بعد أن تناولت الحلقة الثالثة وصول البعث الى الحكم في 1968، هنا التتمة : عام 1968 لم يكن لحزب البعث، بصفته هذه، دور في بلوغ السلطة. الدور كله كان للجيش ممثلاً بكتلتين تعاونتا لإطاحة عبد الرحمن عارف، وكان لهما، في 17 تموز يوليو، ما أرادتا. أما الكتلة الأولى فضمت ضباط البعث، ورأس حربتهم التكارتة. وكان هؤلاء استفادوا من أعمال التطهير العسكري التي لم تتوقف منذ الانقلاب الجمهوري في 1958. فالذين أحيلوا تباعاً على التقاعد تجاوزوا الثلاثة آلاف ضابط فيهم الملكيون، والقوميون، وجناح الوطنية العراقية الذي اهتز بسقوط قاسم، ثم ضباط الموصل والرمادي ممن التفّوا حول العهد العارفي. وأما الكتلة الأخرى فثلاثة من أركان العهد هم عبد الرزاق النايف مدير المخابرات العسكرية، وابراهيم الداوود قائد الحرس الجمهوري، وسعدون غيدان قائد اللواء العاشر، والثلاثة من محافظة عارف، الرمادي. هؤلاء تحالفوا مع البعث لأسباب تعددت: كان بعضها المغامرات التي تستهوي الضباط عادةً، وبعضها يأسهم من أوضاع سلطة تتردّى. ولئن توجّسوا من "حزبية" البعث و"اشتراكيته" وتجربة 1963 فقد افترضوا، بجهل مألوف في الضباط، أن للحزب وزناً جماهيرياً يفيد الانقلاب. ولما شارك النايف والداوود، قبل أعوام ثلاثة، في قمع انقلاب ناصري قاده عارف عبد الرزّاق، خافا انتقاماً من الناصريين لن تحول دونه سلطة مفككة كالعارفية. وبدورهم تخوّف البعثيون من طموحات هؤلاء، الا ان حاجتهم الى مواقعهم المؤثّرة بدت أكبر. وكان الأكبر على الدوام ثقتهم بقدرة على التآمر تزحزح الجبل، كثيراً ما يحتاجها مئات قرروا أن يحكموا ملايين. لكن عبد الرحمن عارف، بعدما حمله الانقلاب على مغادرة بغداد، أفاد أن أهداف الانقلابيين تعدّت طمع العسكريين المعهود بالسلطة. فالنايف، خصوصاً، أغراه المال الذي أبدت شركات النفط استعدادها لبذله ساعيةً، منذ منح الشركات السوفياتية عقد الرميلة الشمالي، وراء عملاء يطيحون الحكم. وشكّل حجب امتياز الكبريت عن شركة "بان أميريكان"، وإعطاؤه الى "إيراب" الفرنسية، بنداً آخر يحثّ على التغيير. ولاحقاً أشار النايف نفسه، في مذكرات أصدرها، إلى دورٍ في الانقلاب نسبه الى السي أي آي. ولا يُجمع دارسو ذاك الحدث على براءة الشريك. فقد أشير، مثلاً، الى لقاء واحد، على الأقل، بين أحمد حسن البكر وروبرت أندرسون، وكان وزيراً سابقاً للخزانة الأميركية يُكثر التردد على بغداد مُروّجاً شركات بلاده ومصالحها. على ان الموضوع الأهم لدى البعثيين ظل العودة، بأي ثمن، الى سلطة فقدوها في 1963. وبالفعل قطع بهم انقلاب 17 تموز ثلاثة ارباع الطريق، بنسبة عنفٍ لا تُذكر بالقياس العراقي. فالصراع حُسم بمجرد السيطرة على المواقع الحساسة والاستراتيجية، الأمر الذي مردّه الى تهافت النظام معطوفاً الى وحدة البيئة الجامعة بين المتنازعين. فحين كُتب النصر للانقلابيين عومل عبد الرحمن باحترام غير مسبوق