بعدما تناولت حلقة الثلثاء الماضي محنة الشيعة في العراق، هنا التتمة: على امتداد تلك المسيرة الطويلة من حكمه، لا يُفهم بعث العراق من دون بعث سورية. ولطالما تحكّم بسجالهما زعم ضمني يتصل بالشرعية: فالبعث الأول يعتبر نفسه أباً للحزب، لأن المؤسس ميشيل عفلق استقرّ في بغداد بعدما انقلب عليه السوريون. والبعث الثاني يعتبر نفسه أمّاً للحزب، لأن دمشق مهد الدعوة ومسقط رأسها. والعراقيون قد لا يمانعون في أن تكون سورية الأمَ، شريطة أن توصم أمومتها بالتخلي عن الأبناء والتنكّر لمصالح الأسرة. وقد لا يمانع السوريون في إسباغ الأبوّة على العراق، شرط أن تُقرن أبوّته بالجور والاغتصاب. وفي قصة الحزبين والبلدين تتتالى الرموز وتتداعى الأحداث، لكن الأهم أن العنف سيد الموقف. بيد أن مجانيته المؤلمة تبقى السمة الطاغية: فنحن، بعد نزع المزاعم الكبرى، أمام حفنة من غبار ضارّ لا أكثر. فما من ملحمة لدينا وما من مُزارع كقايين أو راعٍ كهابيل، وليس من بشر يتفرّعون عنهما أو رموز تُشتق منهما. إن الأمر كناية عن آلة من تفاهة محضة لكنها، مع هذا، تطحن دماً كثيراً. فالبَلدان جرّع واحدهما الآخر، على مدى سنوات، كأس القومية والبعث. وبالقومية والبعث، حاول كل منهما تصديع الثاني بلغة جامعة. وقد ذهبا، بالقاعدتين الضيقتين لسلطتيهما، بعيداً في تلك اللغة الجامعة حتى غدت رطانتهما كثيفة تحجب الواقع والوقائع. والحال أن ضيق رقعة النظامين ما فاقم الالحاح العراقي على بلوغ فلسطين، أو التظاهر بذلك، تماماً كما حمل سورية على ردعه عن هدفه واعتراض طريقه. فهو، إذاً، نزاع بين دولتين مأزومتين في بنائهما وتطورهما، ومأزومتين في وعيهما نفسَهما بأنهما دولتان أو، بالأحرى، دولتان-أمتان. وفلسطين، بوصفها جائزة الترضية العروبية لُعّبت، دورها المتضخّم في هذا الدفع المتبادل الى الهاوية. ولم يكن التاريخ ضنيناً بالبراهين. فبعد فشل محادثات الوحدة الثلاثية في 1963، ابتدأ البعث الواحد يومذاك، والحاكم في العاصمتين، مناقشة وحدة ثنائية لم يُقيّض لها أن تُقلع. وما لبث انقلاب عبد السلام عارف أن وجّه الى بعثيي العراق الضربة القاضية. فحين عاد العفلقيون الى السلطة في 1968 وقع الخبر وقعاً جنائزياً على آذان الحكام السوريين. فهؤلاء، وقد أطاحوا "القيادة القومية" قبل عامين، وضعوا سداً عازلاً بينهم وبين العراق العارفي الذي "تآمر" على سلطة "حزبنا". ولئن نظر أحمد حسن البكر وصدام حسين ورفاقهما الى القيادة الدمشقية بوصفها "حكم ردّة" عن البعث "الأصيل"، مستعيرين تسمية تعود الى صدر الاسلام وبدايات عهد أبي بكر الصديق، أراحهم أن ما من "قيادة قومية" حاكمة يمكن أن تحدّ، بعد الآن، من حركتهم. ومذّاك نشأت مقايضة من النوع الفاوستي بين الاثنين، وواحدهما شيطان الآخر. بل بُني مذّاك كل من البعثين، وكل من السلطتين، في مقابل الثاني، حتى استحال التفكير بأي منهما ما لم يؤخذ نقيضه في الحسبان. وهذا، على أية حال، لا يلغي فوارق بين سورية والعراق