مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    الأمن.. ظلال وارفة    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    ضيوف برنامج خادم الحرمين يؤدون العمرة    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    «إسرائيل» ترتكب «إبادة جماعية» في غزة    التحليق في أجواء مناطق الصراعات.. مخاوف لا تنتهي    من «خط البلدة» إلى «المترو»    أهلا بالعالم    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    كرة القدم قبل القبيلة؟!    قائمة أغلى عشرة لاعبين في «خليجي زين 25» تخلو من لاعبي «الأخضر»    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    ضبط شخص افتعل الفوضى بإحدى الفعاليات وصدم بوابة الدخول بمركبته    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    رفاهية الاختيار    النائب العام يستقبل نظيره التركي    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    استثمار و(استحمار) !    وسومها في خشومها    وانقلب السحر على الساحر!    منتخبنا كان عظيماً !    الضحكة الساخرة.. أحشفاً وسوء كيلة !    الأخضر يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة العراق في خليجي 26    نيابة عن "الفيصل".. "بن جلوي" يلتقي برؤساء الاتحادات الرياضية المنتخبين    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    إحباط تهريب (140) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    آل الشيخ: المملكة تؤكد الريادة بتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن حكومة وشعبا    موارد وتنمية جازان تحتفي بالموظفين والموظفات المتميزين لعام 2024م    "التطوع البلدي بالطائف" تحقق 403 مبادرة وعائدًا اقتصاديًا بلغ أكثر من 3مليون ريال    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    مسابقة المهارات    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أدار مكتبي البكر وصدام وتولى الإعلام ورافق ملفات السياسة الخارجية وزيراً وسفير . حامد الجبوري : دهاء سجين اسمه عماش استدرج زميله البكر إلى حزب البعث حبش في تشييع "خاطف الطائرات": رأيت حداد يصفع الرجل الذي هز العالماً الأخيرة
نشر في الحياة يوم 28 - 09 - 2003

ولد حامد الجبوري في ريف محافظة بابل جنوب بغداد في 1932. توجهه إلى الجامعة الأميركية في بيروت لدراسة العلوم السياسية شكل منعطفاً في حياته. ففي تلك الجامعة التقى شباناً غاضبين وحالمين سيهزون المنطقة والعالم، في طليعتهم جورج حبش ووديع حداد. وفي شقة قرب تلك الجامعة كان الجبوري يلتقي ميشال عفلق. وبعد عودته إلى بغداد سيلتقي الجبوري في السجن أحمد حسن البكر الذي اجتذبه البعثيون وراء القضبان.
وهنا نص الحلقة الأخيرة:
متى جئت إلى الجامعة الأميركية في بيروت؟
- في 1948 لدراسة العلوم السياسية.
من هم أبرز رفاقك في تلك المرحلة؟
- أبرز الطلاب الذين التقيتهم كان جورج حبش الذي كان يدرس الطب وزميله أحمد الخطيب وجمال الشاعر وعلي خريس ووديع حداد وهاني الهندي. الواقع ان الطالب جمال الشاعر هو الذي شجعني على دخول حزب البعث العربي بعدما زودني بعض الأدبيات الخاصة به. وهي كانت محدودة. هكذا دخلت "البعث" في نهايات 1948. وكانت هناك مجموعة من البعثيين منها علي خريس ومحمد عطاالله رئيس مجلس الانماء والإعمار في لبنان لاحقاً وعبدالمجيد الرافعي في طرابلس. كانت منظمة حزب البعث صغيرة لكن منسجمة. في عطلة الأسبوع كان الاستاذ ميشال عفلق يزور بيروت وكان شديد الاهتمام بطلاب الجامعة الأميركية التي كانت حاضنة لكثير من الحركات السياسية، خصوصاً مع وجود الطلاب العرب فيها.
أين كنتم تلتقون؟
- في شقة واحد منّا قرب الجامعة الأميركية.