في التعاطي مع الحكام المخلوعين. وبكل تهذيب وُضع على متن طائرة أقلّته الى اسطنبول. لكن منابع الشك بالبعث لا تنضب. فعبادة السلطة بذاتها ربما وجدت في الظروف الاقليمية ما تتغذى عليه. وحقاً ظهر من يرى في 1968، وكان انقضى عام على هزيمة الأيام الستة، سنة بحث أميركي محموم عن أطراف قومية النعت تناهض عبد الناصر ودمشق والمقاومة الفلسطينية الناشئة للتوّ. فانزعاج واشنطن من الضجيج الراديكالي الذي قد يصدر عن بغداد يبقى، بحسب هذا التأويل، أقل من ارتياحها الى مواقف تُربك الجهد الراديكالي الموالي لموسكو. ومن ناحيته جاء توزيع المناصب ينمّ عن الشراكة. فقد سُمي البكر رئيساً للجمهورية، وتولى البعثيان صالح مهدي عماش وحردان التكريتي وزارة الداخلية ورئاسة أركان الجيش. وفي المقابل نيطت بالنايف رئاسة الحكومة وعيّن الداوود وزيراً للدفاع. وكي يكتمل الملمح السني المحافظ للعهد، وكان البكر والداوود قد أقسما على القرآن حين تعاهدا على الانقلاب، أعطيت حقيبة رمزية لعبد الكريم زيدان، قائد الاخوان المسلمين العراقيين. كذلك عبّر مجلس قيادة الثورة عن التوازنات نفسها، وإن لوحظ وجود ثلاثة تكارتة بين أعضائه العسكريين السبعة. صدام لم يتقلّد منصباً، لكن عملاً أهم كان ينتظره. فشركاء 17 تموز ممن ناموا في السرير نفسه بدا حلمُ واحدهم كابوسَ الثاني. وكان صدام بطل بعض تلك الأحلام-الكوابيس. والحال ان التآمر لم يُغمض جفنه اكثر من 13 يوماً انطلق بعدها من عقاله. ففي 30 تموز، وكان حردان قد حقن مئة ضابط ما بين تكريتي وحزبي في الحرس الجمهوري، حلّت ساعة الصفر. وفعلاً تعددت الأسباب وظل الموت، أو ما يشبهه، واحداً. فقد طُلب الى الداوود، وكان مُكلّفاً مهمةً في الأردن، أن يبقى هناك، فبقي. أما النايف فبدت قصته أعقد وأكثر سينمائية: فقد دعي الى اجتماع طارىء على غداء عمل مع الرئيس البكر. وبدل ان تدخل القهوة لدى فراغهما من الطعام، دخل صدام ورهط من شلّته مسلحين، فأمروه بالخروج من الباب الرئيسي على ما يفعل عادة. وأوصوه بألا ينسى، إذا ما أراد البقاء على قيد الحياة، تحية الحرس قبل صعود سيارته الرسمية. الا أن النايف الذي امتثل للأوامر، لم يبق على قيد الحياة. فبعد أن شُحن جواً الى المغرب، جرت في 1973 محاولة فاشلة لاغتياله هناك تبعتها، بعد خمس سنوات، محاولة ناجحة في لندن. وكان الأبشع ما لقيه صديقه وزير الخارجية ناصر الحاني. ففي روايةٍ أن مسلحين بعثيين انتزعوه من بيته ليلاً، وفي أخرى أنه دعي الى واحد من تلك الاجتماعات مع البكر لكنه لم يعد. وفي الأحوال جميعاً، عُثر على جثّة الحاني مُبقّعة بالرصاص في 10 تشرين الثاني نوفمبر 1968. ويبدو ان سعدون غيدان فهم الرسائل الممهورة بالدم، فقاده امتثاله وتواضع حاجاته الى الانضواء في البعث، وكفى الله المؤمنين القتال. لكن أجواء 1963 وارهابها ودخول البيوت واكتشاف الجثث راحت تتجمع في سماء بغداد، وعاد