عندما يفتح الياباني يومياً محفظة نقوده مستخدماً ورقة العشرة آلاف ين، وهي الأعلى في الأوراق النقدية المتداولة في السوق المالية اليابانية، تطالعه صورة فوكوزاوا يوكيتشي، علماً ان صورة الامبراطور المتنور مايجي طبعت فقط على ورقة الخمسة آلاف ين. لماذا اختار اليابانيون تكريم هذا الرجل في طريقة لم تكرم بمثلها الا قلة محدودة جداً من مثقفي العالم؟ لعلّ كتاب "السيرة الذاتية" لهذا المصلح الياباني الفذ مع مقدة أعماله الكاملة التي ترجمها عن الانكليزية كامل يوسف حسين وصدرت ضمن منشورات "المجمع الثقافي" في أبو ظبي في 528 صفحة من الحجم الكبير، يقدم الأسباب العميقة التي كانت وراء ذلك التكريم. فقد تم توصيف فوكوزاوا على أنه: رائد حركة التنوير في اليابان الذي كان له الفضل الأول في ترجمة مصطلحات كثيرة ما زالت مستخدمة حتى الآن في مجالات عدة، منها الطب والصيدلة والهندسة والأمن والتعليم وغيرها، وعلى أنه كذلك مؤسس أولى المدارس التي أدخلت اللغة الأجنبية في التعليم واقتبست وطبقت بعض نظم التربية المعتمدة في الغرب، ومؤسس جامعة كايو المشهورة في طوكيو والتي ما زالت مستمرة حتى الآن، علاوة على كونه صاحب عدد كبير من الكتب الموضوعة والمترجمة والتي كان لها دور أساسي في توليد جيل بكامله من المثقفين اليابانيين الذين تأثروا بالعلوم العصرية، الأوروبية منها والأميركية. وهو كذلك مؤسس جريدة "جيجي شمبون" عام 1882، والتي ساهمت في تجميع عدد كبير من المتنورين اليابانيين وأحدثت نقلة نوعية في الفكر الإصلاحي الياباني في مختلف المجالات. هناك نعوت كثيرة يمكن إضافتها الى هذا الرائد الذي شكلت مسيرة حياته الحافلة بالنشاط المحموم 1835-1901 نموذجاً فذاً في كيفية الجمع بين الكلام الثقافي النظري السهل والتطبيق العملي الذي عرض فوكوزاوا لمحاولات اغتيال لا حصر لها. فقد كانت له مواقف جريئة جداً لمواجهة التقاليد اليابانية السائدة في القرن التاسع عشر، وساعده في تحديه لها انتماؤه لطبقة الساموراي الحاكمة. ليس من شك في ان الإحاطة بالدور الريادي لهذا المصلح المتنور تحتاج الى أكثر من دراسة مطولة. فقد تضمنت سيرته الذاتية وصفاً دقيقاً لجوانب كثيرة من حياته الشخصية، وآرائه الاجتماعية، ومواقفه الإصلاحية والسياسية، ونشاطه التعليمي، وترجماته الكثيرة، مع مقدمة مطولة لأعماله الكاملة التي صدرت في خمسة مجلدات من جهة، ولتطور المجتمع الياباني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من جهة اخرى. لكننا سنكتفي هنا بتقديم لوحة شمولية سريعة عن أهم المحطات في حياته الثقافية والعملية، والإشارة الى بعض آرائه الاصلاحية. ولد فوكوزاوا يوكيتشي اسم العائلة أولا تبعاً للتقاليد اليابانية في كتابة الأسماء في العاشر من كانون الثاني 1835 في أوساكا من عائلة تنتمي الى الطبقة الدنيا من الساموراي الحاكمة في مقاطعة ناكاتسو. بعد ان شفي من مرض الجدري الذي أصابه في سن السابعة، دخل المدرسة المحلية التي كانت تعلم مبادئ الثقافة الصينية التقليدية في كل شيء. ثم غادر مقاطعته في سن الخامسة عشرة الى ناغازاكي لدراسة اللغة الهولندية التي كانت اللغة الأوروبية الوحيدة المسموح بها في اليابان في مرحلة العزلة الطوعية التي فرضتها على نفسها ودامت قرابة قرنين ونصف القرن في ظل حكم أسرة توكوغاوا الى ان انتهت عملياً مع القبول بانذار الكومودور الأميركي بيري لليابان بفتح أبوابها أمام السفن الأجنبية في عام 1853، والذي شكل بداية النهاية لزوال حكم هذه الأسرة عام 1868. بعد ان زار الشاب فوكوزاوا مدينة يوكوهاما ورأى نفسه وجهاً لوجه مع الثقافتين الأميركية والأوروبية، تبين له ان اللغة الهولندية لا تصلح للحوار معهم، وان تعلمها كان مضيعة للوقت لأن عليه تعلم اللغة الانكليزية لأنها بوابة الثقافة الأوروبية والأميركية والكونية الأكثر اتساعاً. فأصيب جيله ممن تعلم اللغة الهولندية باحباط شديد، فبات بين قلة