صورة عفلق
كيف كانت شخصية عفلق؟
- كان أقرب إلى المفكر منه إلى القائد السياسي. هذا هو الانطباع الذي كوناه. إنه رجل يتعاطى النظريات وليس قائداً سياسياً عملياً يدير مسائل يومية. طبعاً يجب الاعتراف اننا اعجبنا بعفلق وطروحاته. كانت المرة الأولى التي نستمع فيها إلى هذا التزاوج بين الوحدة والحرية والاشتراكية، وبين الأمة الواحدة والرسالة الخالدة. كان هناك عطش لسماع مثل هذا الكلام في ظروف النكبة التي شهدتها فلسطين. كانت هناك رغبة في تغيير الواقع وقلب صفحة الضعف العربي والتشتت العربي. سيطرت تلك الشعارات على مخيلتنا.
ماذا حدث في 1949؟
- حصل انقلاب حسني الزعيم في سورية. وشاءت المصادفة أن أكون في طريقي إلى دمشق في مهمة حزبية. لدى وصولنا إلى شتورة لاحظنا أن الصحف اللبنانية أصدرت طبعات استثنائية خلال النهار لتغطية التطورات في سورية. وعرفنا أن الحدود اغلقت. عدت إلى بيروت. عرفنا لاحقاً ان السلطات الجديدة اعتقلت عفلق ووضعته في سجن المزة. وبعدها بوقت قصير تلقينا نبأ صاعقاً مفاده أن عفلق بعث إلى حسني الزعيم برسالة يعلن فيها حل حزب البعث مرفقة بشيء من الاعتذار. وفعلاً غادر عفلق السجن وتوجه إلى البرازيل. اصيب حزب البعث الناشئ بصدمة عنيفة، خصوصاً ان اعضاءه كانوا من الشباب مع ما يمكن أن يعنيه ذلك من حماسة ورومانسية وأفكار عن القائد. خرج عدد من البعثيين من الحزب.
في تلك المرحلة كانت هناك حركة مجال عملها في سورية وتحمل رومانسية ثورية استهوتنا. وكان من الناشطين في تلك الحركة جورج حبش وكانت تسمى "كتائب الفداء العربي" وهي تعتمد العمل المسلح. كان الأب الروحي للحركة الدكتور أمين رويحة، وهو طبيب عسكري متقاعد كان مديراً للشؤون الطبية في الجيش العراقي ابان العهد الملكي ثم انتقل إلى سورية. إضافة إلى وزير دفاع سوري سابق كان أيضاً مع رويحة. آخر عمل قامت به "كتائب الفداء العربي" كان محاولة اغتيال اديب الشيشكلي. اطلقت مجموعة النار على الشيشكلي على مقربة من دمر. واعتقل المنفذون وبينهم عراقيون وسوريون وفلسطينيون ولبنانيون. وضمت الكتائب شابين مصريين هما حسين توفيق وعبدالقادر عامر. حسين توفيق كان شارك في عملية اغتيال أمين عثمان وزير المال الوفدي. أدلى عثمان بتصريح قال فيه إن العلاقة بين مصر وبريطانيا العظمى تشبه "الزواج الكاثوليكي". قرر شبان مصريون اغتياله وكان توفيق من ضمنهم وجاء لاحقاً إلى سورية وانضم إلى "كتائب الفداء العربي". واعتقل في قضية أمين عثمان النقيب أنور السادات واحيل على التقاعد. ويقال إن الملك فاروق سهل خروج توفيق من السجن.
لم انتسب إلى "كتائب الفداء العربي" لكنني كنت على صلة وثيقة بها عن طريق جورج حبش الذي عرفني بتوفيق في بيروت التي اختفى حبش فيها إلى أن انتهى عهد الشيشكلي.
تضعضعت "كتائب الفداء العربي"، ففكرنا في تشكيل تنظيم سُمي لاحقاً "حركة القوميين العرب"، وهي نشأت عملياً في أحضان المخيمات الفلسطينية في لبنان.
من شارك في التأسيس؟
- جورج حبش، وهو اللولب الأساسي، ووديع حداد وأحمد الخطيب وهاني الهندي وأنا.
حبش المحرك
كيف كانت شخصية حبش؟
- منذ البداية توافرت في شخصية حبش مؤهلات القيادة. شخصيته قوية، خطيب مفوه قادر على ملامسة عقل المستمع ومشاعره، محلل جيد، قادر على بناء علاقات إنسانية رائعة. على الصعيد الشخصي رجل صادق ويبني علاقات دافئة. يعتمد البساطة في العيش. كانت شخصيته مؤثرة.
وحداد؟
- شخصية حداد مختلفة تماماً عن شخصية حبش وأكاد أقول إنها على النقيض. اننا نتكلم عن الأشخاص كما بدوا في تلك المرحلة وليس لاحقاً. كان حداد شاباً خجولاً يحمر وجهه إذا سمع كلمة مزاح، وخالجني شعور ان شخصيته ضعيفة أو تفتقر إلى القماشة القيادية. لم نتوقع منه أن يكون قائداً. وظهرت شخصية حداد الأخرى لاحقاً حين شغل العالم بمسألة خطف الطائرات.
كيف كانت علاقة حبش وحداد؟
- حميمة جداً. بعد بيروت توجهنا إلى عمّان. أقمنا في شقة صغيرة فوق جامع الملك حسين. كان ذلك في نهاية 1952 وبداية العالم التالي.
هل عرفت محسن إبراهيم في تلك المرحلة؟
- عرفته لاحقاً في بغداد خلال عملنا في "حركة القوميين العرب". محسن من الجيل الثاني أي الجيل الذي جاء بعد المؤسسين.
ماذا فعلتم في عمّان؟
- قمنا بنشاطات واسعة في أوساط المثقفين. أصدرنا صحيفة سرية سميناها "الرأي"، وكان توزيعها جيداً. لم تكن السلطة قاسية في تلك الفترة، فالملك حسين كان في البدايات. مثلاً ابنة سمير الرفاعي، رئيس الوزراء آنذاك، كانت لها علاقة زمالة مع الدكتور حبش ووالدها كان يعرف بتعاطفها مع هذا الاتجاه. حمد الفرحان، وكيل وزارة التجارة آنذاك، كان جزءاً من النشاط العام للحركة. هذه العلاقات كانت توفر نوعاً من الحماية.
وماذا بعد عمّان؟
- أنا توجهت إلى بغداد وبدأنا تشكيل فرع حركة القوميين العرب هناك. تشكلت قيادة ضمت باسل الكبيسي وهاني الهندي ارسل من دمشق وأنا، والتحق بنا في وقت لاحق نايف حواتمة. في النصف الثاني من الخمسينات كانت "حركة القوميين العرب" تأتي في المرتبة الثانية بعد حزب البعث لجهة النشاط السياسي. بعد ثورة 1958 حصل فرز في المجتمع العراقي: التيار العروبي القومي من جهة، والتيار اليساري الشيوعي القاسمي نسبة إلى عبدالكريم قاسم من جهة أخرى. حصلت الثورة في 14 تموز يوليو 1958 واعتقلت في 22/12/1958.
لقاء وراء القضبان
أين سُجنت؟
- في سجن الموقف في بغداد والتقيت هناك العقيد أحمد حسن البكر الذي كان آمر فوج في اللواء العشرين الذي كان مرابطاً في الكرخ، وهي المنطقة التي تضم مبنى الإذاعة والتلفزيون. بعد اندلاع الصراع بين قاسم وعبدالسلام عارف، فكر البكر في ترتيب انقلاب لكن المعلومات تسربت ليلة التنفيذ فاعتقل وسُجن. والقصة هنا طريفة. كان بين ضباط الفوج شاب برتبة ملازم ثان تكريتي. لسوء الطالع أن ذلك الشاب بلغه آنذاك أن عمه الحاج سعدون التكريتي قُتل على يد شاب اسمه صدام حسين. ولأن الشاب تكريتي ويعرف أن صدام قريب للبكر، لجأ في خطوة ثأرية إلى افشاء سر المحاولة.
هل هذه المعلومات أكيدة؟
- كنت والبكر في قاووش واحد. أما القاووش الآخر فكان يضم قياديين من حزب البعث: علي صالح السعدي وصالح مهدي عماش وفيصل حبيب الخيزران. تعرفت إلى البكر ولم يكن بعثياً يومها. البكر كان متديناً ويؤدي الصلوات ولديه انطباع أن البعثيين لا يهتمون بالدين. الرائد السجين صالح مهدي عماش اعتبر أن أفضل طريقة للتأثير على البكر هي الصلاة وراءه. وهكذا راحوا يصلّون وراء البكر. كسب عماش تدريجاً عواطف البكر. كانت الموجة الشيوعية والقاسمية عاتية. وكان التيار القومي موزعاً في صورة شراذم. وفي اعتقادي أن سلطة جمال عبدالناصر وأجهزته لعبت دوراً في تفتيت التيار القومي. كان يذهب شخص بتوصية من الاستخبارات المصرية في بغداد فيستقبله عبدالناصر وتقدم له الأجهزة الدعم، فيعتبر نفسه الرجل الأول في التيار القومي في العراق. وهكذا صار اللقاء بين الشراذم القومية صعباً.
