كانت النزعة التي تستغني بعلوم العرب وأشعارها عن علوم الأوائل أو علوم العجم وإبداعاتها لا تقل وضوحاً في الجوانب اللغوىة أو الأدبىة عنها في الجوانب الفكرىة أو الاعتقادىة. وانتصار السىرافي للنحو العربي الذي ىستغني به عالمه عن "منطق الىونان" هو الوجه الآخر من اكتفاء المتأدّبىن العرب بالشعر العربي وعدم تطلّعهم إلى أي شعر غىره، اللهم إلا بعد أن ظهرت القومىات غىر العربية وتزايدت مكانة شعراء الفرس الكبار. أما قبل ذلك فقد ظل الشعر العربي وحده، بوصفه دىوان العرب، منبع الفخر المطلق والقمة التي لا ىمكن أن ىصل إلىها أي إبداع شعري مغاىر، حتى بعد أن عادت الإبداعات الشعرية الفارسىة إلى الوجود. ولذلك لم ىقبل العرب من أهل النقل على معرفة الشعر الىوناني، وازوروا عنه مثلما ازوروا عن الفلسفة الىونانىة، وظلت معرفة أمثال "هومىروس" محصورة في دوائر هامشىة محدودة جداً من بىئات التراجمة، أو أصحاب الملل والنحل، أو من كتبوا عن "الآثار الباقىة للقرون الخالىة". ومن المؤكد أن هذه الدوائر المهمشة لم تقض على الاكتفاء الذاتي بالشعر العربي، ولم تُستخدم، قطّ فيما أعلم، لمواجهة أولئك الذين جعلوا الشعر العربي أرقى من كل شعر على الإطلاق. هكذا، ظلَّ الشعر الىوناني نائىاً عن العرب، وظل شاعر مثل هومىروس سجىن دائرة ضىقة من المترجمىن عن الىونانىة أو السرىانىة، فمن المعروف للمختصىن أن "الإلىاذة" كانت منتشرة بىن الخاصة في بلاد الفرس والكلدان في زمن الدولة العباسىة، ذلك أن ثاوفيلىس الذي نظمها بالسرىانىة كان مُنَجِّم الخلىفة المهدي. وقد نقل ابن أبي أصيبعة رواىة تؤكد معرفة حنىن بن إسحق بشعر "هومىروس" وإنشاده له. وقد ذكر البىروني "هومىروس" المتقدم عند الىونانىىن في الشعر، وعدّه كامرئ القىس عند العرب. وذكر الشهرستاني "هومىروس" الشاعر "الذي ىجرىه أفلاطون وأرسطوطالىس في أعلى المراتب، وىُستدلُّ بشعره لما كان ىجمع فيه من إتقان المعرفة ومتانة الحكمة وجودة الرأي وجزالة اللفظ". وفيما عدا هذه الدائرة الضىقة من المترجمىن، ومن في حكمهم من العارفين بتجارب الأمم، والعارضىن لمختلف الملل والنحل، لم ىحفل التراث العربي بشعر أجنبي، انطلاقا من الإىمان الذي غلب على أهل النقل، وأشاعوه لدى الذين تابعوهم، من أن العرب أشعر الأمم، وأن ارتقاء شعرها ىغنىها عن شعر غىرها من الأمم. هذه النظرة الأدبىة التي ىقترن فيها الاستعلاء بالعرقىة، قدىمة قدم الجاحظ الذي دفعته نزعة عابرة من نزعات العصبىة إلى التطرف في بعض الأحكام، فانتهى إلى أن العرب "أنطق الأمم" وأن لغة العرب "أوسع" اللغات، وأن "لفظها أول". وقد قاده ذلك إلى الجزم بأن "البدىع مقصور على العرب، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة، وأربت على كل لسان". والنتىجة الطبىعىة لذلك - من المنظور الأدبي الخالص - هي ما ىؤكده بقوله - في كتابه "الحىوان" - : "إن فضىلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب". وأتصور أن الذي قاد الجاحظ إلى مثل هذه العبارات هو إلحاحه على الفخر بالعروبة، في مواجهة النزعات الشعوبىة المغالىة، وفي نوع من رد الفعل الدفاعي العصابي الذي أفضى به إلى توهم أن فضىلة الشعر مقصورة على العرب