ليس لجوائز "الغولدن غلوب" التي تمنح سنوياً في هوليوود لبعض أبرز الأفلام والممثلين الذين يظهرون في العام الفائت، قيمة جوائز "الأوسكار" ولا أهميتها على وضعية الأفلام وعلاقتها بجمهورها. ومع هذا يهتم بها الإعلام العالمي اهتماماً كبيراً، من ناحية، لأن رجال هذا الاعلام هم الذين يحددون الفائزين فيها، ومن ناحية ثانية لأن توجهات الفوز في هذه الجوائز تعتبر مؤشراً أولياً على ما ستنتهي اليه الأمور في عملية توزيع جوائز الأكاديمية المعروفة باسم "الأوسكار". والمراقبون عن كثب يعرفون أن معظم الرابحين في "الغولدن غلوب" يكونون هم أنفسهم الرابحين في جوائز "الأوسكار"، وبالتالي قد يكون في الإمكان، أحياناً، استخلاص بعض النتائج حول التوجه العام لفنون السينما والتلفزة أيضاً منذ فترة من الزمن حتى من قبل أن تتيح نتائج الأوسكار ذلك، علماً أن "الغولدن غلوب" تأتي شهراً تقريباً، قبل "الأوسكار". من ناحية مبدئية، لن يدهش أحداً ان يعرف ان الفيلم ذا الانتاج الضخم "عودة الملك" وهو الجزء الثالث والأخير من ثلاثية "سيد الخاتم"، قد فاز بحصة طيبة من جوائز الغولدن غلوب أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل موسيقى وأفضل أغنية. فهذا الفيلم، على رغم ضخامته وكونه منتمياً الى عالم الانتاجات العملاقة، هو في الوقت نفسه فيلم متميز، لا يخلو من لمسات فنية رائعة، بل ان فيه من اللحظات والمشاهد ما يجعله قادراً على أن يعتبر، أيضاً، فيلم "مؤلف" حقيقي، خصوصاً اننا نعرف ان الفيلم، كسابقيه في الثلاثية، مأخوذ عن واحدة من أغرب وأروع روايات "الخيال العلمي" التي صدرت في القرن العشرين، وان تحويل رواية تولكين هذه الى فيلم، كان حلماً راود عدداً كبيراً من السينمائيين طوال النصف الثاني من القرن العشرين، لكن الحاجز الدائم كان الاقرار بأن هذا التحويل مستحيل. إذاً، بيتر جاكسون، النيوزيلندي الضخم، حقق ذلك المستحيل، وكانت النتيجة فيلماً يجمع الضخامة الهوليوودية المعهودة، والابداع الفني الحقيقي. من هنا لم يشكل فوز هذا الفيلم ومخرجه أية مفاجأة... المفاجأة في مكان آخر... وفي مكان يشير في اتجاه "الأوسكار" بأمل سينمائي كبير: المفاجأة حملت عنوانين اساسيين: "ضاع في الترجمة" و"مستيك ريفر". فهذان الفيلمان حصدا بدورهما جوائز "غولدن غلوب" عدة، ما يعني احتمال حصدهما جوائز كثيرة في مسابقات "الأوسكار". فإذا عرف المرء ان محققة الفيلم الأول هي صوفيا كوبولا، ابنة فرانسيس فورد كوبولا أحد عمالقة هوليوود منذ ثلاثة عقود وحتى الآن، وان محقق الفيلم الثاني هو كلينت ايستوود، الممثل الذي كان العنف - ودائماً على الطريقة الهوليوودية - صنواً لتاريخه كممثل، سيتساءل هذه المرة: أين الجديد وأين الأمل، إذاً؟ حسناً... انه هنا بالتحديد. فإذا كان "ضاع في الترجمة" و"مستيك ريفر" فازا بجوائز عدة من بينها أفضل ممثل كوميدي، لبيل موراي - في فيلم صوفيا كوبولا، الذي فاز خصوصاً بجائزة أفضل فيلم كوميدي، وجائزة أفضل ممثل لشين بن وأفضل ممثل مساعد لتيم روبنز، عن فيلم "مستيك ريفر"، فإن الفوز لم يكن بسبب هوليوودية الفيلمين، بل بسبب سعيهما الى الخروج عن الهوليوودية. وليس فقط لأن شين بن وتيم روبنز، ممثلان منشقان سياسياً ليسا عن هوليوود وحدها، بل عن السياسة الأميركية في شكل عام، بل أيضاً لأن "مستيك ريفر"، كما حال "ضاع في الترجمة"، فيلم منشق عن السياق الهوليوودي العام. فالأول فيلم شديد الحساسية شديد الانسانية يكاد ينتمي الى نوع فائق الحميمية من السينما الصينية يمكن المقاربة هنا بينه وبين "في مزاج الحب" لكارووكي، هذا الفيلم الهادئ البسيط الذي أقام عالم السينما ولم يقعده منذ سنوات