لا تزال مقولات النهضة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإدارية والعسكرية التي شهدها العالم العربي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين تثير الكثير من التساؤلات في ندوات ومؤتمرات علمية تعقد دورياً لاستخراج الدروس والعبر منها، ولإجراء المقارنة مع غيرها من المقولات، وخصوصاً في الدول التي حققت نهضة ناجحة كاليابان، وكوريا، والنمور الآسيوية. وأغلب الظن أن هذه الندوات ستستمر في المرحلة الراهنة وتعيد طرح السؤال عينه: "لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم؟". وتتفرع عن السؤال المركزي أسئلة فرعية لا حصر لها: هل التأخر نتاج أسباب موضوعية ناجمة عن وقوع العالم العربي على مقربة من المركزية الإمبريالية الأوروبية؟ أم التأخر نتاج التواطؤ العلني بين الاستعمار الأوروبي والحركة الصهيونية وما نجم عنه من مشكلات معقدة وصعبة الحل وفي طليعتها مأساة شعب فلسطين والشعوب العربية المجاورة لها؟ وهل انتهت النهضة العربية الأولى الى فشل بنيوي عبر عنه المفكر المصري المعروف بكتاب مهم عنوانه: "خروج العرب من التاريخ؟". يضاف الى ذلك أن مرحلة الاستقلال السياسي لم تبدل جذرياً من البنى المسيطرة في الدول العربية لأن جميع تلك الدول تمسكت بتقاليد الموروث الاستعماري الغربي في مختلف المجالات. وباختصار شديد، يلاحظ أن معظم المقولات الثقافية السائدة الآن على الساحة الثقافية العربية هي دون الأفكار التي ناضل من أجلها، وبصلابة، مثقفو عصر النهضة. وهناك من يرى علة بنيوية في الفكر الثقافي العربي، بالمعنى الشمولي للثقافة، جعلت مقولات عصر النهضة أكثر علمية من بعض المقولات الراهنة. كما أن مواقف بعض مثقفي عصر النهضة كانت أكثر جرأة وجذرية من مثقفي المرحلة الاستقلالية. من ناحية أخرى، استمر اقتصاد التبعية الاقتصادية مهيمناً في جميع الدول العربية، وتم ترييف المدن العربية لدرجة فقدانها الكثير من سماتها الإيجابية التي تشكلت إبان عصر النهضة كمراكز متقدمة لإنتاج فكر تنويري يحتضن مقولات الحرية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، والديموقراطية، وحقوق الإنسان، ودولة القانون والمؤسسات ومبدأ فصل السلطات، والتفاعل الإيجابي مع مقولات التراث الإنساني، وغيرها. ونتج من ذلك أن تنكرت المدن العربية في المرحلة الراهنة لماضيها الجميل فباتت في حاضر لا جمال فيه، لا من حيث البيئة والهندسة التراثية، ولا من حيث احتضان المقولات الثقافية التحررية في التراث العالمي. وانطوت بعض القوى المدينية على نفسها تحارب كل جديد باسم أصالة زائفة تهدم التراث تحت ستار الدفاع عنه، وتتغنى بماض مجيد لم تشارك في صنعه لكنها تحاول احتكاره باسم الخصوصية متجاهلة تحوله الى تراث إنساني عالمي استفادت منه كل قوى التنوير في العالم باستثناء الذين فضلوا تغليب التقليد على التجديد. فمقولات عصر ما زالت فاعلة على الساحة الثقافية العربية في المرحلة الراهنة. وتكمن أهميتها في أن بعض المقولات التي تنشرها اليوم وسائل الإعلام العربية هي دون مقولات عصر النهضة. كما أن المواقف الانتهازية للغالبية الساحقة من مثقفي المرحلة الاستقلالية لا ترقى الى صلابة المواقف