أن يقرأ الكتاب الأول، فهو على وفرة فصوله وتعدد الطرق المرسومة الواصلة إلى الموضوعة المركزية، يشكل المدخل النظري إلى تلك القراءات النصية الشاملة والعميقة التي نفّذها الناقد للقصائد الحديثة التي قرأها، وللتجارب الشعرية التي خاض غمار البحث فيها عن الأقنعة، من قصيدة "المسيح بعد الصلب" للسياب، وحتى "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" لأمل دنقل". من هنا يبدو لي بسيسو ناقداً مغامراً، أكثر منه أكاديمياً جافاً، فهو يقرأ النص الشعري بطريقة جمالية خلاقة تحفظ له نبضاته وخفقاته الشعرية العالية. إنه صديق النص وعاشقه وناقده معاً. وهو في بحثه مابين المرحلة الارواحية والمرحلة الحديثة، يجعلنا نقف على مغامرته الشيّقة مع النصوص الشعرية، عبوراً في ما يسميه بالمرحلة الأسطورية - الدينية، حيث يمتزج الآلهة بالبشر، والمرحلة التاريخية القديمة حيث الحقبة الجاهلية وصدر الإسلام، والعصران الأموي والعباسي. يجب أن يحسب لهذه الدراسة أنها جمعت باقتدار بين خصوبة فكر صاحبها وحسّه المرهف وبين انضباطه الأكاديمي على نحو ممتاز. وعلى رغم ما يمكن أن يختلف به معه القراء - النقاد الآخرون بصدد المساحة التي يشغلها القناع وتجلياته في الشعر الحديث، إلا أنه يقدم تشخيصاً بارعاً لموضوعه، ويدعمه بحجج مقنعة، وأسانيد قوية. إن كسل النقد العربي يجعلنا، نحن الشعراء، لا نكتفي في أن نقرأ شعر الشعراء الجدد ونقدمه، للقراء في الصحافة السّيارة، بل وأن نجد أنفسنا مضطرين إلى تقديم النقاد، أيضاً، عندما نؤخذ بما لديهم من إنجازات مهمة. هذا هو حالي مع عبدالرحمن بسيسو في كتابه الممتع والصعب معاً، والذي صدر مطلع هذا العام وما زلت لم أقرأ عنه، إلى الآن، دراسة نقدية، أو حتى مراجعة صحفية سريعة. وقد عرفتُ السبب وبطل مني العجب مجرّد أن فرغت من مطالعته. إنه كتاب صعب. وذلك كان بعض ما حملني على الاجتماع بصاحبه، وطرح بعض الأسئلة عليه حول كتابه، منها ما يتعلق بالنقطة التي أثرتها حول المقروئية وأحوالها في العالم العربي، ومنا ما يتعلق بمضمون الكتاب وطروحات صاحبه. لقاء مع المؤلف خلال لقائنا في نيقوسيا حيث يقيم بسيسو تمكنت من أن اخلص إلى أن الناقد يرى أن من حقّ القاريء على النقاد أن يمكنوه من التعرّف على أبرز ما تتضمّنه الدراسات التي يكتبون لكي يتمكّن هذا القاريء من المشاركة الخلاقة في الحوار الذي نجريه. وهذه المسألة، كما يرى الناقد، تُطرح، حقيقة، في ظل غياب أي تقديم نظري للعديد من الدراسات والأبحاث المهمة في وسائل الإعلام وقنوات الإتصال العربية مهاجرة ومقيمة، وبالتالي فإنها تجعل مهمة النقاد العرب مركّبة، وربما بالغة الصّعوبة في هذه البرهة من الزمن. والواقع أن كثيراً من الكتب التي تتضمن أبحاثاً مهمة لا يتوصّل بها إلا عدد محدود جداً من القراء. وذلك بسبب من طبيعتها كدراسات صعبة، قراؤها منتخبون انتخاباً. واستناداً إلى هذه الحقيقة، وعلى أساس من وضعية النشر في العالم العربي، يقول بسيسو: عندما أفكّر أن الناشر طبع ألفاً وخمسمائة نسخة فقط، أو حتى ثلاثة آلاف نسخة، من الكتاب الذي صرفت عشر سنوات في تأليفه، وأن في مستودعاته عدداً كبيراً من النسخ، فإنني لا أستطيع أن أؤسس لحوار مع القاريء ينطلق من حيث انتهت الدراسة. عليَّ أن أروّج، أولاً، للكتاب وما تضمّنهُ من أفكار أساسية تمهيداً لإثارة حوار يتأسس على محصلات الدراسة يباشره القراء أنفسهم، هذه المرّة، قبل أن أباشره أنا. إذ ذاك سأكون - كمؤلفٍ للكتاب - مستقبلاً لردود الفعل والآراء. وهذا يعني أن الأدوار يمكن أن تتبدّل وتكون هناك ضرورة معرفية لإقامة الحوار، أياً تكن طبيعة هذا الحوار. لكن أمرآً كهذا يبدو في هذه البرهة من حياة ثقافتنا العربية طموحاً متعذراً، ولعله بعيد المنال. والواقع أن الكتاب الذي وضعه عبدالرحمن بسيسو يحتاج إلى وقت أطول لاستيعابه. وما يطرحه من ملاحظات سلبية حول إشكالية القراءة وأوضاع المقروئية في ثقافتنا العربية. يجعلنا مطالبين في أن لا تتجاهل ضعف الإستعداد النقدي، ليس فقط لدى قطاعات عريضة من القراء، وإنما حتى لدى فئات من النخبة المثقفة نفسها؟ حوار من طرف واحد! يقول بسيسو في ملاحظة له على ما نشر حول كتابه: ما نشر هو إما تقريظٌ، أو هو مقتطف من الكتاب نفسه. لا شيء يوحي بإمكان قيام نقاش حقيقي، أو تولّد رؤى نقدية مخالفة، متعارضة، متسائلة، وهو ما كنتُ أنتظره، وقد بذلتُ أزيد من عشر سنوات من عمري لإنجاز هذه الدراسة التي وصفها البعض بأنها خطرة وضخمة ومهمة، إلخ.. غير أنني لم أتلقّ، حتى اللحظة، أي رأي يوميء إلى حقيقة إلى أن أحداً قرأ ما كتبت، أو على الأقل قرأه بعمق! ماذا فعلت؟ على رغم أن ما يلاحظه بسيسو هو في محله، إلا أن استقرار الشقّ النظري من كتابه المنشور تحت عنوان "ظاهرة القناع في الشعر العربي المعاصر" في ذهن القاريء أمر يحتاج إلى وقت أطول من ذاك الذي تحتاجه دراسات بسيطة أو أقل صعوبة وضخامة من دراسته التي بحثت تجلّيات القناع في جل النتاج الشعري العربي الحديث. وكما أعرف فإن الباحث كان يخطط لإنجاز دراسة شاملة عن قصيدة النثر في الشعر العربي. وقد أعد خطّة العمل وجمع الكثير من المصادر والمراجع الضرورية، غير أن ضعف الحساسية القرائية هو ما يجعله يتردد في الآونة الآخيرة. يقول بسيسو: أعرف أن المستقبل هو للأعمال التي تتسم بالأصالة والجدة والابتكار والتي يعتبرها أصحابها مشاريع عمر، غير أنني مهما كنت واثقاً من نفسي كباحث، إلا أنني أنتظر أن أُسأل: ماذا فعلت؟ ولعل ما أفصح لي عنه بسيسو يتناقض مع مقولة أن الشعراء عادة هم الذين يُعبّرون عن إحباطهم أما النقاد فإنهم يملكون القدرة على إخفاء إحباطاتهم، فهو يرى إلى القاريء بصفته آخر منتظراً. الآخر بالنسبة إليَّ - يقول بسيسو - هو كمالي المحتمل، وإنني طوال الوقت أبحث عن كمالي، عن إكمال نقصي. وعندما يستنكف الآخر عن المجيء أعيشُ النقصانَ، ولا أعتقد أن النقصان يعجز عن إسكانك في إحباط مقيم. أيا تكن المسألةُ، فأنا أبحثُ عنكَ وأبحثُ عنها وأبحثُ عني وأبحثُ عنّا. وإذ لا أعثر عليَّ فلأنني لم أعثر عليك" ولأنني لم أعثر عليكَ وعليَّ عجزتُ أن أعثر علينا. الثقافة حوار مفتوح بين الأنا والآخر، حوارُ ذوات يؤلف ذاتاً كاملة. والثقافة تكون عدماً حين تكون حواراً أحادياً أو منولوجاً داخلياً يدورُ بيني وبيني، أنا لستُ أنا إن لم أكن قابلاً لأن أكونك، وهذا ينطبق عليك، أيها الآخر، من هنا، من جدل اللقاء بين الأنا والآخر تفتح ثقافات الأمم الأبواب والنوافذُ ويقول الإنسان للإنسان كم أنت جميل أيّها الإنسان. القناع / الهوية حول اختياره القناع موضوعاً للدرس، واعتباره أن اكتشاف الإنسان للقناع يوازي اكتشافه النّار يعتبر بسيسو أن "القناع" بالمعنى العميق الذي يتبناه في دراسته هو الهوية في أقصى حالات تحققها، هو الكمال المحتمل، هو لحمة الأنا والأنت، وهو الوجود في الآخر، ووجود الآخر في الأنا، هو الشاعر حين يكون غيره وهو غيره مسكون به. وبالتالي، فإن تجليات القناع في الشعر أعصى من أن تحصى، لكن هناك محددات وخصائص جوهرية لهذه التجليات أبرزها، وفق العلامات التي وضعها الناقد، أن القناع عندما يتّصل بالشعر لا يكون شكلاً، وإنما هو نوعٌ، والقناع في القصيدة ليس حيلة أسلوبية، والقصيدة المقنعة ليست شكلاً، أو حلية بلاغية، أو نموذجاً من نماذج القصائد. إنه نوع شعري، نوع فنّي إبداعي يخترقُ الأشكال جميعاً. لأن القناع، على المستوى الفلسفي العميق، هو الهوية. ولا يعتقد بسيسو أن ثمة هوية فردية يمكن أن تكون نموذجاً قابلاً للتكرار. من هنا فإن القناع هو البرهان على أن القصيدة حين تتأسس على رؤية داخلية تجمع الأنا بالآخر، الذي يسميه في بحثه ب"الأنا المغاير" لا يمكن أن تقدّم نموذجاً قابلاً للتكرار. هناك لحظة التجلي، خصوصية الشاعر، فحلاج قاريء هو غير حلاج قاريء آخر، وغير حلاج الناقد، وهاملت الذي كتبه عبدالوهاب البياتي غير هاملت الذي كتبته أنت. انطلاقاً من هذا، أي من تعريف الجوهر الخاص للقناع الشعري بصفته هوية متحوّلة يرى بسيسو إلى هذه الظاهرة ويعتبرها ظاهرة هائلة في فننا الشعري العربي، وعلى هذا الأساس يتعامل معها في أبحاثه. القناع والحجاب لكن ما الفرق بين القناع والحجاب؟ بإزاء سؤال كهذا يرى بسيسو أن تحولات الهوية التي يجسدها القناع تنهض على ثبات، والثابتُ هو جدل الأنا مع الأنا الأخر المغاير، أي أن الثابت في هذه الظاهرة هو التحوّل المستمر، هو الصيرورة، وبالتالي هو اللاثبات. فالشاعر نفسه لا يمكنه أن يتقنّع مرتين، بمعنى أنه لا يمكنه أن يدخل في علاقة رؤيا داخلية مع شخص آخر، وينتج قناعاً مشابهاً لذاك الذي أنتجه في قصيدة قناع سابقة له. وبالتالي فإن الناقد يقبل أن نشبّه لحظة تحقق القناع لدى الشاعر في نص قصيدته بلحظة نزول المرء في نهر هيرقليطس الدافق ماؤه. وهو يوافق على هذه المشابهة، ما دام يرى أن الهوية، بالمعنى الحقيقي، للكلمة هي النّهر، وإنها في تحول دائم. وما دام القناع يخفي ويُظهر، يخفي الأنا الراهنة ويُظهرُ الأنا المتطلّع إليها في أقصى حدود تحققها المحتمل، أما الحجاب فيخفي ولا يُظهر. الحجاب سواد أما القناع فضوء منسابٌ. الحداثة وفكرة التقنّع! وأسأله: لماذا لم تختر واحدة من قصائد نزار قباني وتدرسها كقصيدة قناع؟ فيجيب: في الإعداد لدراستي كان عليَّ أن اتقصّى تجليات القناع في أكثر من ثلاثمائة ديوان شعر افترضتُ إمكان تجلّيه فيها، كانت أعمال نزار قباني بين هذه الدواوين بالتاكيد. والمعيار الذي حكم رؤيتي للقناع هو التمييز الدقيق بين القناع كحيلة تزينية بلاغية، والقناع بالمعنى التكويني العميق كما أشرنا إليه هنا في الحوار وكما ورد في الدراسة بصورة أدق وأوفى بطبيعة الحال. أما القناع كحيلة بلاغية فهو موجود في شعر نزار وفي الشعر العربي منذ وجد، ويواصل حضوره في الشعر حتى اليوم. بدوري فإن القناع الذي قمت