اسم "الحرس القومي" الى التداول، ولو وفق صيغة سلطوية مختلفة هذه المرة. فبين خريف 1968 وأواسط 1969، سطعت فوضى مطلقة كان يعززها انعدام كل خط سياسي وكل قصد ما خلا التمسك بالسلطة. غير ان البعث ضاعف التهليل ل"ثورة 17 تموز" التي صنعها ثم أتمّها ب"ثورة" أصغر. وفي تلك اللغة التي تمتهن حجب الوقائع بالثورات والثرثرة عنها، قُدّمت المؤامرتان امتداداً ل"ثورتي" 14 تموز 1958 و8 شباط 1963. وفي أيلول سبتمبر أُذيع أول دستور موقّت فأعلن الاسلام دين الدولة، والعائلة أساس المجتمع، والإرث يقرره الشرع، واشتراكية التمسك بالملكية الخاصة ركيزة الاقتصاد، فيما "المجلس الوطني لقيادة الثورة" السلطة التشريعية والتنفيذية الوحيدة. وبالطبع أُكّد على ان العراق جزء من "الأمة العربية"، وأن الوحدة الهدف الخالد. في هذه الحدود بدا البعث أداة إيديولوجية محافظة وكسولة الا انها أداة أمنية نشطة. فقد استُخدم وسيلة رديفة لتثبيت السلطة في أيدي ضباطه، ومعظمهم تكارتة. وبقيادة صدام، تولى الحزب الوظائف التي تقلّ عن الانقلاب فلا تستدعي إقحام جيش لم يزل ملتبس الولاء، أو التي تستكمل الانقلاب فلا تستنفد الجيش ولا تتركه يحتكر المجد وحده. وبذا جاء تدخل حفنة من البعثيين في 30 تموز لازاحة النايف نموذجياً في تدليله على الدور المنوط ب "التنظيم الشعبي". كذلك استُخدم الحزب معياراً في التبويب، تقريباً وتبعيداً، للوصول الى سلطة متجانسة، وتالياً مصفاةً لحصر المغانم وتوزيعها. فالبعثيون التكارتة غدوا قلب الدائرة، يحيطهم إطار من تكارتة غير بعثيين وبعثيين غير تكارتة. أما الاستعداد لأداء بعض هذه المهام فكان ما تمرّن عليه الحزبيون في "الجهاز الخاص" أو، في تسمية أخرى، "جهاز حُنين" الذي نشأ أصلاً لخدمة المحاولة الانقلابية الفاشلة في أيلول 1964. والجهاز هذا، لم يكن اختيار اسمه عديم الدلالة. فبُعيد فتح المسلمين مكة، تصدّت لهم قبيلة هوازن بقيادة مالك بن عوف النصري، والتقى جيشهما في حُنين، وهي وادٍ الى جنب ذي المجاز، بحسب الطبري. وقد بدأت المواجهة بهزيمة جعلت المسلمين ينفضّون عن محمد فلم يبق مع الرسول الا قلة من مقاتليه. لكنه استطاع، ببث روح الجهاد، استعادة الهاربين وإحراز النصر، فجاء في "سورة التوبة": "ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذّب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين". ولا بد ان البعث كان، عبر حُنين، يحيل ضمناً الى تجربة 1963 واحتمالات احتوائها، ومن ثم تحقيق النصر على ما فعل المسلمون الأوائل. وكائنة ما كانت الحال، وُضع الجهاز في عهدة صلاح عمر العلي، ضاماً أفراداً كناظم كزار وسعدون شاكر ومحمد فاضل. ولئن كان العلي تكريتياً، بدا القاسم المشترك بين معظم الآخرين قُربهم من صدام، وضلوعهم في ارتكابات الحرس القومي عام 1963 قبل ان ينحازوا الى الجناح اليميني. فرجال "الأمن" البعثيون هؤلاء سيكونون "طليعة" الجيش إذ تحول عزلتهم، حتى في أخصب الخيال، بينهم وبين أن يكونوا "طليعة" الشعب. لكنْ اذا كان الجيش، كما علّمت تجربة 1963، أسوأ من ان يحافظ بذاته على سلطة عسكرية، فالتجربة نفسها علّمت ان علنية الحرس القومي واستفزازيته مما يُستحسن تفاديه في المستقبل. هكذا آلت العِبر كلها، لا سيما التركيب الأقلي والتآمري للحكم الجديد، الى التوكيد على مركزية الأمن. فهو وحده ما يملك طاقة الحسم والتقرير، وهو ما اختُزلت اليه الشرعية السياسية برمتها. وصدام لم يخطىء اختيار الدور في لعبة رسم بنفسه شروطها وحدودها. ففضلاً عن كونه الأمين القطري المساعد، وكان البكر الأمين العام، تولى نيابة رئاسة المجلس الوطني لقيادة الثورة لشؤون الأمن القومي. وعن هذا الجهاز الضخم الذي ورث "حُنين"، أمسك بمفاصل البلد ومخابراته، مُولّياً ناظم كزار على الأمن العام، وواضعاً الحرس القومي تحت إشرافه المباشر. وتماماً كما كان ستالين أواخر العشرينات، لم تنجم الحاجة الى هذه المواقع عن مجرد إرضاء لنهم سلطوي مؤكد. فهناك ايضاً تخليص الحكم من مظاهر تعدده ونتوئه، هي التي أودت بسلطة البعث في 1963، وإرساؤه تالياً على صفاء بلّوري. وبالفعل سريعاً ما تحرك المبضع فيما كان العهد يستوي كتلاً ثلاثاً: الأولى، كتلة رئيس الجمهورية البكر، وفي عدادها قريبه صدام. أما الثانية فيتزعمها حردان التكريتي بصفته وزير الدفاع، فيما يقود الثالثة الضابط البغدادي والبعثي القديم صالح مهدي عمّاش كوزير للداخلية. وغدا لا بد من إطاحة التكريتي وعماش واستئصال نفوذهما في الجيش والادارة. وبالاستفادة من تنافس ضرى بينهما أمكن التخلص من الاثنين تباعاً. ففي 15 تشرين الأول أكتوبر 1970، عُزل حردان من مناصبه ثم اغتيل في الكويت بعد خمسة أشهر. ولئن ذكرت تقارير صحافية ان سعدون شاكر مَن تولى تصفيته، تلاحقت أحداث غامضة ربطها البعض بمقتله: ففي بيروت اغتيل اللواء مهدي صالح السامرائي، فيما سُرّح الضابط البعثي حسن النقيب وعُيّن سفيراً. وجاء دور عمّاش الذي سمي نائباً للرئيس بعد إبعاد حردان، فضلاً عن توليه الداخلية. وفعلاً أُبعد هو الآخر، في 28 ايلول 1971، من كل مناصبه، بعد تسمية صدام نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة. وتقول إحدى الروايات إن البكر تدخّل كي لا يُعدم فعيّن سفيراً. ولئن قضى عماش لاحقاً في فنلندا، نشأ ما يشبه اليقين بموته مسموماً. بيد أن يوم عزل عماش كان أيضاً يوم اعفاء عبد الكريم الشيخلي، صديق صدام الحميم، من منصبه كوزير خارجية. والشيخلي، المتقدم على رفيقه في الحزبية والأوسع إلماماً ومعرفة، يبدو انه دافع عن آراء في السياسة والحزب خفضته، هو الآخر، من وزير الى سفير. وفي 1982، وقد تقاعد وعاد الى بغداد، أطلقت عليه نيران مجهولة المصدر أردته وضمته الى وزير الخارجية السابق ناصر الحاني. لقد اندرج التخلص من حردان وعماش في مشروع أكبر هو تنقية