الشجاعة التي تمسك بها معظم مثقفي عصر النهضة. لذا حافظت مقولات عصر النهضة على الكثير من راهنيتها في الفكر الثقافي العربي على مشارف القرن الحادي والعشرين، بعد أن عجز مثقفو اليوم عن تطوير تلك المقولات فانصرف بعضهم للدفاع عنها لأنها تتعرض الآن لكثير من التشويه والتهميش في ظل سيادة أفكار السلفية والتقليد. في هذا الإطار، يشكل كتاب "عصر النهضة": مقدمات ليبرالية للحداثة"، وثيقة مهمة لإعادة التذكير بمقولات عصر النهضة، وتجديد طرح السؤال التقليدي: "ما العمل؟". فقد شارك فيه مثقفون عرب من ذوي الأبحاث المعمقة، والآراء الجريئة في قراءة مقولات عصر النهضة قراءة نقدية بهدف تمثلها وتجاوزها. وقد وردت أسماؤهم على غلاف الكتاب تبعاً للتسلسل الآتي: شربل داغر، موسى وهبه، نديم نعيمة، عزيز العظمة، ينس هانسن، خالد زيادة، شربل نحاس، كمال حمدان، أمينة غصن، عبدالله العروي. بعد مقدمة منهجية في عنوان: "السؤال عن "النهضة" تحديثاً للأمل"، توزعت موضوعات الكتاب ضمن المحاور الثلاثة الآتية: المحور الأول: "الله، السلطان، الجماعة، الفرد"، وفيه أبحاث عن "الالتباس الميتافيزيقي"، و"إشكالية الفكر الإسلامي في عصر النهضة"، و"توترات السياسية وانتكاسة فكر الحداثة". المحور الثاني: "نشأة السوق، علاقات وعلامات"، وفيه أبحاث عن "بيروت مدينة التنظيمات"، و"النهضة والمدينة"، و"إعادة تشكيل الشبكات الاقتصادية والبشرية"، و"اقتصاد السوق بين الداخل والخارج". المحور الثالث: "المثاقفة والتجديد"، وفيه أبحاث عن فرح أنطون في مجلة "الجامعة"، والكتاب والأفق، وإرث النهضة وأزمة الراهن. موضوعات النقاش من نافل القول إن تنوع الباحثين وتعدد اتجاهاتهم الفكرية أغنيا موضوعات النقاش في شكل واضح، فحفل الكتاب بعشرات الآراء الجديدة التي تبلورت من خلال التحليل العلمي لمقولات عصر النهضة بهدف تطويرها ومدى الاستفادة منها في المرحلة الراهنة. ومن نافل القول إن هناك استحالة في تسليط الضوء على جميع مقولات الكتاب، لذا سأحاول التعريف بأهمها. إن النهضة حركة مستمرة ودائمة وليست حدثاً تاريخياً عابراً. وبقدر ما يتدرب المواطنون على التفكير الحر، وعلى احترام الرأي الآخر بقدر ما يساهمون على نحو مستمر في إحداث نهضة جديدة. فتتأكد بذلك مقولة علمية مهمة هي أن الفكر الحر هو المقدمة الضرورية للحداثة وتجديد النهضة باستمرار. هناك تلازم أكيد ما بين الفكر الحر والحداثة، وعبثاً يفتش العرب عن حداثة محققة طالما أن الحريات الأساسية للإنسان غير محترمة، وليست "في حمى القانون" كما تنص بعض الدساتير العربية في موادها المقتبسة عن الدساتير والنظم الغربية. والصراع الدائر على الساحة الثقافية العربية منذ عصر النهضة "لم يقع بين الحداثة والأصالة، بين محدث وسلفي، بل بين معاصر ومعاصر". أي أن حقل الصراع هو سياسي ايديولوجي بامتياز ويهدف الى تأييد سيطرة القوى المسيطرة أو إزاحتها بكل الوسائل الممكنة. من ناحية أخرى، بدا الفكر العربي في عصر النهضة كرد فعل عكسي ضد الهجمة الأوروبية الطاغية منذ مطلع القرن التاسع عشر، إلا أن القوى العربية المسيطرة اقتبست الكثير من مقولات الفكر الغربي لتوظفها ضد القوى المحلية المناهضة للغرب. وتحول النقاش