قليلة، والثاني فيلم ممثلين بالدرجة الأولى، حققه كلينت ايستوود، الذي اعتاد كمخرج ان يقدم عملاً رائعاً، مرة كل سنتين على الأقل، انطلاقاً من موضوع ربما طرق في هوليوود مئة مرة من قبل، لكنه يُطرق هنا لكي يمكّن عدداً من الممثلين، من تقديم أداء رائع يدخل في صميم المشاعر الانسانية. وهذا الأمر أيضاً، يكاد يكون غائباً عن هوليوود منذ سنوات طويلة. والحال ان في إمكاننا، انطلاقاً من هنا، أن نقول ان ما كوفئ عليه الفيلمان، في الوقت نفسه، إنما هو هذه العودة الى الانسان... الى المشاعر، وبالتالي الى الموضوع البسيط المحاط بقدر كبير من الحساسية الانسانية. من هنا، أفلا يمكننا، يا ترى أن نرى في هذا كله نوعاً من الرد الواضح والفصيح، على سينما صارت - منذ سنوات - أشبه بآلات عملاقة تصنع في برمجة معينة، تعرف سلفاً نوعية جمهورها وردود أفعاله، ونسبة الأرباح الى التكاليف... سينما لا يتورع، مثلاً، واحد من أكبر المجالات السينمائية البريطانية، مرة في كل عام على الأقل، ليس فقط عن التنبؤ بنجاح أفلامها أو عدمه، بل حتى، عن تحديد المبالغ التي سيربحها كل فيلم، شهوراً قبل عرضه؟ هذه السينما الرقمية بكل معاني الكلمة المبرمجة تماماً، والتي تصنع في غرف المحاسبة، أكثر مما في غرف التوليف، هي السائدة منذ حين، وهي الرابحة، وهي التي يقبل عليها وعلى نجومها - ذوي الأجور الباهظة - جمهور يزداد تتفيهه عاماً بعد عام، وبمقدار ما تصغر أعماره. هذه السينما أتت اذاً، لمجابهتها أفلاماً من نوع آخر تماماً، في "غولدن غلوب" هذا العام، ربما تحمى المجابهة أكثر في مسابقات "الاوسكار". غير ان هذا لا يمكن اعتباره جديداً في الحياة السينمائية: "كان" في العام الفائت أعطى معظم جوائزه لأعمال عميقة وبسيطة، تقف على الضد من العملقة الهوليوودية "فيل" و"الغزوات البربرية" و"أوزاك" التركي.... وكذلك لم يتورع مهرجان البندقية عن منح الأسد الذهبي لفيلم روسي شديد الحميمية والفنية هو "العودة". و"العودة" الروسي هذا نفسه، كان أحد الأفلام الكثيرة المرشحة في مباريات "غولدن غلوب" لجائزة أحسن فيلم أجنبي، تسبقه شهرته الواسعة ومكانته العميقة. ومع هذا، وضمن توجه لافت وفائق الدلالة، جرى اختيار فيلم أفغاني بسيط ومتقشف للفوز بالجائزة. وهذا الفيلم هو "أسامة" لصديق بارماك، الذي يعتبر أول سينمائي أفغاني يستأنف في بلده بدايات سينمائية قديمة كان حكم "طالبان" المتخلف أوقفها. و"أسامة" الذي يقدم موضوعاً يشبه موضوع فيلم "يينتل" الذي حققته باربارا سترايسند عن رواية لاسحاق باشفيتس سنغر قبل ربع قرن، فتاة تزعم انها فتى حتى تتمكن من العمل ثم الالتحاق بمدرسة دينية هي وقف على الذكور، حتى ينكشف أمرها، "أسامة" هذا، كان سبق له أن فاز في مسابقات عدة سابقة، منها "كان" نفسه. ومن الواضح ان ما كوفئ، مرات عدة، في هذا الفيلم انما هو بساطته وعمقه الانساني... وهو في هذا يبدو غير بعيد على الاطلاق من الخلفيات التي حكمت فوز "ضاع في الترجمة" أو "مستيك ريفر" أو حتى "فيل" و"أوزاك" و"العودة" وكل هذا الرهط من أفلام تأتي خلال الآونة الأخيرة، لتقول قدرة السينما على الحضور والفوز، من دون أن تضطر الى أن تكون ماكينات ضخمة همها الوحيد حصد الأرباح، ودفن فن الصورة أكثر وأكثر خلف تكنولوجيات الحداثة اللامؤنسنة على الاطلاق. وفي اعتقادنا ان هذا الواقع - الذي لا يمكن اعتباره جديداً على أية حال... الجديد هو حضوره الأكثر فصاحة أكثر وأكثر، والأضواء التي باتت مسلطة عليه كلياً -، يشكل في حد ذاته درساً، لكل أولئك الحالمين الذين يريدون خوض فن، لكن الواقع السائد، يحبطهم موحياً اليهم ان السينما إما أن تكون ماكينات ضخمة أو لا تكون!