تضرب في أسباب أسبق من البعث وأعمق: فالجغرافيا جعلت دمشق تتحكم بالطريق الى فلسطين. ولما كانت الجغرافيا "قدراً" في الحروب، بحسب عبارة شهيرة لنابليون، بات العراق كأنه يعاند القدر. فهو مدعوّ الى إثارة الكثير من الضجيج، وافتعال الكثير من الغبار، كلما تحرّك أو همّ بالتحرك. وفي مقابل الجعجعة، تعلمت سورية، وهي مع إسرائيل وجهاً لوجه، أن تهيم بالطحين. بهذا أكسبتها التجربة خفّةً وشطارةً حُرم العراق منهما فراح، في سياسته، يخبط ويتخبط. لكن بغداد، لا سيما منذ 1973، صارت قادرةً على دخول "القضية" من بوّابة الانفاق عليها. والعاملان هذان تشابكا، مباشرةً أو مداورةً، مع مفهومين سائدين للعروبة في البلدين: فهي، في سورية، مدارها التقليدي شعارا الوحدة وفلسطين. وهي، في العراق، جوهرها التمايُز عن الأكراد وإشهار الممانعة في وجه إيران. وذلك، من حيث المبدأ، ما يجعل الفلسطينيين أكثر ارتياحاً الى العراقيين الذين ينافسونهم أقل مما تنافسهم سورية. غير ان المبدأ المذكور قليلاً ما أتاح له الاعتراض الجغرافي أن يعمل. وبمعنى ما بدت حدّة الخلاف مطلوبة. فالتداخُل الجغرافي والأهلي، معطوفاً على الحزبي والايديولوجي، كان له في مسار العلاقة أثران: مضاعفة الحذر المتبادل، وجعل بناء الدولة-الأمة متزايد الصعوبة إذ، وهما "القوميان"، يُخجلهما المشروع الذي يسمّيانه "قطرياً". وفيما جعل الدربان المتعاكسان ينسدّان، لم يعد غير احتمالين مطروحين على العقول التي تقارن: فإما أن الوحدة كلها أضحت لزوم ما لا يلزم، أو أنها أمست أهم من أن تُترك لمثل هؤلاء الوحدويين. فقصة البعثين الدامية الفصول، على خواء ورثاثة، لم تترك شيئاً من قضية "الأمة العربية الواحدة" إلا نهشته. أما "الرسالة الخالدة" التي أناطها الحزب بتلك الأمة المُتخيّلة فبدت مشوبة بالمكائد والمؤامرات. ولما كان أي من النظامين لا يدخل بيت الآخر من أبوابه، غدت المكائد والمؤامرات حدثاً يومياً يصعب فرز غثّه المنحول عن سمينه الصحيح. وعلى خلفية من تلك المقدمات، جُرّد مصطلح "الوحدة" من كل معنى كان قد تبقّى بعد انهيار وحدة 1958 المصرية -السورية، تماماً كما جرّد السوفيات والصينيون المتناحرون تعبير "أممية بروليتارية" من معناه. إذ، وببساطة المنطق الشكلي، هل يمكن لبعث مجزّأ الى هذا الحد أن يدعو الى أمة موحدة الى هذا الحد؟ وبالنسبة الى فلسطين تحديداً، وصل البعث العراقي الى السلطة بعد عام على هزيمة 1967، وانحسار زعامة جمال عبد الناصر، وتردّي البعث السوري، وصعود المقاومة الفلسطينية. وهو إنما أراد أن يستثمر كونه لم يُهزم، لمجرد أنه لم يوجد في السلطة حينذاك. وهذا ما أوحى له بسهولة الاندفاع والاختراق غرباً قبل ان يكتشف الصعوبات العملية المتأتية عن إيران والمشكلة الكردية في الشرق والشمال. فكيف وأن العراق قليل الخبرة في هذا الميدان، لم يكن لديه، بين انتهاء حرب 1948 وبداية حرب 1967، جندي واحد على تماسّ مع اسرائيل؟ وكان لا بد من حسم هذا الأمر، وغيره من أمور معلقة، مع دمشق. وعلى طريق الحسم تدرّجت وتغيرت عناوين الخلاف من دون ان تتغاير مضامينه. فبين 1968 و1972 طغت موضوعة الشرعية الحزبية، خصوصاً أن البعثيين السوريين من أنصار "القيادة القومية"، كأمين الحافظ وشبلي العيسمي والياس فرح شرعوا، بُعيد الانقلاب، يتجمعون في العراق، وما لبث عفلق نفسه ان انضم اليهم في 1970. لكن وزير الدفاع السوري يومها، حافظ الأسد، حاول ان يجيّر الانقلاب العراقي لمصلحته في صراعه مع يسار البعث الذي تزعّمه صلاح جديد. هكذا دعا، خلال 1968 و1969، الى وحدة الحزب كما استقبل، عدداً من المرات، وزير الخارجية العراقي عبد الكريم الشيخلي. ولتعزيز موقع الأسد في مواجهة جديد ورفاقه، حجبت بغداد عن الواجهة لاجئيها من "القيادة القومية" السوريين. ولوحظ، كذلك، أنها لم تنسب الى دمشق أياً من "المؤامرات" ال13 التي أعلنت عن كشفها ما بين صيف 1968 وصيف 1970. لكن يساريي دمشق عثروا، بدورهم، على ضالتهم. فحين قُتل البعثي العراقي عبد الكريم نصرت في بيته، وكان صديقاً لعبد الكريم الجندي رئيس جهاز الأمن القومي السوري وأحد أبرز حلفاء جديد، زُيّن مصرعه قرينة على "يمينية" الحكم الجديد في بغداد و"فاشيته". ولم يقتصر التردّي على الاتهامات فأُتبع باعتقالات وأعمال تعذيب أشرف عليها الجندي لبعثيين سوريين يؤيدون العراق. أما الأخير، ولم يكن قد أمم النفط أو عقد معاهدة مع السوفيات أو أنشأ جبهة مع الشيوعيين، فلم يتبق لديه، تعبيراً عن "تقدميته"، الا تسخين الحرارة اللفظية. واستحال التقدم على الجبهات جميعاً. فحينما قرر الأردنيونوالعراقيون والسوريون في 18 ايلول سبتمبر 1968، بعد تحضيرات وتأجيلات عدة، إقامة "الجبهة الشرقية" لمواجهة اسرائيل، اتهم السوريون العراق بالتهرب من "مسؤولياته القومية". وبعد أقل من عامين انهارت الجبهة وسط نزاع وجدت بغداد نفسها وحيدة فيه مقابل دمشق المدعومة من عمّان، وضمناً من القاهرة. ولئن ردّ العراق، المزاود والملتاع بعزلته، انهيار الجبهة الى عدم جدية أطرافها في "التحرير"، اتهمته سورية بأن اشتباكه مع الأكراد وإيران تنصّلٌ من "المعركة الأساسية في فلسطين". ولم يتشارك النظامان آنذاك الا في الاستنكاف عن المتن العريض للسياسة العربية. فمعاً وقفا، في 1970، ضد مشروع روجرز الذي وافق عليه عبد الناصر والملك حسين، علماً أن صوت بغداد ظل الأعلى في رفضه ومُغايرته. بيد ان موقف الجيش العراقي في الأردن عامذاك وفّر للرفاق الألدّاء في دمشق، ولكل من يريد أن يشهّر، مادة تشهير دسمة. فلعشرة أيام تواصلت النداءات الفلسطينية طالبةً التدخل من دون استجابة عراقية. وقد تبيّن لاحقاً أن حردان التكريتي، رئيس أركان الجيش يومها، تعهد للملك حسين بالوقوف مكتوف اليدين ريثما ينجز الأردنيون مهمتهم. وتلك الواقعة إنما ترقى بداياتها الى ما بعد حرب 1967، حيث أرسل الرئيس عبد الرحمن عارف ربع الجيش العراقي الى الأردن وسورية. لكن إبقاء القوات هناك لم يعد ممكناً، لا سيما وأن الكلفة