درس أنور عبدالملك الفلسفة في جامعة عين شمس ثم نال الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون في باريس. وعمل في المركز القومي للبحوث في مصر، وحاضر في جامعات عربية وأجنبية عدة إضافة إلى عضويته في عدد من الجمعيات الأكاديمية العربية والعالمية. نال أوسمة وميداليات وجوائز تقديرية في مجال العلوم الاجتماعية. حظيت مؤلفاته باحترام كبير لدى المثقفين، من العرب وغير العرب، بخاصة كتبه «المجتمع المصري والجيش و«الفكر العربي» في معركة النهضة» و«نهضة مصر» و«ريح الشرق» و«الصين في عيون المصريين». وقد غيبه الموت أخيراً في باريس. يعتبر أنور عبدالملك واحداً من أبرز المثقفين العرب الذي درسوا بعمق تجارب التحديث الآسيوية، بخاصة اليابانية منها. تعرف إلى اليابان عن كثب كأستاذ زائر في كلية العلاقات الدولية جامعة ريتسوميكان بمدينة كيوتو اليابانية. وعمل مستشاراً خاصاً للشؤون الآسيوية في المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط بالقاهرة، ومديراً للأبحاث في المركز القومي للبحث العلمي بباريس. نشر عدداً من الكتب والمقالات المعمقة التي تشكل نقطة تحول مهمة في رؤية اليابان بعيون عربية. شدد في دراساته على تحليل النهضة اليابانية ومدى استفادة العرب منها. ورأى منذ وقت مبكر أن انبعاث الشرق في المرحلة الراهنة يؤكد الدور المتزايد للحضارات الشرقية الكبرى خصوصاً الدائرة الآسيوية التي تعتبر الصين واليابان والهند أبرز ممثليها. وجد أن أبرز تجليات خصوصية النهضة اليابانية هي: الديموقراطية في الحكم، والرأسمالية في الاقتصاد، وإنتاج المصانع في الصناعة، ونظام التعليم القومي الإلزامي، وتأسيس قوة حربية وطنية، وتحرير الوعي الشعبي من إطار المجتمعات المحلية. ثم ناقش تلك المقولات بروح نقدية. فرأى أنه لم يكن بالإمكان وصف اليابان من الناحية السياسية بالدولة بالديموقراطية قبل عام 1945. عوامل نهضوية لم تنهض الرأسمالية في اليابان من مستوى القاعدة على غرار الدول الأوروبية بل من سهر على إنشائها كانت حكومة الإمبراطور مايجي أو المتنور. وكانت المساواة السائدة في الجهاز العسكري الياباني تنطوي على مساواة تفوق ما كان معروفاً في بلدان الغرب المتطورة آنذاك. وتمت مراعاة الوعي الذاتي كرامة الفرد عند تحسين مستويات المعيشة التي ترافق حركة التصنيع ونمو التعليم القومي. فمن المستحيل مراعاة الفردية من دون البدء بعملية التحديث. رأى عبدالملك أن أبرز العوامل التي ساهمت في إنجاح النهضة اليابانية هي الآتية: الأحوال الجغرافية، الاستقلال القومي، الاستقرار الاجتماعي المدعوم بالانسجام الإثني وفترة العزلة القومية الطويلة، التمتع بسلام دام مئتين وخمسين سنة، انتشار التعليم، والوحدة القومية المطورة في شكل صحيح، القابلية على التكيف، ضعف أثر الدين، غياب أي فلسفة والإلغاء التام للنظام التقليدي ذي الطبقية الاجتماعية. فأطلقت حركة إحياء المايجي دينامية المجتمع الياباني وشجعت على إطلاق الطاقة القومية. فالشعب الياباني الذي قطع نفسه عن الاتصال مع العالم، وحافظ على استقلاله من طريق العزلة القومية، أوجد ونشر في جميع أرجاء بلاده ثقافة متواصلة من السلام. لكنه أدرك في منتصف القرن التاسع عشر أن العلاقات الدولية القوية كانت من القدرة بحيث لا تجعل هناك مفراً من فتح أبواب اليابان للعالم. فعمل اليابانيون بشجاعة على إدخال الحضارة الغربية إلى اليابان. فكانت حركة الإحياء للمايجي ثورة ثقافية قام بها اليابانيون لإنشاء دولة عصرية. نظر أنور عبدالملك إلى تجربة اليابان بعيون عربية، ومن خلال وثائقها الأصلية، والدراسات العلمية الرصينة التي كتبها باحثون يابانيون. فرؤية اليابان من الداخل أمر حيوي لتجنب التحليل الاستشراقي الغربي. واستخلص دروساً مستفادة للعرب أبرزها: أن قيمة الثورة اليابانية تكمن في الأسلوب الكامل غير المسبوق الذي تمت به. فلم تكتفِ بأنها تخلت عن التبعية الثقافية للصين والتي دامت قروناً بكاملها فحسب، بل راح مصلحو المايجي يأخذون بكل ما هو أفضل حتى مما عند الأعداء الذين نهضوا لمجابهتهم. وكان هدفهم تحقيق ثورة ثقافية عامة وشاملة. وحافظت على استقلالها القومي، واستفادت من التراكم الإيجابي الذي أنجزه النظام الفيودالي تحت حكم أسرة توكوغاوا. تميز مجتمع اليابان آنذاك بقيام بيروقراطية متطورة، وتقسيم عقلاني للأراضي الزراعية، وتشجيع للعمل