ماذا جرى أيضاً في السجن؟
- فوجئنا ذات يوم بزيارة من الرائد عمر فاروق محمد جلال من الاستخبارات العسكرية العراقية ومعه ثلة من معاونيه. كان عدد العسكريين في السجن نحو 11 ضابطاً من رتب مختلفة. وصل عمر فاروق إلى أمام المقدم السجين فاضل الساقي. حصلت مشادة كلامية بين الرجلين، وإذ بعمر يوجه صفعة إلى الساقي الذي هجم عليه بعنف لكن المرافقين ضبطوه. فهمنا لاحقاً أنه صبيحة 14 تموز 1958 كان المقدم الساقي في الفوج الذي يرأسه أحمد حسن البكر وكانت مهمته السيطرة على القصر الملكي في مدخل الأعظمية وعلى سرية الخيالة المقابلة له. كان عمر فاروق من سرية الخيالة وكان شاباً جميلاً يظهر في المناسبات على حصانه الأبيض. فاضل الساقي بعد السيطرة على الأماكن التي كلف السيطرة عليها انسحب إلى معهد الفنون الجميلة المقابل للقصر الملكي. حر تموز في بغداد معروف. لهذا نزع حذاءه وجلبوا له وعاء ماء ليضع قدميه فيه. يقول الساقي إن المرافق جاءه وقال له إن عمر فاروق يريد أن يراه فطلب منه ان يدخله، وإذ بعمر فاروق ينحني ويتوسل فانفعلت ودفعته وقلت له: "انت ضابط في الجيش العراقي، لا يجوز أن تظهر هذا الجبن والتخاذل وأمام الجنود". وضربته من شدة تأثري.
دارت الأيام، وإذا بعمر فاروق هو السجان هذه المرة ويسدد حسابه مع المقدم فاضل الساقي. عمر فاروق زميل دراسة لي في الحلة. جاءني بعد ثورة 1958 وكنت موظفاً في وزارة المال وكانت مضت سنوات لم أره فيها. هببت لاستقباله معانقاً وإذ به يدفعني بقسوة. قال: تفضل معي. فوجئت أن سيارتين من الانضباط العسكري معه. سألني عن منزلي فقلت في الوزيرية، فتوجهوا بي إلى هناك. لم يكن المفتاح معي فاقترحت عليه أن نتصل بأخي عدّاي وهو صديقه أيضاً فرفض، وطلب من الجنود أن يحطموا الباب ففعلوا. أخذني بيده إلى السجن وأوصى مديره بمضايقتي. حكيت هذه القصة لفاضل الساقي.
إلى متى بقيت في السجن؟
- أحلت إلى المجلس العرفي العسكري وحكم عليّ بالسجن سنتين. بعد صدور الحكم نقلت من معتقل الموقف إلى سجن بعقوبة وتحديداً في جناح السجناء السياسيين فيه. بعد محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم في 1959 والتي شارك فيها صدام، انضم إلينا في السجن عدد من المنفذين وبينهم الدكتور تحسين معلّة.
في معتقل الموقف تشكلت لديّ قناعة بأن التيار القومي لن يستطيع الوقوف في وجه التيار الشيوعي والقاسمي الجارف إلا إذا تم دمج الحركتين القوميتين الأبرز في الساحة العراقية، وهما حزب البعث وحركة القوميين العرب. للانصاف كانت لدى البعث حيوية أكبر وكانت له قيادة في دمشق.
علي صالح السعدي
التقيت في السجن علي صالح السعدي، كيف كانت شخصيته؟
- على الصعيد الشخصي كانت أطباع الرجل محببة ويتصف بالشجاعة لكن إلى حدود التهور ومن دون امتلاك العمق السياسي الضروري والافق الواسع. واعتقد ان جزءاً من هذه الملاحظات ينطبق على عماش أيضاً. قلت للسعدي وعماش وفيصل حبيب الخيزران ما أفكر به لجهة ضرورة اندماج الحركتين. وكنت في داخلي مستعداً أن يكون حزب البعث هو القائد من أجل مصلحة البلد. المهم هو تحقيق الهدف.