صارت ضخمة وباهظة فيما النُذر تتجمع كردياً وإيرانياً. كذلك أتت الضربات الجوية الاسرائيلية ضد المدفعية العراقية في 1968 و1969 تضاعف رغبة الانسحاب من الصراع وهو، بالطبع، ما يسهّله ضمور الصراع جملةً وتفصيلاً. واستحق حكم البكر وصدام ازدراء الشعوب العربية حين لم يُنجد منظمة التحرير في الأردن من مذبحة محققة. الا أن صوت بغداد الملعلع والهجّاء لسائر بلدان المنطقة، نفّر الحكومات العربية أيضاً فلم تمنح العراق تعاطفها الفعلي حيال إيران، رغم احتلال طهران جزر الخليج الثلاث في 1971. ويبدو ان صدام دافع آنذاك عن سياسة منكفئة تعطي أولويتها لبناء الدولة القوية، وتبرر انكفاءها ب"عدم جدية" الآخرين أكان في الوحدة أو في التحرير. وإنما في سياق كهذا سُحب الجيش، عام 1970، من الأردن وسورية، مع "وعد" بإرساله حين تقضي الحاجة وتنخرط "دول المواجهة" في المواجهة. غير أن الانكفاء العراقي من نوع مركّب. فبغداد حين كانت تدير ظهرها كانت تُبقي إحدى عينيها على الوراء. لهذا أقامت لها في الثورة الفلسطينية وعلى ضفافها مواقع متفاوتة الصلابة. فمثلما فعلت سورية، عام 1968، بإنشائها "منظمة الصاعقة" ذراعاً لها في داخل القرار الفلسطيني، فعل العراق بعد عام واحد، مُنشئاً "جبهة التحرير العربية" التي قادها فلسطينيون بعثيون يوالونه. كذلك شهدت بغداد التخطيط لعديد من عمليات "أيلول الأسود" التي تولاها صلاح خلف، أبو إياد، ممتصاً بهذه المنظمة الارهابية رغبة عناصر من "فتح" في الانتقام لقتلى مواجهات الأردن. أما محمد العباس المعروف حركياً ب"أبو العباس"، والذي اشتُهر في 1985 بعملية سفينة أكيلي لاورو الايطالية، فرعت بغداد انشقاقه المبكر عن "الجبهة الشعبية - القيادة العامة" بزعامة أحمد جبريل، وتأسيسه "جبهة تحرير فلسطين". ويبقى صبري البنا، أو أبو نضال، بحسب الاسم الحركي الذي عُرف به، المساهمة الفلسطينية الأهم للبعث العراقي. فهذا الشاب الذي أُرسل الى بغداد، في 1970، ممثلاً ل"فتح"، وجد فيه العراق الرجل النموذجي يستخدمه كما يشاء. فأبو نضال لا يملك رصيداً أو إسماً سياسيين يحرص عليهما، وليس ثمة ما يردعه، ضميراً كان أم عقيدةً، عن أن يكون بندقيةً يستأجرها من يدفع. ودفع العراقيون بسخاء، فحوّلوا لحسابه ما كانوا تعهّدوه ل"فتح" من معونات وأعطوه مزرعة وأغدقوا عليه أموالاً أخرى سمحت له أن يتحول الى التجارة والاستثمار. وأُسبغت على البنا سلطة معنوية كبرى بصفته صلة الوصل الوحيدة بين الفلسطينيين المقيمين في العراق والسلطة هناك. فقد رعاه أحمد حسن البكر شخصياً، هو المعروف بكراهيته الحادة لياسر عرفات، وربطته صداقة وطيدة برجل الأمن حينذاك سعدون شاكر، وربما بطارق عزيز. ولئن كُتب الكثير لاحقاً عن علاقة محتملة بين أبو نضال والموساد الاسرائيلي، أتاحت له بغداد التصرّف بآلاف الوثائق وجوازات السفر المزوّرة. وفي البدايات كانت وظيفة صبري البنا أن يسهّل الإنكار البعثي لما حصل في الأردن، بل أن ييسر انتقال الحكم العراقي