محدودة للغاية قررت تعلم الانكليزية الى جانب الهولندية. وعلى عكس اللغة الهولندية التي بدت له وكأنها فقدت القدرة على ان تكون صلة وصل بين الشعوب، فتحت له اللغة الانكليزية إمكانات لا حصر لها للتعرف الى العلوم العصرية والثقافات العالمية. وسرعان ما بدأت تتكشف له مخاطر النظام السياسي والاجتماعي والثقافي السائد في اليابان. فرأى في استمراره كارثة قومية كبرى بسبب الجهل المطبق الذي يعيشه الشعب الياباني عما يجري في العالم الخارجي، وهزال المادة التعليمية التي يتلقاها الطلبة اليابانيون من خلال نظام تعليم متخلف جداً ومقتبس عن الصين منذ قرون طويلة. في كانون الثاني 1860 أتيحت له الفرصة لزيارة الولاياتالمتحدة الاميركية للمرة الأولى كمترجم لبعثة عسكرية، ثم تلقى أمراً بمرافقة بعثة رسمية اخرى الى أوروبا عام 1862، وبمرافقة بعثة عسكرية الى الولاياتالمتحدة الأميركية للمرة الثانية عام 1867. وشكلت تلك البعثات فرصاً ذهبية لفوكوزاوا ساعدته على اتقان اللغة الانكليزية الى جانب الهولندية، كتابة وقراءة وحواراً. وقد عمل على ترجمة عدد كبير منالكتب العلمية في مختلف حقول الاختصاص، لكنه رفض الانخراط في الاعمال الحكومية على رغم الحاح الادارة اليابانية لجبه اليها زمن حكم الشوجون أولاً زمن الامبراطور مايجي بعد 1868. كان يعتذر على الدوام لانه نذر نفسه للعمل الثقافي من خلال التدريس، وادارة المدارس التي تصر على تعليم الانكليزية الى جانب اليابانية. وعند الاعلان عن تأسيس الجامعة الامبراطورية التي عرفت باسم جامعة طوكيو عام 1877 وبدأت عملها عام 1879، رفض منصب نائب رئيس الجامعة، وفضل العمل على إنجاح مشروعه الخاص الى ان تحقق بتأسيس جامعة كايو التي افتتحت ابوابها عام 1890 وتلقت دعماً كبيراً من الامبراطور المتنور مايجي، فقامت أبنيتها الجميلة التي ما زالت شاهد عيان على عناده الرائع في تحقيق ما خطط له. لم يقتصر عمله التنويري على تأسيس المدارس، وادخال مناهج جديدة فيها مقتبسة عن النماذج الغربية، ونشر سلسلة من المقالات الصحافية الداعية الى اصلاح التعليم، وتجاوز الكثير من التقاليد الطبقية الجامدة في اليابان، بل ساهم في انشاء عدد من المؤسسات الثقافية والاجتماعية منها "رابطة المثقفين في طوكيو" التي تم اختيار فوكوزاوا أول رئيس لها عام 1879، وبعض الجمعيات والنوادي لتشجيع التلاقي وتعزيز الروابط بين الرجال والنساء على أسس جديدة، وتشجيع بناء المدارس الخاصة التي تتقاضى اجوراً نقدية على التعليم بعد ان كان شبه مجاني على طريقة الكتاتيب من دون ان تقدم تعليماً عصرياً مفيداً للطلبة بحيث بقيت نسبة الأمية مرتفعة جداً حتى اصلاح نظام التعليم في عهد الامبراطور مايجي. والى جانب مقالاته الافتتاحية التي رافقت صدور العدد الاول من جريدته "جيجي شمبون" في الاول من اذار 1882، شارك بنشاط في الاعداد لمسودة الدستور الياباني الذي اصدره مايجي عام 1889. اخيراًِ، وافته المنية عام 1901 تاركاً وراءه مكتبة غنية من الابحاث المنشورة والمترجمة واعمالاً مجيدة من مختلف النشاطات الاجتماعية والثقافية والاصلاحية التي قام بها خلال اكثر من اربعة عقود. تقدم "سيرة فوكوزاوا يوكيتشي ومقدمة اعماله الكاملة" فائدة جلّى للقارئ العربي، فهي تطلعه على سيرة رجل فذ لقب باسم "مؤسس اليابان الحديثة" لانه ايقظ الشعور الوطني والقومي لدى اليابانيين بأهمية العلوم الحديثة والتكنولوجيا المتطورة في نهضة اليابان. وعلى عكس التيارات القومية المتزمتة التي كانت ترى في الثقافة التقليدية المتوارثة عن الصين منذ قرون قاعدة صلبة لحماية اليابان من الاحتلال الاجنبي، وجد فوكوزاوا ان تحدي الغرب لن يكون الا باتقان سلاح الغرب نفسه. وقد سخر مراراً من شعار القوى التقليدية اليابانية آنذاك: "اطردوا البرابرة"، والذي تزامن مع عداء لا مبرر له للاجانب ومحاربة كل ما هو غربي تحت ستار انه المدخل الصحيح لحماية الاصالة اليابانية