متى خرجت من السجن؟
- في 1961. وبين 1961 و1963 اعتقلت مرتين بسبب النشاط السياسي.
متى صرت رسمياً في حزب البعث؟
- في 1966.
لم يكن لك دور في حركة 8 شباط فبراير 1963؟
- لم أكن في الحزب.
لماذا اعطوك إذاً امتياز صحيفة "الشعب"؟
- كانوا يعرفون موقفي وتوجهي ثم أن صداقة كانت تربطني بالبكر والسعدي وآخرين. أنا جذوري بعثية واعتبرت دائماً أن الأحزاب ليست هدفاً، بل طريقاً لتحقيق المصلحة العليا. في البداية سميت الصحيفة "العروة الوثقى" على غرار المطبوعة التي كنا نصدرها في الجامعة الأميركية في بيروت.
من كان يموّلها؟
- من الإعلانات المتواضعة ومني.
لم تساعدها السلطة؟
- لا.
الشيوعيون سبقوا البعثيين
ماذا بقي من ذاكرتك من الفترة الفاصلة بين وصول البعثيين إلى السلطة في 8 شباط 1963 واخراجهم منها في 18 تشرين الثاني نوفمبر من السنة نفسها؟
- اذكر تلك الفوضى العارمة. ارتباك كبير. وأذكر أيضاً تجاوزات "الحرس القومي".
والتعذيب في "قصر النهاية"؟
- المشكلة أن الشيوعيين سبقوا البعثيين في ادخال هذا الاسلوب. الشيوعيون ادخلوا اسلوب تعليق الجثث على أعمدة الكهرباء، كما فعلوا في الموصل، والقتل بمجرد الظن والشك. كانت ممارسات الشيوعيين قاسية وفظة واجرامية ضد الشيوعيين وأهات أخرى. وللأسف الشديد وفي مناخ الثأر ومحدودية الخبرة في الحكم، مارس البعثيون الاسلوب نفسه. قاد علي صالح السعدي، وزير الداخلية، عملية تصفية الشيوعيين. وكان منذر الونداوي قائداً ل"الحرس القومي"، في حين اعطي صدّام بعد عودته رتبة ملازم. لعب صدّام دوراً في 18 تشرين الثاني، وكان شبه مرافق لحردان التكريتي. أي أن صدّام لعب دوراً في تصفية حزب البعث حين مشى مع التكارتة وكان موقفهم يصب في خدمة عبدالسلام عارف.
مؤامرة كزار
لم تتذكر ناظم كزار؟
- كان كزار مسؤولاً عن تعذيب الشيوعيين في مبنى كان يشغله مجلس النواب في العهد الملكي. وكان معه سعدون شاكر وعلي رضا باوه وجبار كردي ومحمد فاضل اعدم في 1979. هؤلاء مجموعة من الشقاوات. أكثرهم من منطقة الفضل المعروفة في بغداد بأنها تضم قبضايات أحياء. هذه المجموعة كانت مكلفة تعذيب الشيوعيين وغير الشيوعيين.
متى التقيت ناظم كزار؟
- لا اذكر متى التقيته للمرة الأولى، لكنني عرفته عن كثب. رجل لا حدود لقسوته.
هل كان صدّام يحبه؟
- صدّام لا يحب أحداً. كان يعتمد عليه. صدّام يقتني أدوات في مجالات متعددة. استخدمت مجموعة الشقاوات في عمليات التصفية والقتل.
كنت وزيراً للإعلام حين حصلت "مؤامرة ناظم كزار" في 1973، هل تعتقد أن صدّام كان ضالعاً فيها؟
- لا دليل في هذا الموضوع. تجمعت شبهات كثيرة لكن من دون دليل. تردد أن صدّام قد يكون المحرك الأساسي وأنه ربما شجع كزار على اغتيال البكر على أن يقتل كزار بعد ذلك ويتخلص من الاثنين.