بدراسته وحددت معالمه وخصائصه هو ذاك الذي قامت حركة الحداثة الشعرية العربية على أساس من تبنّيه. وإنني أجزم بأن أصل الحداثة الشعرية العربية قائم على الوعي بخطورة فكرة التقنّع، وتحقيق تجلياتها المتنوعة. لقد توصّلتُ إلى نتيجة مؤدّاها أن القناع هو الفكرة الشعرية الأولى. لا شعر بلا قناع. وهكذا فإن اللغة الشعرية لغة مقنَّعة. المجاز قناع اللغة الشعرية، والقصيدة قناعُ اللغة. هل يعني هذا أنك تشترط تحقق الشعرية، بالمعنى الحديث للكلمة، بوجود القناع في لعبة الشاعر وتجربته الشعرية؟ نعم، يقول بسيسو، ويضيف: إنما لنكن دقيقين، ودعني أقول أنني أشترط وجود فكرة التقنع، وليس القناع بالمعنى المحدد الذي يتجلى في قصائد القناع. ألست معي في أن التّقمص هو المبدأ المؤسس للإبداع والفن، وأنه ما كان للإنسان أن يكون شاعراً وفناناً وساحراً لولا التقمص؟ لا حداثة بلا أقنعة وعندما أسألهُ ما إذا كان يربط وجود القناع بالرؤيا الشعرية والفلسفية للشاعر وليس بتقنيات الفكرة؟ يجيب بنعم، معتقداً أن هذا هو الحد الذي يفصل بين رؤيته للقناع ورؤية أخرين له. من أمثال د. صلاح فضل، الذي يرى، مثلاً، أنَّ القناع مجرّد تقنية أسلوبية، ويمكن العودة في هذا الشأن إلى قراءته قصائد عبدالوهاب البياتي في كتابه "شفرات النّص". لكن هل يعني حضور القناع في لباب الرؤية الشعرية للشاعر الحديث اشتراطاً أساسياً لتحقق حداثة شعره، بحيث أن غيابه عن شعره ينفي عنه صفة الشاعر الحديث؟ عن هذا السؤال يجيب بسيسو بثقة: لا أبالغ في حماستي لأهمية القناع، ولستُ ممن يحصرون العالم في دائرة اهتمامهم الآنية، وإنني لا أرى إلى الحياة والإبداع من خلال القناع بوصفه موضوعاً درسته وأواصل البحث فيه، وإنما أنظر إلى الحياة والفكر والإبداع من خلال ما أوصلني إليه بحثي الموضوعي، المتأني، المستقصي، المتسائل، والقادر على تحويل كل إجابة إلى سؤال جديد. لقد برهنت الدراسة التي أنجزتها على حقيقة أن القناع يخترق الحياة والفكر والإبداع، وعلى مستوى الشعر وجدتُ أن فكرة التقنّع، بالمعنى الجوهري العميق الذي أوضحته، هي الفكرة المؤسسة للحداثة بامتياز، والحداثة كما أفهمها هي التي تعطي القيمة العليا للدراما المائرة في أعماق الإنسان، وليس تلك التي تجري بعيداً عنه، خارجه. والحداثة كما أفهمها هي التي تستبدل الحبكة الخارجية بالصراع الداخلي، الحداثة التي تبحث عن إجابة لسؤال الإنسان عن دوره في الوجود، والتي تتيح له أن يكون خلاقاً، وليس مجرّد مخلوق تابع. لكل ذلك، ولغيره من المعاني، ارتأيتُ، ولم أزل أرى أن القناع حتميٌّ في الفن، كما هو حتميٌّ في الحياة، لأن الفن هو كتاب الحياة. الشاعر ودوره أخيراً، ومن مقعده كناقد يدرس الأقنعة، كتجليات جمالية في الشعر، أسأله رأيه في صنيع الشعراء الذين يستعملون الشعر كقناع ليكون لهم دورٌ في المجتمع. إنه سؤال حول "القناع الإجتماعي" مقابل "القناع الفني" في القصيدة؟ فيجيب: لنقل أن تطلّب "الموقع" هنا هو حقيقة العاجزين عن اكتشاف الحقيقة الكامنة في الإنسان، وفي النص. ما أراه بجلاء هو أن دور الشاعر كامن في نصّه. وأنا هنا أميّز بين الشاعر ككائن إجتماعي، والشاعر كهويّة إنسانية الشاعر بألف لام التعريف هو الروح الكلّية الجامعة، والأفق الإنساني الرحب.