من موقع المتهَم الى موقع المتهِم. وبالفعل ما أن انتهت الحرب الأهلية هناك، حتى شرع يهاجم، من بغداد، منظمة التحرير ل"تفريطها وجبنها" في المعارك مع الجيش الأردني. على ان الوظيفة سريعاً ما اتسعت وغدت أخطر. ففي أيلول 1973 احتلت مجموعته السفارة السعودية في باريس باسم فلسطين وقضيتها. أما الهدف الفعلي فلم يكن غير تحويل الأنظار عن قمة عدم الإنحياز التي انعقدت، في الوقت نفسه، في الجزائر، فيما أرادت بغداد استضافتها عندها. وكرّت بعد ذاك سبحة أبو نضال. وكان من أبرز المداخلات العراقية في الموضوع الفلسطيني المبالغات المبكرة في إبداء العداء لليهود من غير تمييز، مع التذكير بشرور تآمرية تمتّ بصلة الى يهود العراق، الأموات منهم والأحياء. فبمثل هذه الأدبيات اللاسامية التي تعاظم انتشارها هناك، وجد البعث طريقة أخرى في التعبير عن استقالته من صراع لا يملك له الا العدّة اللفظية والمزاودات. أما في ما خص النتائج الفعلية، فجُعل التاريخ السياسي للفلسطينيين في ثلث القرن الماضي يتقلّب كله بين طورين تداخلت مراحلهما: فإما عداء بغداد لهم وتركهم يتحالفون مع دمشق، وإما عداء دمشق لهم وحملهم على محالفة بغداد. ولئن نجم الصراع على فلسطين عن منافسة البعثين والدولتين، فإن توظيف قضيتها على هذا النحو ما كان له إلا أن يزيد العلاقة بينهما سوءاً على سوء. لكن نبرة المساجلة حول الشرعية الحزبية كانت قد بدأت تخفت وتتراجع مع انقلاب الأسد وإبعاده اليساريين في تشرين الثاني نوفمبر 1970. فالانفتاح الاقتصادي الذي دشّنته سورية في العام التالي بثّ في أعصابها استرخاءً كرّسه مصرع اللواء محمد عمران في آذار مارس 1972 في طرابلس بلبنان، هو الذي رأى فيه البعض رمز استقطاب يهدد النظام. وهذا ما لم يحل دون ترسيم الحدود بين البعثين والدولتين لأغراض تقدّم الأمني فيها على الحزبي والايديولوجي. فقد اعتُقل عدد من مؤيدي "القيادة القومية" في 1971، وفي 3 آب أغسطس صدرت أحكام غيابية بالإعدام لم تستثن عفلق نفسه، ولا أمين الحافظ رئيس "المجلس الرئاسي" إبان عهد "القيادة القومية"، لاتهامهم بالضلوع في "مؤامرة" مدعومة من العراق. فحين أُعلن مشروع "اتحاد الجمهوريات العربية" شاملاً سورية ومصر وليبيا، وجدت بغداد مناسبتها للهجوم على الوحدويين "الزائفين"، ووصل الأمر بصدام أن يسمّي "الاتحاد" العتيد "خطوة أولى على طريق جريمة الاعتراف باسرائيل". الا ان الشتائم والتخوين والحملات الاذاعية، لم تمنع من التعاون الاقتصادي والتقني، الاتصالي والسياحي. هكذا بدا أن من الممكن إرساء أشكال على هذا القدر او ذاك من الصلابة تؤول الى تعزيز جهازي الدولتين، من دون ان تؤثر في مكامن السلطة الحساسة، ومن غير أن تجد لها، في المقابل، صوتاً ايديولوجياً يُحرج القاموس البعثي. وفي الحدود هذه سجّلت أواخر 1971 ميلاً الى التهدئة في ظل ضمور النزاع على الشرعية الحزبية، أو بالأحرى قصر استخدامها على تنافس السلطتين. فقد رُفع حكم الاعدام عن عفلق