أريد هنا أن أضع هذه الأحداث في إطار أشمل، وهو إطار الصراع الخفي الذي كان يدور على الساحة العراقية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. كان بعض الحلقات في حزب البعث يهمس سراً أن صدّام حسين هو رجل الولايات المتحدة.
كيف ولماذا؟
- اشارات كثيرة تدفع إلى هذا الاعتقاد. كان البكر أكثر ميلاً إلى الاتحاد السوفياتي، في حين كان صدّام بعيداً عن هذا الميل. سأقول ما ذكره صدّام لي شخصياً ويشهد الله انني لا أقول إلاّ الحقيقة وأتمنى أن يقرأ صدّام هذا الكلام. في 1979 وبعد ما سماه مؤامرة وما أمر به من إعدامات، قال لي ذات مساء: مؤامرة 1973 ومؤامرة 1979 وراءهما جهاز ال"كي جي بي" السوفياتي وكان يشرك سورية في المؤامرة الثانية.
لنعد إلى قصة كزار. كان البكر في زيارة إلى دولة اشتراكية. اكتشفت ال"كي جي بي" وجود مؤامرة لاغتياله لدى عودته إلى بغداد، فطلبت من جيفكوف أن يستبقيه بضع ساعات. قسم من ضباط الأمن البعثيين الذين شاركوا في العملية واعتقلوا أو جرحوا نقلوا إلى مستشفى الرشيد العسكري. وروى لي أطباء اثق تماماً بكلامهم ان بعض الجرحى قالوا لماذا يريد صدّام محاكمتنا أو إعدامنا فهو الذي أمر بتنفيذ العملية.
الحقيقة أن البكر كان قادراً، في البداية، لو أراد، على التخلص من صدّام. فالجيش كان يؤيد البكر والحزب أيضاً باستثناء البلطجية المحيطين بصدّام. البكر تردد. كان يعتقد أن التخلص من صدّام يعني فقدان ركن من أركان حماية وجود الحزب في السلطة. هاجس عدم تكرار تجربة 1963 جعل البكر يحتفظ بصدّام كذرع أمنية. ثم كان هناك من يحض البكر على تقريب أبناء العشيرة والمنطقة كضمانة لنظامه. في المقابل، لم يكن صدّام بحسه الأمني الخارق يطمئن إلى وجود البكر. كان يعد أوراقه في انتظار الوقت المناسب.
كانت قصة كزار شديدة التعقيد. اصيب وزير الداخلية سعدون غيدان بعد فرار كزار باتجاه الحدود مع إيران، وقتل وزير الدفاع حماد شهاب وهو رجل شجاع ومغامر يحظى باحترام في الجيش، وهو كان قائد فرقة في 17 تموز 1968. ومواصفات من هذا النوع تثير قلق صدّام الذي كان يعرف أيضاً العلاقة الحميمة التي تربط البكر بوزير الدفاع.
أعود وأقول إن ثمة اشارات تدفع إلى الاعتقاد أن صدام كان وراء العملية أو مستفيداً من حصولها مهما كانت النتائج، فهي لا بد وأن تسفر عن سقوط طرف من الأطراف. وهكذا انتهت المسألة بمقتل حماد شهاب واصابة غيدان وقتل كزار حتى لا ينطق بكلمة واحدة.
لذة التعذيب
من قتله؟
- قتله سعدون شاكر بيده. لم يسمح لكزار أن يمثل أمام محكمة حزبية للاستماع إلى وجهة نظره. طبعاً قصص كزار رهيبة. كان يتلذذ بتعذيب السجناء. كان يستقدم سجناء وفيما يتناول الفطور يطفئ سيجارته في أجسادهم.
كزار شيعي من العمارة من أصول متواضعة. كان والده رئيس عرفاء في الجيش. تخرج من معهد الصناعة العالي، وكان زميلاً وصديقاً لابن اختي حميد خلال الدراسة في ذلك المعهد. أي انه أقل من مهندس. أنا وقعت بيدي على قرار البكر منحه رتبة لواء لدى توليه إدارة الأمن العام.
وماذا أيضاً عن شخصيته؟
- رجل منغلق تماماً. مستعد للبقاء صامتاً على مدى ساعات. يحب الاستماع. وحين يسأل يكون جوابه مختصراً. متكتم. قصير القامة وشديد السمرة. وجهه متجهم عادة. حزبي من النوع المغلق.