في كل فروع المهن. فكان مجتمعاً مستقراً مهد الطريق لتشجيع التعليم وانتشاره. ومع تطبيق إصلاحات المايجي تمتعت اليابان بأعلى نسبة تعليم في العالم. ومارست القيادة السياسية الجديدة واجباتها كاملة في مجال الإصلاح وبناء الدولة العصرية، وقد تولاها قادة مصلحون من الشباب، ومنهم من ترعرع في صفوف الطبقات الفقيرة من الساموراي. واستخدموا صفة الألوهية لدى الإمبراطور لفرض إصلاحات واسعة وجريئة على المجتمع الياباني التقليدي. أخيراً، رسم أنور عبدالملك مشروعاً متكاملاً لتطوير العلاقات العربية – اليابانية من منظور حضاري لمواجهة الضغوط الداخلية والخارجية. في المؤتمر الخامس لحوار الحضارات بين اليابان والعالم الإسلامي، الذي عقد في طوكيو خلال يومي 20 و21 شباط 2007 تحت عنوان: «التعايش والانسجام، أهمية الحوار بين الحضارات»، قدم أنور عبدالملك مداخلة نقدية متميزة. فطالب بتطوير الحوار في الجانب الثقافي أو الحضاري، وتجاوز الكلام المكرر عن أهمية الثقافات المحلية وكيفية الحفاظ عليها في عصر العولمة، ودعا إلى فتح نوافذ جديدة للحوار حول مستقبل العلاقات الثقافية بين اليابان والدول العربية والإسلامية في عصر التبدلات المتسارعة وثورات التصنيع، والإعلام والتواصل، والعلوم العصرية، والتكنولوجيا المتطورة. ودعا إلى تشكيل تيار ثقافي ضاغط على الدول التي تستخدم الحروب ضد دول أخرى تحت راية محاربة الإرهاب. والضغط في شكل خاص على إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية لوقف المجازر التي ما زالت ترتكب بصورة همجية ضد الفلسطينيين. ونبه إلى عدم جدوى الحوار الحضاري بين الشعوب إلا بضمان الحقوق الأساسية للشعوب المضطهدة، ورفض كل أشكال الظلم، وتأمين السكن، العلم، العمل لجميع المواطنين، محاربة آفات الفقر والبطالة والآفات الاجتماعية لأنها بطبيعتها، المولد الحقيقي للأزمات، وتمنع قيام حوار حقيقي على أسس عقلانية. حذر عبدالملك من أخطار استغلال البعد الحضاري لفرض الهيمنة والاستغلال. ودعا إلى عدم ترداد مقولات سطحية مثل «انهيار الثقافة الغربية المادية» و «صدام الحضارات» و «نهاية التاريخ»، ورأى فيها نماذج سيئة في مجال الحوار الثقافي. فما هي تجليات السيطرة الثقافية أو الحضارية؟ وهل الهدف الهيمنة على اللغة العربية، أم على الدين الإسلامي، أم على الثقافة العربية، أم على التراث العربي والإسلامي برمته؟ فتلك المقولات لا تجد سنداً حقيقياً لها. والأهداف المشار إليها ليست موضع إجماع لدى مفكري الغرب نفسه. ووقف قسم كبير من مثقفي أميركا نفسها وأوروبا واليابان والصين ضد الغزو الأميركي العراق. كذلك وقفت ضده الأممالمتحدة والبابوية ومؤسسات ثقافية أوروبية وأميركية لا حصر لها. وساعدت تلك المواقف على إفشال تحالف بوش وإسرائيل وتعثر قيام مشروع الشرق الأوسط الجديد. ما العمل؟ دعا عبد الملك المثقفين العرب إلى طرح سؤال ما العمل؟ على أنفسهم بصورة دائمة ومن وجهة نظر حضارية. فمتى يتوحد هؤلاء للدفاع عن حاضر العرب ومستقبلهم قبل الحديث عن حماية تراثهم وحضارتهم؟ ونبه إلى أخطار السلام المفضي إلى الاستسلام. «نريد السلام فيحاوروننا بالسلام، لكن المعركة في مكان آخر. من يرد السلام عليه أن يستعد للحرب. فإسرائيل وأميركا تخدعان العرب بالكلام على سلام لن يأتي لأنهم يحضرون دوماً لحرب جديدة». هناك دول لا تريد الحوار الحضاري بل الحرب. فكيف يتم الرد عليها؟ في المقابل، هناك دول لا مصلحة لها في الحرب في منطقتنا، ومنها اليابان والصين ودول أخرى. وهذه الدول مستعدة للحوار معنا لعشرات السنين حول أهمية السلام، والتفاعل الثقافي والتبادل الاقتصادي. فماذا أعددنا لهذا الحوار؟ وكيف يتحول العرب إلى قوة إقليمية ودولية فاعلة حتى يكون حوارهم مع القوى الفاعلة الأخرى من موقع الندية، والتفاعل الثقافي؟ ختاماً، تشكل دراسات أنور عبدالملك عن النهضة اليابانية نموذجاً علمياً متميزاً بين الدراسات العربية. فقد نظر إليها بموضوعية، بعيداً تماماً من الانبهار والانطباعات الشخصية، ومن دون انفعال بمقولات غربية لم تنصف تلك النهضة. وانتقد التوجه العام في العلاقات العربية - اليابانية لأنه بني على قاعدة نفعية فقط: التكنولوجيا اليابانية مقابل النفط العربي. فلم يستفد العرب من خبرات اليابان في مجالات التكنولوجيا، والعلوم العصرية، والتدريب، ونشر قيم العمل الجماعي، والثقافة الإنسانية.