والحافظ، ولاح كأن البلدين يدخلان مرحلة هدوء تتوسّط عاصفتين. فالنظامان كانا أتمّا بناء عدّتهما السلطوية بما طوى صفحة الصراع على شرعية البعث. مع هذا لم تكن عدّة النزاع على الهيمنة الاقليمية قد اكتملت لديهما: فالعراق كان في ذروة انشغاله بالأكراد وايران، فيما سورية مشدودة الأبصار الى جهد عسكري مشترك يُبنى مع مصر، هو ما رأينا ثماره اللاحقة في حرب تشرين/أكتوبر 1973. لا بل في 26 آذار 1972 حضر صدام حسين الى دمشق لمناقشة إقامة وحدة تضم سورية ومصر، ثم أصدر مع الأسد بياناً ثنائياً يعلن بتهذيب أن الأمور لم تسر على ما يرام. ولم يتوقف المراقبون يومها عند التفاوض حول "الوحدة" بقدر ما توقفوا عند إصدار بيان مشترك، مستنتجين الطرق الملتوية في تعبير الدولتين البعثيتين عن نفسيهما. غير ان الخفاء كان أصدق من العلن. ففي مقابل إقامة "القيادة القومية" والزعيم السوري المعارض أكرم الحوراني في بغداد، زار وفد رسمي سوري عامذاك الملا مصطفى البارزاني كما تشكل في دمشق، أواخر العام، "التجمع الوطني العراقي" الذي ضوى بعثيي سورية العراقيين القلة والقيادة المركزية للحزب الشيوعي ومجموعات ناصرية صغرى. وعلى العموم بقي الصراع مضبوطاً، فوقف عند حدود الجيش ولم يتخذ، لدى أي من الطرفين، شكل الارهاب. وفي الغضون هذه شرعت قضايا الدول تحظى بدرجة من الصراحة أعلى، ولو ظلت اللغة البعثية تموّهها ب"الوحدة" تارةً وطوراً ب"فلسطين". فقد طرأت أزمتان تتصلان بتصدير النفط العراقي عبر سورية، دارت أولاهما حول الرسوم التي ينبغي ان تُدفع لها من جراء نقله في خط أنابيب كركوك-بانياس، فيما نشبت الثانية حين قرر العراق، أواخر صيف 1973، ان يبني خط أنابيب الى تركيا يتجاوزها، ومن ثم يحرمها الرسوم. وكان ما أشعل المعركة قرار تأميم شركة نفط العراق في 1 حزيران يونيو 1972 وما أحدثه من أزمة سيولة طارئة كان لا بد من حلّها على حساب سورية. وما زاد الطين بلةً ان ارتداد الواقع على الزيف الايديولوجي جاء قاسياً لا يرحم المزاعم: فالأنابيب تصب في دورتيول الواقعة في لواء الاسكندرون. وهذا إذا ما بدا إقراراً بتركية الأرض التي تعتبرها سورية "سليباً"، فإن له بُعداً رمزياً لم يستوقف الرفاق العراقيين. فالشبان الثلاثة الذين نقلوا البعث الى بلاد الرافدين كانوا من ذاك اللواء، والثلاثة ما كانوا أصلاً ليصيروا بعثيين لولا محنة أهلهم هناك. وكان في وسع العراقيين لو نظروا جيداً الى الخريطة ان يجدوا ما يُحرّك في البدن رعشة خفيفة: ذاك أن نفطهم سوف ينتهي قريباً من بلدة أرسوز التي أعطت اسمها لعائلة زكي الأرسوزي، أستاذ الشبان الثلاثة الذين جعلوهم بعثيين. وفيما الأمور هكذا وقعت حرب تشرين 1973 التي مهّدت لمرحلة جديدة من استعار النزاع. فبغداد استجابت بسرعة مطالبة دمشق إرسال جنود الى الجبهة، وهو مما كان يستحيل تجاهله وعدم استجابته. هكذا، وإذ فقدت سورية المبادرة بعد انتصارات الأيام السابقة، استقبل الجولان، في 22 تشرين الأول، 22 ألف جندي عراقي