الدوائر التي تقوم عليها السلطة، أي البعث والجيش وتكريت. فمنذ 1968 لم يعد الحكم اكثر من نقطة التقاطُع بين هذه الدوائر بما يضيّقها جميعاً ويصهرها في عائلة عسكرية-حزبية. ومنذ 30 تموز لم تكف هذه العملية عن الاشتغال ذي الأواليتين: اجتثاث كل تنافُر يبدر عن أي منها حيال الأخرى بما يهدد تناغمها الاجمالي، واستئصال كل تحفظ عن مطلقية صدام بوصفه رمزاً لتقاطُع الدوائر الثلاث وملاكاً حارساً له. وبالضرورة تستدعي عملية كهذه تحويل الواحدة منها ضابطاً للأخرى وحداً عليه، بحيث تخسر شيئاً من ذاتها الأصلية المفترضة أو من طبيعتها المهنية. يصح هذا في الرابطة الأهلية التكريتية صحته في السِلكية العسكرية أو الرفاقية الحزبية. على ان أولوية التطهير لمكوّنات السلطة ناظرت الأولوية المعطاة لمكافحة "أعداء الحزب والثورة". فعماش والشيخلي، البعثيان القديمان وغير التكريتيين، كانا نشازاً عن المنحى السلطوي الناهض على تقاطع الدوائر الثلاث. وما ابتدأ بهما استؤنف بتصفية حزبيين آخرين عديمي الصلة، أو ضِعافها، بالجيش وبتكريت، وبمطلقية صدام تالياً. وإذا كان البعثي القديم والوزير حتى 1972 شفيق الكمالي، وهو ليس تكريتياً، من الضحايا البارزين للحزبية البحتة، إذ قضى مسموماً، يبقى ضحيتها الأبرز عبد الخالق السامرائي، ابن سامراء الموصوف تارة باليسارية وطوراً بالارثوذكسية البعثية، والذي اعتُقل في تموز 1973 ثم أُعدم بعد ست سنوات. وقد بدا "طبيعياً" أن يُصفى البعثي البغدادي المقرّب من صدام، أحمد العزاوي، الذي هرب الى سورية في 1974 ونشط في بناء تنظيم حزبي موازٍ تدعمه دمشق، فاغتيل بعد عامين. وقبل العزاوي الذي انحاز الى "قبيلة" أخرى و"بايع"ها، عُزل البعثي التاريخي عبد الله سلوم السامرائي من مهامه في القيادة القطرية ومجلس الثورة. ولاحقاً، في 1977، وضع تحت الاقامة الجبرية بعثي قديم آخر، من عانة، هو الدكتور عزت مصطفى. فالحزب هو ما ينبغي الاستحواذ عليه كيما يتطابق لا مع مشيئة صدام ومصالحه فحسب، بل أيضاً مع تاريخه الشخصي. هكذا كان يُستحسن ان لا يشهد على ماضيه "صديق" متقدم عليه كالشيخلي، بل ان لا يكون ثمة ماضٍ للحزب قبل صدام. وبحركة مُتخمة برمزية حقود، صُفّيت حسابات ميتة مع الحقبة البعثية السابقة فاعتُقل، بعيد الانقلاب، فؤاد الركابي الذي صار، في تلك الغضون، أميناً عاماً ل"حركة الوحدويين الاشتراكيين" الناصرية. وفي تشرين الثاني نوفمبر 1971، قضى، وهو الأمين القطري الأول للبعث، بطعنة سكين من أحد المساجين! وامتد الاستحواذ، على ما فعل ستالين بشيوعيين غير روس، الى بعثيين غير عراقيين. فميشيل عفلق قضى سنواته الأخيرة يكيل المدائح لصدام، فيما اعتُقل عام 1979 الأمين العام القومي السابق منيف الرزاز، وهو أردني، ليلفظ في سجنه آخر أنفاسه. وفي العام نفسه، وبالتهمة اياها التي أدت الى سجن الرزاز واستُغلّت لإعدام السامرائي، أولم صدام لرفاقه