بعد العملية ذهبت إلى القصر وتوجهت إلى مكتب صدّام فرأيته يفتعل التأثر ويروي. قال لي: "تصور كم هو صلف هذا ناظم. لم يعتذر. لم يقل إنه آسف. لم يندم". ثم بدأ صدّام يبكي من فرط تأثره من تجاسر كزار على ترتيب مؤامرة ضد الرئيس. إنه بارع في هذه المسائل.
كان وديع حداد زميلك في الجامعة الأميركية في بيروت، عدت والتقيته ذات يوم؟
- التقيته صدفة في بغداد في أوائل السبعينات. كان اللقاء عادياً ولم يكن حميماً. طبعاً كان وديع الذي يحب الظل قد صار نجماً ومطلوباً.
شاركت في تشييع حداد والتقيت جورج حبش هناك؟
- نعم. مشيت وحبش، وإذ به يقول لي ان الاستخبارات الألمانية الشرقية "ستازي" هي التي قتلت حداد. قال إنهم حقنوه بمادة تفتت الكريات الحمر في الدم وتتسبب في موت بطيء.
معلوماتي أن حداد ذهب إلى المانيا الشرقية مريضاً؟
- هذا ما قاله لي حبش يومها.
وماذا قال أيضاً؟
- قرب المقبرة وبانتظار مراسم الدفن، رحنا نتحدث عن أيامنا مع حداد في جامعة بيروت الأميركية. قال حبش: "هل تتذكر كيف كان وديع؟ كانت مواصفاته مطابقة لاسمه، فقد كان وديعاً وهادئاً وخجولاً. تصوّر كم تغيّر هذا الرجل. ذات يوم وأمامي وجه وديع صفعة إلى كارلوس الرهيب الذي يهز العالم، ولم يجرؤ الأخير حتى على الاعتراض.
كانت علاقات حداد قوية مع العراق؟
- نعم. كانت السلطات العراقية مهتمة بإقامة علاقات مع هذا الرجل الذي أدار عمليات خطف الطائرات لتذكير العالم بأن لا استقرار ولا أمان ما لم يستعد الفلسطينيون حقوقهم. لن أدخل الآن في مناقشة هذا الأسلوب في العمل، المهم ان حداد كان مهتماً بدوره في أن تكون له علاقة مع دولة مثل العراق. العلاقة تعني توفير الملجأ وربما الدعم. علاقته كانت مع الاستخبارات العراقية. ذات يوم قال لي سعدون شاكر مدير الاستخبارات: ما هذا صديقك وديع، لقد علمنا فنوناً كنا نجهلها ….
ونايف حواتمة؟
- صديق عزيز. أرسله حبش إلى بغداد ليساهم في عمل الحركة هناك. كانت المرة الأولى التي يزور فيها العاصمة العراقية. أسكناه في شقة صغيرة فلم تعجبه. وكان الحل أن اسكنه معي في البيت الذي اقيم فيه مع أخي عدّاي في الأعظمية. ولضمان التغطية جئت بأختي الكبيرة الحاجة كي لا يثير وجودنا معاً كشباب شكوك رجال الأمن. دخلت السجن وكان لا يزال مقيماً هناك.
ما هي قصة علاقة "أبو نضال" مع النظام العراقي؟
- كان الموضوع الفلسطيني هو الموضوع الأول في المنطقة. وكانت الدول الراغبة في دور قومي تعتبر هذا الموضوع مدخلاً لا بد منه أو تعتبر أصلاً في طليعة أولوياتها. لهذا حرصت هذه الدول إما على تشكيل منظمات فلسطينية موالية لها أو على اختراق المنظمات القائمة واكتساب ولاءات داخلها. لا أريد الخوض تفصيلاً في موضوع صبري البنا أبو نضال وانشقاقه عن حركة "فتح" حين كان مسؤولاً عن فيها عن اقليم العراق. ولأن "فتح" كانت تضم خليطاً من الاتجاهات ولأن النظام الذي كان يرفع راية التشدد، كان يخشى من أن تجنح إلى الاعتدال دعمت بغداد "أبو نضال" وتبنته.