تولوا، مع الجنود الأردنيين، وقف التقدم الاسرائيلي. لكن السوريين بدوا متخوفين من دورٍ ما تلعبه القوات العراقية في الداخل، خصوصاً أن الخواطر كانت لا تزال هائجة بسبب خط الأنابيب التركي. وما ان انتهت الحرب حتى أعلنت بغداد معارضتها الحادة قبول دمشق وقف اطلاق النار من دون استشارتها، بعدما احتكرت وحدها مجد "انتصار تشرين". فالأولى المستنزَفة بصراعها مع الأكراد وإيران، انتابها ما يشبه الغيرة حيال الثانية التي حظيت ب"شرعية تشرين" بعد انفتاحها الاقتصادي وتوطيدها القبضة السلطوية، ناهيك عن نجاحها في الجمع بين تحالفها مع السوفيات وإفادتها من دعم الأنظمة المحافظة في الخليج. وتأكدت هذه التصورات مع توقيع معاهدة فصل القوات في 31 أيار مايو 1974 ثم استقبال سورية الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، أواسط حزيران، من دون ان يؤثّر ذلك في "معاهدة الصداقة والتعاون" التي كانت قد وقّعتها مع موسكو في شباط فبراير 1972. وواجه العراق هذه البراعة الدمشقية بالرفض "المبدئي" لكل التحركات السياسية السورية والعربية التي جدّت بعد تشرين. لكن الأيادي البيض على فلسطين وقضيتها ما لبث أن فاض سخاؤها. فالعام 1974 الذي توسّطته معاهدة فصل القوات، انتهى بخطاب ياسر عرفات في الأممالمتحدة حيث خيّر العالم بين "غصن الزيتون" و"البندقية". والتطوران أشعرا بغداد بعزلة لم تكتم الاحساس بها كما لم تكبت الرعونة في مجابهتها. فقبل توجهه الى الأممالمتحدة، عرض البكر وصدام على عرفات ان ينتقل الى العراق ل"مواصلة النضال" من هناك، كما لو كانا يستوحيان تجربة رشيد عالي الكيلاني مع الحاج أمين الحسيني أواخر الثلاثينات. وكان من المفهوم أن يحلم عرفات بمستقبل غير ذاك الذي انتهى اليه المفتي المقدسي. وفي النهاية، وعبر مؤتمر صحافي في العاصمة العراقية، أسس الأمين العام ل"الجبهة الشعبية"، جورج حبش، "جبهة الرفض" المناهضة لعرفاتودمشق سواء بسواء. وفي تعهّدها التصدي للعمليات "الاستسلامية والتصفوية"، زخّمت "جبهة الرفض" نشاطاً إرهابياً تولاّه وديع حداد. ولاحقاً قضى حداد، أقرب المقرّبين الى حبش، بمرض غريب التقطه في العراق، حيث قيل إنه سُمم. لكن ما ساعد البكر وصدام على الانتقال الى هذه السياسة التدخلية كان زيادة أسعار النفط حيث لعبت حرب تشرين دوراً أساسياً. أما بغداد وقد تعلّمت البعث من دمشق، فتعلمت منها المكيافيلية أيضاً. فتحت غطاء لفظي يساري راحت تمهّد للتحول يميناً، على ما دلت اتفاقية الجزائر. وكان من المفارقات أن الحَبَل بالاتفاقية المذكورة انما حصل في الجولان: فعندما قرر العراق إرسال ال 22 الف جندي، طلب من طهران ترطيب الأجواء واستعادة العلاقات الديبلوماسية، وهذا ما تحقق له فعلاً في 15 تشرين الاول 1973. وهنا ساد حوار طرشان يزيده غموض اللغة البعثية غموضاً. فالعراقيون جادلوا ضمناً بأنهم اذا ما تنازلوا إيرانياً فإنما فعلوا لإقالة سورية من عثارها. وجادل السوريون، بضمنية أقل، بأن العراق