إحدى أسخى الولائم الدموية حتى أنه بكى هو نفسه وأبكى. والقصة التي صوّرتها الكاميرا وصار النظام لاحقاً يوزّعها لأغراض شتى، أهمها بث الرعب في الآخرين، بدأت في تموز ب"اعتراف" محيي عبد الحسين رشيد بالتآمر مع سورية، ومن ثم تصفيته مع أفراد أسرته. وقد قضى بالمناسبة ثلث أعضاء القيادة القطرية، وفي عدادهم عدنان حسين وعدنان الحمداني وغانم عبد الجليل ومحمد محجوب ومحمد عايش وآخرون. فالمطلوب يومذاك، وقد حل صدام لتوّه في رئاسة الجمهورية، كان الحصول على الولاء المطلق لحزبيين ذوي أغلبية شيعية قيل انهم تمنوا على البكر ألاّ "يتنحى". وبدت تصفية الرفاق أولئك بليغة الدلالة، فأُمر البعثيون الموالون بتصفية البعثيين "المتآمرين" بما يضيّع الدم ويُضعف احتمالات الثأر. ولم يصل 1 آب أغسطس حتى ذُكر ان حوالى 500 في أرفع المناصب الحزبية والرسمية قد استؤصلوا. ولئن جازت هذه السياسة حيال البعث، بدا تطبيقها على الأمن أولى، وهو الشرط الشارط لاستمرار الحزب والحكم. وفي 18 آب 1973، وعلى يد محكمة خاصة رأسها عزت الدوري الذي صار يعرف بعزت ابراهيم، أُعدم ناظم كزار نفسه مع 35 شخصاً على الأقل. فالمسؤول الأمني الأول كان اعتقل وزير الدفاع التكريتي حماد شهاب ووزير الداخلية سعدون غيدان، واصطحبهما رهينتين إذ تأكد من فشل محاولته، محاولاً عبور الحدود بهم الى ايران. وبالقاء القبض عليه، وقد قُتل في الأثناء وزير الدفاع، أشاعت السلطة أن المؤامرة إيرانية المصدر. وبالفعل بدت محاولة التوجه شرقاً قرينةً ظاهرة، فيما ضمرت شيعية كزار قرينةً مستترة. وكان ممن أُعدموا فرد آخر في الشلة القديمة هو محمد فاضل رئيس المكتب العسكري البعثي. وفي وقت لاحق "اعترف" الحزبي والتكريتي، فاضل البراك، مرافق البكر الذي شغل إدارة الأمن الداخلي حتى 1989، بأنه "عميل"، فأُعدم وأعيد جثمانه الى تكريت في 1992. ومضى تطهير الجيش بهمّة مماثلة، وهي العملية التي تسارعت مع انتقال الرئاسة الى صدام. غير ان العلاقة بين الأخير وبينه بدت على قدر من التعقيد: فهنا اجتمع حب القيم العسكرية والذكورية بالكره الذي يكنّه الحزبي المدني للعسكر. والتقت الرغبة في تسليطهم بالرغبة في التسلط عليهم منعاً لتكرار ما حصل في 1963. وعلى الدوام اقترن الميل الى تجييش المجتمع بالإصرار على تغيير الجيش. فإذا صحت الرواية التي أشارت الى عدم قبول صدام في الكلية الحربية، إبان شبابه الأول، أمكننا افتراض سبب شخصي ينضاف الى أسباب سياسية ويغذّيها. ووفاءً بهذه الأغراض المتعارضة طُعّمت المؤسسة العسكرية، منذ 1970، بقرابة 3000 مفوض بعثي وتكريتي في تقليد واضح لتجربة بلشفية معروفة. ولأن الجيش غرفة نوم النظام، لم تقلّ عقوبة انتساب العسكري الى حزبٍ غير البعث عن إعدام. ومبكراً ابتدأ صدام بدفع قيادات مدنية من شلّته الى عضوية مجلس قيادة الثورة، الهيئة التي يُفترض أنها الأعلى سلطةً. ومن هذا القبيل ضُم