من خطر تشويه الثقافة الغربية لها. وسرعان ما ادرك مايجي ان اليابان بلد ضعيف في مختلف المجالات لكن ارادة شعبه على التضامن وحماية البلاد من مخاطر احتلال اجنبي قوية جداً وتصل الى حدود التضحية بالذات دفاعاً عن الوطن. وبعد ان تيقن المصلحون اليابانيون من عقم التعليم التقليدي المقتبس عن الصين والذي لم يساعد الصين نفسها على تلافي حرب الأفيون، والنزاعات الداخلية، والاحتلال الأجنبي، بادروا الى إطلاق دعوة جريئة جسدها الامبراطور مايجي بشعاره المعروف: "إلحقوا بالغرب وتجاوزوه". فاليابان عاجزة عن مواجهة القوى الخارجية ما لم تدخل تغييرات جذرية وشاملة على بناها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والتربوية والثقافية وغيرها. وتم توصيف الضعف الذي عانته اليابان في مرحلة العزلة الطويلة بأنه يعود الى امرين اساسيين: افتقار اليابان للعلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة من جهة، وتفكك البنى الداخلية فيها بسبب النزاعات المستمرة بين جماعة الشوغون او الحاكم العسكري وجماعة الامبراطور من جهة اخرى. فكان لا بد من رفع شعار استقلال اليابان وحماية ارضها المقدسة من دنس الاحتلال الأجنبي، وهذا ما عرف بنظرية الكوكوتاي في الفكر الياباني الحديث وتعني "الأرض المقدسة والإمبراطور المقدس". شجع الامبراطور مايجي بناء جيش عصري قوي، كما شجع التعليم العصري، وأرسل الكثير من البعثات الى الخارج، واستقدم عدداً كبيراً من الخبراء الأجانب للعمل في اليابان ومساعدة ادارتها على بناء نهضة حديثة تمكنها من ان تصبح امة قوية وغنية وقادرة على منافسة اقوى الدول في العالم. لكن المصلحين اليابانيين فرضوا رقابة صارمة على الثقافة الغربية الوافدة انطلاقاً من شعار الامبراطور مايجي الثاني والأهم: "التكنولوجيا غربية اما الروح فيابانية". عايش فوكوزاوا مرحلة التحولات الكبيرة هذه وهي الأشد خطورة في تاريخ اليابان الحديث. وانتشرت الإصلاحات على نطاق واسع لتنتقل باليابان من العزلة الطوعية الى الانفتاح القسري على الغرب، وتتحول من التعليم التقليدي الى التعليم العصري، وتتجاوز مرحلة النظام الزراعي المتخلف الى النظام الصناعي المتطور، وتحول اليابان من بلد ضعيف تتنازعه ميليشيات محلية ذات طابع قبلي او عائلي الى دولة مركزية قوية يحميها جيش نظامي مسلح بأحدث الأسلحة. وتوجت تلك الإصلاحات بالإعلان عن قيام مؤسسات مالية وتجارية وإدارية وثقافية على النمط الغربي، ودستور جديد، وتطوير النظام الاحتكاري الذي ادى الى قيام شركات احتكارية يابانية كانت على علاقة وثيقة بالامبراطور نفسه وبتحالف الامبراطور مع قادة الاحتكارات المالية والصناعية الكبرى أو الزايباتسو تحولت اليابان الى دولة قوية جداً انزل جيشها العصري هزائم متلاحقة وسهلة بدول الجوار الإقليمي، خصوصاً روسياوالصين وكوريا في السنوات الأخيرة من القرن ال 19 والأولى من ال20. حرص فوكوزاوا في سيرته الذاتية على ابتعاده الدائم عن العمل السياسي وعن قبول الوظائف الحكومية. لكنه نذر نفسه على الدوام لإطلاق ثقافة عصرية جديدة في اليابان تساعد رجال السياسة والاقتصاد والإصلاح على بناء دولة عصرية. ختاماً، لقد اجرى رؤوف عباس دراسة مقارنة بين فكر رفاعة الطهطاوي وفوكوزاوا نشرها اولاً بالإنكليزية في طوكيو عام 1990، ثم اعاد نشرها بالعربية في القاهرة عام 2001 تحت عنوان "التنوير بين مصر واليابان". فقد تأثر الرجلان عميقاً بالثقافة الغربية ودعيا الى اقتباس ما هو مفيد منها، مع تحصين المجتمع لتجنب مضارها الكثيرة ما امكن. فبدت نقاط التشابه والاختلاف كبيرة بين الرجلين. لكن المؤلم فعلاً ان الطهطاوي مات منسياً في احدى القرى المصرية، في حين تربع فوكوزاوا سعيداً على اعلى ورقة نقدية في اليابان بعد ان حفر اسمه عميقاً في الذاكرة اليابانية من خلال مؤلفاته وترجماته الكثيرة التي طبعت مراراً وبملايين النسخ، جامعة كيو الرائعة.