كلما اتجه غرباً يكون قد اتجه يميناً أيضاً. والأهم ما بدا واضحاً على الدوام من أن دمشق تريد للعراق ان يبقى غارقاً في مستنقعه مع الأكراد وإيران، من دون أن يبلغ الحدود التدميرية التي بلغها في 1980 وصاعداً. بهذا تبقى بغداد "خائنة" لقضية عربية تتعامل دمشق معها وحدها من دون شريك. وبفعل مشاعر "قومية" مشابهة، أرادت بغدادلدمشق أن "تنحرف" عن الخط القويم في مصارعة إسرائيل وأميركا، أي أن "تخون"، بما يبرر لها تصنيفها في زمرة "الخيانة" والتقدم، من ثم، لقضم دورها بذريعة إنقاذها، إن لم يكن من الأعداء فمن نفسها الأمّارة بالسوء. وجعلت أواسط السبعينات الحذر السوري حيال العراق يفوق بأشواط مثيله العراقي حيال سورية. فالحزب "الأصلي" يقيم في بغداد من دون ان يُعدم المتعاطفين في البلد "الأصلي"، فيما الحساسية السورية تجاه المواضيع القومية والفلسطينية يمكن أن تتماهى مع اللون المذهبي للحكم البغدادي. والأهم، ربما، ان التراجع الاقتصادي السوري باشر ظهوره آنذاك، فيما كان العراق يتمتع بثراء تنفقه الدولة، الممسكة بالاقتصاد، على هواها. على ان الصحراء الحدودية شهدت آخر محاولات رأب الصدع، وعلى رمل الصحراء لا يبقى، في العادة، شيء. هناك التقى البكر والأسد مطالع 1974، حتى اذا تودّعا فُهم ان كلاً منهما سيستشير جهنمه. وفعلاً استبشرت الجهنمان فزوّدتا الاثنين مادةً مفيدة. ففي العام ذاك باشر أحمد العزاوي بناء التنظيم البعثي العراقي في سورية، كما مُنح اللجؤ لعراقيين أكراد معارضين تسلموا سلاحا من دمشق قبل ان تقام لهم معسكرات تدريب هناك. ولم يعد خافياً أن البلدين يدشّنان صراعاً على الهيمنة الاقليمية يُستخدم فيه الحزب كما يُقيّض له استهلاك الكثير من البشر والزمن والجهود. وإنما لأجل إحراز هيمنة كتلك نشأ صراع يُخاض بالواسطة محاذياً منطق الحرب الباردة حيث قاتل الأميركان والسوفيات بقوى وبلدان غيرهم. لقد تحرر العراق، بفعل اتفاقية الجزائر، من المشكلة الكردية والنزاع مع إيران، وغدا على أتم الاستعداد ل"معانقة" فلسطين. وبدا من "الطبيعي" ان تتهمه سورية بالتفريط والاستسلام للامبريالية ماضيةً في هجومها الضاري على الاتفاقية المذكورة. لكن العراق بعدما كان يغار منها لاستمدادها العون من الجغرافيا ومن المهارة التي رتّبتها خبرة الجغرافيا، غدت سورية تغار منه. فبغداد الآن تملك الاستعداد العسكري والسياسي، والقدرة الاقتصادية، ناهيك عما أتاحته لها اتفاقية الجزائر من قبول لدى الغرب والمحافظين العرب، من غير أن تنهار علاقتها بموسكو. وإذ غدا الموقف السوري يوصف، في العراق، ب"الخياني" الصريح، تبدّى أن سورية ومصر على أهبة تشكيل محور ضد العراق. ولم تتزحزح لغة التمويه شعرةً. فوسط هذا الحريق واظبت بغداد على دعوة دمشق الى الاندماج العسكري. وفي موازاة استعداد الطرفين لفتح معركة الزعامة الاقليمية التي تلغي غيره، بقي كل منهما يتمسك بأهداب لغة شديدة التواضع مُسمّياً نفسه "قطراً". الحلقة المقبلة الثلثاء المقبل.