اليه، في 1969، طه ياسين رمضان وعزت ابراهيم. ولم يمر عقد، وكان أطيح البكر، حتى خلا المجلس من العسكريين تماماً وانفتح الباب واسعاً لتعيينات في الجيش وترقيات كيفما اتفق. وإذ ضُخّم الحرس الجمهوري، ومهمته حراسة النظام حصراً، فصار جيشاً موازياً، جُنّد المدنيون البعثيون، من التكارتة أو أعضاء الشلة، في الجيش بطريقة أو أخرى. وفي المقابل، سهّلت الحروب المتتالية، منذ 1980، العسكرة وتعميم زيّها في أعلى مراتب الحزب والدولة. وعلى العموم ظل تطهير الجيش ثابتاً من ثوابت النظام، سرّعته وفاقمته حربا إيرانوالكويت. لكن، هنا أيضاً، لم يتأخر النذير. ففي كانون الأول ديسمبر 1968 حُكم على ابراهيم فيصل الأنصاري، رئيس الأركان العامة، بالسجن 12 عاماً. وسُرّح اللواء عبد العزيز العقيلي، في 1969، وحُكم بالاعدام. ولم ينقطع الحبل فسُرّح لأسباب مجهولة، خلال 1974-1975، بعض كبار الضباط كحسين حياوي قائد القوات الجوية، وداود الجنابي قائد الحرس الجمهوري، وحسن مصطفى وصادق مصطفى وطه شاكرجي. وفي هذه الغضون قُتل، عام 1971، بطعنة سكين في بيته، العميد البعثي القديم عبد الكريم نصرت الذي ردّت دمشق مقتله الى انتمائه لبعثها "الأصيل". وعلى ضآلة النفوذ السوري الفعلي في العراق، أُعدم في "وجبة" 1979 اللواء البعثي وليد محمود سيرت، وهو أيضاً من أوائل الحزبيين. وفي السنوات الأخيرة وُجّهت الى المراتب العليا ضربات متلاحقة لم ينج منها غلاة البعثيين والمقربين من صدام. فأُعدم العقيد نزار النقشبندي ابان الحرب مع ايران، وقُتل العميد عزيز السامرائي، وانتهى الى المنافي قريبه رئيس المخابرات العسكرية اللواء وفيق، ورئيس الاركان الفريق نزار الخزرجي، وغيرهما. وكما تتضافر العسكرية والحزبية في حالات نصرت وسيرت، تتضافر التكريتية والحزبية في حالة صلاح عمر العلي أو فاضل البرّاك. فالأول، وهو احد البعثيين الأوائل ومن شلة صدام، أقصي عن مجلس قيادة الثورة في 1970 وضُمّ الى سفراء الخارج. وبعد عامين لحق به تكريتي وبعثي تاريخي آخر كان حظه أسوأ بكثير. فمرتضى الحديثي، الذي تولى وزارة الخارجية، هو من تذهب احدى الروايات الى انه سُجن وعُذب قبل ان يُقتل في 1979 ثم يُعاد الى عائلته على شكل بضعة كيلوغرامات. والراهن ان تكريت تعرضت للتطهير في صورة تكاد ان تكون منهجية، فطاول عسكرييها وبعثييها وعسكرييها البعثيين في آن. ومنذ البدايات الاولى تصدّر لائحةَ الثأر البعثي رئيسُ حكومة منها: فمع فجر 17 تموز اعتُقل طاهر يحيى ولم يُفرج عنه حتى 1973، فخرج أعمى ولازم بيته حتى وفاته. وفي 1970 سيق الى السجن رشيد مصلح، وهو وزير داخلية وبعثي سابق، وأُعدم. والى حردان التكريتي، أُعلن في 1980 عن موت غامض حل بعدنان التكريتي الذي تولى إمرة الحرس الجمهوري بعد 1968. وفي الفترة نفسها قُتل تركي الحديثي، شقيق مرتضى لتُصفّى، في 1993، عائلة مولود مخلص بتهمة المشاركة في مؤامرة