الى جدل عقيم حول مادية الغرب العلماني في مواجهة روحانية الشرق المتدين. وصرف معظم النهضويين جهوداً مضنية للمصالحة ما بين الدين كتراث ثابت وبين العلم كمقولات متحركة باستمرار. علماً أن جوهر المسألة هو في كيفية إدخال العلم الى المجتمعات العربية وتحويله الى عنصر فاعل في تطويرها. فغاية التحديث هي الوصول الى مجتمع الحداثة المتطورة باستمرار لأنها سيرورة لا تتوقف بل تقود كل مرحلة الى أخرى أرقى منها. وليست الحداثة محطة تاريخية بل تحولات مستمرة في جوانب الحياة كافة. غني عن التذكير أن مفهوم عصر النهضة الذي يتكرر منذ أكثر من قرن هو "السؤال عن دخولنا في عصر الحداثة، إنساناً ومجتمعاً". لكن المأزق الأساسي للنهضة العربية أن "الحداثة أخرجتنا من العهد القديم من دون أن تدخلنا في العهد الجديد"، على غرار ما فعلت النهضة اليابانية. وقد نشرت كتاباً كاملاً لتحليل هذه المقولة صدر عن سلسلة "عالم المعرفية" الكويتية في كانون الأول ديسمبر 1999 تحت عنوان: "النهضة العربية والنهضة اليابانية: تشابه المقدمات واختلاف النتائج". فحداثة اليابان سيرورة لم تتوقف، وشكلت محطات متصلة الحلقات تطاول جميع جوانب المجتمع. أما الحداثة العربية فاقتصرت على رفع شعارات تنويرية لم تطبق إلا انتقائياً في المجالات السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية وغيرها. فبقي العالم العربي، في جميع أقطاره، أسير عملية الاقتباس السهل لكثير من مظاهر التحديث الأوروبي. فتحول التحديث العربي الى تغريب من دون أن يحقق غايته بالتحول الى حداثة مكتملة أو محققة لا يمكن الارتداد عليها أو النكوص عنها. فإلى متى يستمر العالم العربي حركة في الاقتباس عن تجارب التحديث في الدول الغربية؟ وإلى متى يتجاهل العرب أن غاية التحديث لا تكتمل إلا في تحقيق ذاتها بالتحول الى حداثة قادرة على تطوير المجتمع العربي من داخله، بالاستناد الى القوى الحية الفاعلة فيه، ودون الانغلاق على الذات أو رفض التفاعل الإيجابي مع ثقافات الغير؟ الحداثة هي تبني الحرية، في جميع مظاهرها، كمبدأ. ختاماً، إن الحداثة هي أولاً نتاج مقولات يصوغها المثقفون العرب لتعبر عما يريده العرب لأنفسهم حتى يلحقوا بركب الحضارة العالمية من موقع الفاعل فيها، وليست اقتباساً سهلاً لمقولات يصوغها الفكر الغربي لإلحاق العرب بالعولمة الغربية من موقع التابع لها. وهذا ما عبر عنه هشام شرابي بقوله: "إن علاقتنا بالغرب، وخصوصاً بأميركا، ما زالت علاقة تضاد واختلاف. الغرب اليوم وأكثر من أي وقت سابق، ما زال يريد لنا غير ما نريده لأنفسنا. نحن نريد الحداثة، وهو يرد لنا التحديث. نحن نريد السيادة والاستقلال وهو يجبرنا على التبعية. نحن نصبو الى التحرر والوحدة، وهو يدعم الأنظمة البدوية التي تقف في وجه التحرر والديموقراطية وتمنع الوحدة". إنه لكتاب جديد يستحق كل العناية والاهتمام. وخير ما نختم به نصيحة عبدالله العروي في آخر سطر من مقاله: "نحن بحاجة الى استعادة روح رجال النهضة وما تميزوا به من جرأة وصدق وتفاؤل". * مؤسسة رينيه معوض، المركز الثقافي العربي، مؤسسة فريدريش ناومان ناشرون "عصر النهضة: مقدمات ليبرالية للحداثة"، بيروت 2000. * مؤرخ وكاتب لبناني.