يكاد لا يمر شهر لا يصدر فيه كتاب، أو ملف كامل في صحيفة تصدر بإحدى اللغات الأوروبية يصور عمق الأزمة في اليابان منذ بداية نهضتها عام 1868 وحتى الآن. والسبب في ذلك أن حداثة اليابان جاءت من خارج "النادي الغربي" للحداثة الكونية التي بدأت بمركزية أوروبية ثم تحولت إلى نزعة إمبراطورية أميركية للسيطرة على العالم وإذاقته طعم الحداثة الغربية وديموقراطية أميركا بالقوة العسكرية. يندرج كتاب الباحث الجغرافي الفرنسي فيليب بيلليتيه "اليابان: أزمة حداثة مغايرة" الصادر حديثاً في باريس في هذا السياق. وطرح في مقدمته تساؤلات حول طبيعة حداثة اليابان التي رأى أنها تقدم نموذجاً متميزاً في مسيرة التاريخ العالمي. اذ تجسدت أولاً بصورة "الخطر الأصفر"، بعد تبلور نزعتها الإمبريالية حتى عام 1945، ثم بصورة "طائر الفينيق" بعد الإحتلال الأميركي. وسلكت اليابان مسار الحداثة بصفتها إندماجاً خلاقاً للتصنيع، والتكنولوجيا العلمية، والتقدم من جهة، وتجاوز مرحلة الإنتاج الزراعي، والتقاليد الريفية، والعادات التي تميزت بكثير من اللاعقلانية في مجال السلوك والممارسة والإنتاج. فكانت اليابان أول بلد من خارج المجموعة الغربية يصل إلى مستوى الحداثة الناجحة والمستمرة. وعلى جانب آخر، تعتبر حداثة اليابان خارج دائرة التجارب الغربية للحداثة التي تمحورت حول الأديان السماوية، اي اليهودية والمسيحية والإسلام. فهي حداثة من دون مرجعية دينية، بمعنى أن التعاليم الأرضية أو الوضعية أو غير السماوية لدى اليابانيين هي في صلب حداثتها المغايرة. فهي حداثة من صنع اليابانيين أنفسهم، ولمصلحة اليابان بالدرجة الأولى. وبدأت مع إصلاحات مايجي بنقل اليابان من المجتمع الفيودالي بنظمه الصارمة، إلى حداثة دينامية تواكب التغيرات الكونية. ولم يقطع مصلحوها مع التقاليد السابقة بل إعتمدوا أسلوب التطور البطيء لتوظيف كثير منها في بناء حداثة مستمرة، وغير قابلة للإرتداد او النكوص. وإنتشرت التكنولوجيا والعلوم العصرية على نطاق واسع، وحملت معها الكثير من الأفكار الغربية كالديموقراطية، والإشتراكية، والليبرالية باستثناء النظام الجمهوري. اذ آثر اليابانيون الحفاظ على نظامهم الإمبراطوري في مختلف مراحل تاريخهم. وبنوا حداثتهم على أساس تعميم ثقافة صناعية وذهنية إستهلاكية، مستفيدين من النموذج الأميركي المنتصر. إنخرطت اليابان في الإنتاج الصناعي المتطور لدرجة توصيفها بلقب "حيوان إقتصادي"، وبقيت سياستها وفية على الدوام للولايات المتحدة، مع توجه جاد نحو محيطها الآسيوي لبناء وحدة تدريجية على غرار الإتحاد الأوروبي. أما الدول العربية والإسلامية فبقيت بعيدة نسبياً حتى الآن عن دائرة التأثير الياباني المباشر. بدأت نهضة اليابان، كما يشير الباحث، في القرن السادس عشر حين عرفت تطوراً إقتصادياً سريعاً، وتجارة واسعة، ونمواً ديموغرافياً، وسكناً مدينياً متزايداً، وأشكالاً متعددة من الأديان كالشنتو، والبوذية، والمسيحية. لكن الخوف من مخاطر التغريب عبر الإرساليات دفع ساستها إلى تصفية الوجود المسيحي فيها بقسوة بالغة. فإعتمدت سياسة الإنطواء أو العزلة لفترة طويلة في عهد أسرة توكوغاوا التي تميز حكمها بالإستبداد السياسي، وسيطرة طبقة الساموراي على الأرياف والمدن الملحقة بالقلاع، وبات الإمبراطور نفسه أسير جدران قصره يعيش بذلة تحت رحمة الشوغون أو الحاكم العسكري العام. لكن الإنذار الأميركي عام 1853 عبر السفن السوداء بقيادة الكومندور بيري هز ركائز الحكم الياباني وأجبر الشوغون على توقيع إتفاقات مذلة إستفادت منها كثير من الدول الأوروبية بين سنوات 1854 -1858. فإنتفض اليابانيون ضد الشوغون و"البرابرة الغربيين" معاً. وبعد أن أعادوا الحكم الإمبراطوري وأزالوا الحاكم العسكري، قام الإمبراطور مايجي بإصلاحات تحت شعارين بارزين: "جيش قوي لدولة غنية"، و"تكنولوجيا غربية وروح يابانية". تساءل كثير من الباحثين حول طبيعة تلك الإصلاحات. فهل كانت ثورة بورجوازية من فوق أم نتاج تطور داخلي بطيء لمصلحة النظام الفيودالي قاد إلى إفقار الأرياف، وتسريع ولادة البروليتاريا المدينية؟ وإستعرض الباحث ظروف ولادة وتطور الأفكار الإشتراكية خلال سنوات 1920 - 1930، والحركات النقابية، والتنظيمات البولشفية والفوضوية. وناقش أسباب حروب التوسع للإمبريالية اليابانية خلال سنوات 1931 - 1941، والهزيمة التي أعقبتها عام 1945. يقدم كتاب "اليابان: أزمة حداثة مغايرة" مقولات مهمة لفهم تجليات تلك الحداثة وصولاً إلى تفنيد مزاعم اليابانيين حول خصوصية تجربتهم إنطلاقاً من القول بإستقلالهم الدائم، وخصوصية مقولاتهم الثقافية التقليدية، وتجانسهم السكاني، وعطشهم للتعلم، والدور المركزي للدولة، والسياسة الحمائية للإنتاج والأسواق، والبورجوازية اليابانية المتنورة، والرغبة العارمة في الإدخار الفردي والجماعي، وهاجس البحث الدائم لتعويض النقص الحاد في المصادر الطبيعية، وتعويد الناس على مواجهة كوارث الطبيعة كالزلازل والبراكين والأعاصير، وغيرها. ولعل أبرز إسهامات الكتاب تكمن في تحليل صورة الآخر لدى اليابانيين. فاليابان مجتمع متجانس يخشى الإختلاط بالآخر ويبعده أو يبتعد عنه طوعياً. وبما أن الفرد أسير الجماعة، فإن حركة التحرر الداخلي في اليابان تركز على ضرورة تحرير الفرد، خاصة المرأة، من سيطرة الجماعة. كما أن الطابع الطبقي للسكن الياباني شديد الوضوح من خلال المدينة العليا والمدينة الدنيا. مع ذلك، يصر اليابانيون على مقولة العيش الدافئ وسط الجماعة. وهم يستنبطون اليوم أشكالاً جديدة من العمل التطوعي الجماعي في محاولة للخروج من "خلية النمل" والعمل المرهق. وتسعى الدولة والشركات إلى تعميم مراكز الترفيه والتسلية في الداخل، وتشجيع السياحة إلى الخارج بحيث إرتفع عدد السياح من 300 ألف سائح عام 1970 إلى 18 مليون عام 2000. بقي أن نشير إلى إزدواجية نظام القيم عند اليابانيين، وتبدل مواقفهم من الأميركيين ولاحقاً من الشعوب الآسيوية المجاورة تبعاً لمقولة براغماتية تقول بأن "المهم هو الحاضر وليس الماضي". وتواجه اليابان مشكلات عدة منها أحياء المنبوذين داخل المدن الكبرى خاصة طوكيو والذين يبلغ عددهم قرابة الثلاثة ملايين نسمة، ومطالب قبيلة الأينو أي سكان جزيرة هوكايدو الأصليين، وإحتجاج الأقلية الكورية، ومشكلة العائدين من البرازيل وبيرو من أصل ياباني إلى اليابان والتي تطرح مفهوم من هو "الياباني الحقيقي" مجدداً على بساط البحث. فهؤلاء لا يتقنون اللغة اليابانية، ولم يتعرفوا إلى نظام القيم التقليدية فيها، وليس لديهم الشعور بخصوصية القومية اليابانية. هكذا تبدو اليابان من خلال هذا الكتاب أشبه ما تكون بأرخبيل الأقنعة، أكثر منها دولة ذات خصوصية مزعومة تستند إلى رابطة وحدة الأرض، والدم، واللغة، والإندماج، والطبقات. هي تواجه مأزق الحداثة المغايرة التي نقلتها "من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب"، ومن الخصوصية الثقافية والتجانس البشري إلى العالمية وثقافة العولمة. فيابان اليوم يابانان: واحدة تسير بخطى مسرعة نحو الإنتماء إلى الغرب، وأخرى متمسكة بتقاليد الشرق الآسيوية. أما طوكيو فمدينة كوسموبوليتية تحكمها رأسمالية يقظة تدير شؤون البلاد في زمن السلم تحت هاجس الحفاظ على مصالح اليابان العليا في زمن الحرب. ولديها ديبلوماسية ماهرة تراقب تحولات الرأسمالية العالمية، وتقودها دولة مركزية صارمة. فالدولة المركزية في اليابان تخطط لبناء قومية يابانية متجددة تستفيد من دفء العلاقات اليابانية - الأميركية لكنها تسير بخطى ثابتة لبناء علاقات يابانية - آسيوية جديدة، تدخل اليابان في عصر العولمة، عبر رؤية آسيوية لكوسموبوليتية الثقافة والرأسمال ونظام القيم. ختاماً، يقدم هذا الكتاب رؤية شمولية لليابان على ضوء الزمن التاريخي الطويل والإمتداد المكاني، وذلك عبر تحليل عناصر الإستمرارية والتغيير في التجربة اليابانية: أزمة مستمرة تبحث عن حلول براغماتية لها، وهي تحمل في طياتها بزور أزمات جديدة، وهكذا. لكن مقولات الكتاب لا تخلو من التسرع في كثير من جوانبها نظراً لإستناد الباحث إلى مراجع فرنسية بالدرجة الأولى. فقد إستعاض عن الأبحاث المعمقة عن اليابان، ومنها أبحاث ليابانيين منشورة بالإنكليزية، بإنطباعات شخصية جمعها خلال إقامته لسبع سنوات في اليابان. مع ذلك، توصل الباحث إلى توصيف دقيق لأزمة اليابان حين قال "اليابان في أزمة لكنها، بالتأكيد، ليست على طريق الإنحدار أو الإنهيار". Philippe Pelletie: Japon: Crise d`une autre modernitژ. ژditions Belin, Paris 2003, 207 pages. * كاتب لبناني.