انقلابية، كما أُعدم بالتهمة نفسها نقيب الأطباء السابق راجي عباس التكريتي. وفي بلد ترد أخباره على شكل شائعات، ذُكر الكثير عن استقالة البكر من الرئاسة في حزيران يونيو 1979 وحلول صدام فيها، بوصفها إقالة لا يرقى اليها الشك. ولئن ذهب لاحقاً صهر الرئيس حسين كامل الى اتهام الثاني بتسميم الأول تسميماً بطيئاً، فالمؤكد أنه انتزع منه بالتدريج صلاحياته، لا سيما الامساك بالجيش، وأبقاه أشبه بأسير في قصره. والمنطق الذي تحكّم بتطهير تكريت لا تستنفده علاقات القرابة، الا أنها تساعد جزئياً في فهمه. فالعوجا التي صدر عنها صدام ملحق بتكريت، يُنظر اليها في المعيار التقليدي على أنها أدنى كعباً. واذا صح ان العائلات الموسعة جمعت بينهما، الا ان التزاوج بين عشائر تكريت وأفخاذها ظل أعلى مما بينها وبين امتداداتها في العوجا. والعشائر تلك، وهي ثلاث، ليست، بأية حال، عديمة التراتُب والتمايزات. فهناك "التكارتة" أو "الأصليون" ومن أفخاذهم البوخشمان والعويسات والشيايشة والبوحجي شهاب. ثم هناك "البوناصر" ممن تعود بهم الأصول الى قبيلة الدليم، في ما غدا يُعرف بمحافظة الأنبار، وقد انتقلوا منها ليسكنوا تكريت والعوجا وبيجي ومناطق اخرى مجاورة. و"البيكات" أهم أفخاذهم، وهم الجمع بلسان العشائر ل"بيك"، ما يعني أنهم الأوجه والأبرز في البوناصر. لكن هؤلاء ممن ينتسب اليهم البكر وصدام، يتفرّعون عائلاتٍ كالندّا والهزّاع والبومسلط والبوغفور والبوخطاب والبوعبد الرشيد والبوحجي شهاب. ويبدو ان الصدارة فيهم كانت لعائلة ندّا قبل ان تنتقل بصعود البكر، الذي صاهرها، الى عائلة البوبكر. وأخيراً هناك الحديثيون، الآتون من حديثة، كآل المهيدي وبالطبع آل الحديثي. ويُلاحظ، في التنقيب بأسماء معظم الضحايا والمبعدين، أن "ظلم ذوي القربى" تحكّمت به معايير لا تخلو من معانٍ. فرشيد مصلح وحردان التكريتي من "أصليي" تكريت ممن تعالوا على اهل العوجا وكرههم الاخيرون، كما أن طاهر يحيى "أصلي" من الشيايشة، ومنهم ايضاً صلاح عمر العلي الذي كان عمه، عبد العزيز العلي، عميد الشيايشة وكبير ملاّكيهم. وفيما يعود مرتضى الحديثي الى الحديثيين فإليهم أيضاً ينتسب راجي التكريتي وآل مخلص، ولو ربطتهم صلة قرابة بالبوبكر. وآل مخلص أولى بثأر العامّة حين يرغبون في محو الماضي: فهم أبناء وأحفاد مولود، "الباشا" الذي أسس لأهل تكريت والعوجا موقعهم اللاحق في الجيش والادارة. اما البكر فيبدو ان سقوطه، من داخل حلقة أضيق في القرابة، أطلق بدوره تحولات داخل فخذ البيكات نفسه. فقد غنمت بيوت ثلاثة أخرى هي البوغفور، ويتفرع عنها آل المجيد، والبومسلط وينتمي إليها خير الله طلفاح ووالدة صدام، صبحة، والبوخطاب ومنها أخوة صدام لأبيه. وبهذه المعاني جميعاً كُتب للبعث في العراق أن يُرسي توتاليتارية تتساند حداثتها الأداتية وموروثها الأهلي المنتفخ ب"أصالة" دم لا تنضب. الحلقة الخامسة الثلثاء المقبل.