في الحقيقة خاض "أبو نضال" حرباً طويلة ضد "فتح" ومنظمة التحرير وبنى شبكة من العناصر القادرة على تنفيذ اغتيالات. لا ادعي انني كنت على علم بالتفاصيل، فملف "أبو نضال" كان منذ الساعة الأولى لدى الاستخبارات. وهذا النوع من الملفات لا يطلع عليه الوزراء. فالتعاون مع الاستخبارات يعني توفير الدعم المالي وتبادل المعلومات وجوازات السفر وربما الحصول على تسهيلات في الخارج. في أي حال، كانت بغداد تحاول الافادة من "أبو نضال" وتوظيفه في خدمتها وهو كان يحاول الافادة مما تستطيع توفيره خصوصاً الملجأ الآمن. في النهاية يمكن القول إن "أبو نضال" تحول أداة استخدمتها بغداد كما استخدمتها لاحقاً دمشق وطرابلس. وكانت النتيجة ما انتهى إليه "أبو نضال" في بغداد نفسها.
ما هي قصة محاولة اغتيال صدّام على أيدي عسكريين من الجبور؟
- في 6 كانون الثاني يناير 1990 كان هناك احتفال سنوي بعيد الجيش يحضره عادة صدّام والوزراء وكبار المسؤولين. عدد من ضباط الحرس الجمهوري من الجبور بلوروا، بقيادة مقدم ركن اسمه سطام الجبوري، خطة بتكرار حادث المنصة الذي أودى بالرئيس أنور السادات. كانت الخطة تقضي بأن تمر الدبابات أمام الرئيس. وهي تكون في العادة منزوعة السلاح. رتب المخططون دبابة مع أسلحتها، وكان مقرراً أن تشارك في العرض، ولدى وصولها قبالة المنصة تستدير وتنسف المنصة بمن فيها. تسربت الخطة قبل وقت قصير جداً من التنفيذ وعن طريق قريب للمنفذين اطلع عليها وأفشى السر. أحضر رجال الاستخبارات شخصاً وعذبوه. اعترف فاعتقلوا الباقين. وعرفت لاحقاً أنهم سألوهم: "ماذا كنتم ستفعلون لو نجحت محاولتكم، أنتم ضباط ولا خبرة لديكم في إدارة شؤون الدولة، بمن كنتم ستستعينون؟". وجاء الرد: "كنا سنستعين بابن عمنا حامد الجبوري فهو وزير سابق وسفير وصاحب خبرة". سألهم المحققون: "هل فاتحتموه بذلك؟". فأجابوا بالنفي. واستفسروا إذا ما كانت هناك علاقة شخصية بيني وبينهم فتبيّن أنها غير موجودة. أنا لا أعرف الجميع وعدد الجبور يصل إلى مليونين. أعدمت السلطات 12 شخصاً في هذه المسألة. عرف صدّام انني غير متورط لكنه فكر أنه في حال تكرار المحاولة فهذا الشخص يحتمل أن يلعب دوراً.
وما قصة محاولة اغتيالك؟
- كنت في طريقي من بغداد إلى مدينتي الحلة حيث مزرعتي وعشيرتي. كنت أقود على الطريق السريع ومعي صديق هو عميد متقاعد. الطريق يمتد من بغداد إلى البصرة ويمر في الحلة. لم يعتد الناس على سلوك هذا الطريق وهو غير مفتوح للجميع، لكن سيارتي تحمل لوحة رسمية. لمحت من بعيد شاحنة ضخمة جداً متوقفة إلى جهة اليسار عندما اقتربت تحركت الشاحنة فجأة وسدت الطريق بصورة شبه كاملة ولم يكن أمامي غير الاصطدام بها. صديقي اصطدم رأسه بالمقدمة فنزف بغزارة واغمي عليه. أنا كنت وضعت الحزام فلم اتضرر باستثناء كدمات. حاولت فتح الباب، وعلى رغم وجود أناس على مقربة، لم يحاول أحد مساعدتي. بالصدفة وصلت سيارة تقل ثلاثة جنود بلباس مدني. أحدهم قدم اسعافات لصديقي ونقلناه إلى أقرب مستشفى. الحقيقة أن الحظ لعب دوره، إذ أن السيارة لم تصطدم بمنتصف الشاحنة، وهو ما كان يمكن أن يكون قاتلاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.