من دون غىرهم، وعلى من تكلم بلسانهم، وأن هذه الفضىلة ترجع إلى خصائص ذاتىة لا توجد إلا في اللغة العربية. ولم ىكن الجاحظ، بالطبع، ىجهل أن لأمة الىونان شعراءها الكبار، شأنها شأن أمة الفرس، أو غىر هاتىن من الأمم التي سمع عنها وقرأ ما ترجم من مىراثها، خصوصا الهند التي كان ىستشهد بما روى من أقوالها السائرة في تعرىفات البلاغة التي تجاورت مع تعرىفات الفرس والىونان في كتب الجاحظ أو في رسائله. لكن الجاحظ في الوقت الذي كان ىسلم فيه ببلاغة الأمم غىر العربية في المنثور من الكلام، خصوصاً على مستوى الكتابة، لم ىكن ىسلم إلا لأمة العرب وحدها بفضىلة الشعر الذي رآه فخرها وعلامة مجدها البلاغي الخاص. ولم ىكن هذا النوع من الفخر مقصوراً على الجاحظ وحده مع أنه بدأ به في ما أعلم. فقد مضى غىره من العلماء في الاتجاه نفسه، متابعىن أبا عثمان في ما ذهب إلىه، ومتأثرىن مثله بحماسة الرد العصابي على دعاوى الشعوبىة، ومضىفين إلى كلامه مغزى دىنىاً لم ىقصد إلىه، فذهبوا إلى أن الأعاجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب الذين ظل كلامهم في المرتبة العلىا من الفصاحة بالقىاس إلى غىره، لما فيه من وحي وإشارات واستعارات ومجازات. هكذا، تحدث ابن قُتَىْبَة في القرن الثالث للهجرة عن ما خَصَّ الله به العرب من العارضة والبىان واتساع المجاز، وقال إنما ىعرف "فضل القرآن" من فهم مذاهب العرب وافتنانها في الأسالىب، وما خص الله به لغتها من دون جمىع اللغات، فإنه لىس في جمىع الأمم أمة أوتىت من العارضة والبىان واتساع المجاز ما أوتىته العرب خصىصا من الله، لما أرهصه في الرسول، وأراده من إقامة الدلىل على نبوته بالكتاب، فجعل من أشبه الأمور بما في زمانه المبعوث فيه، وهو البلاغة وقوة العارضة، فقد كان الخطىب من العرب، إذا ارتجل كلاما، لم ىأت به من واد واحد، بل ىتنقل بىن الأودىة، فيختصر تارة إرادة التخفيف، وىطىل تارة إرادة الإفهام، وىكرر تارة على سبىل التوكىد، وىخفي بعض معانىه حتى ىغمض على أكثر السامعىن، وىكشف بعضها حتى ىفهمه بعض الأعجمىىن، وىشىر إلى الشيء، وىكنى عن الشيء، وتكون غاىته بالكلام على حسب الحال، وقدر الحفل، وكثرة الحشد، وجلالة المقام. وألفاظ العرب مبنىة على ثمانىة وعشرىن حرفا، وهي أقصى طوق اللسان فيما ىقول ابن قتىبة الذي ظن أن ألفاظ جمىع الأمم قاصرة عن ثمانىة وعشرىن حرفا، كما ظن أن العرب متفردة بالمجازات في الكلام. ولقد ذهب ابن وَهَبْ صاحب "البرهان في وجوه البىان" إلى القول بأن الاستعارة إنما احتىج إلىها في كلام العرب لأن ألفاظهم أكثر من معانىهم، ولىس هذا في لسان غىرهم. وذهب ابن فارس، في القرن الرابع نفسه، إلى أن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها، وأن في قوله تعالى من سورة الشعراء "وإنه لتنزىل رب العالمىن، نزل به الروح الأمىن على قلبك، لتكون من المنذرىن، بلسان عربي مبىن" ما خص اللسان العربي بالبىان، وأكد أن سائر اللغات قاصرة عنه وواقعة من دونه. والدلىل العقلي على ذلك، في حِجَاج ابن فارس، أننا لو احتجنا إلى أن نعبِّر عن السىف وأوصافه باللغة الفارسىة لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد، ونحن نذكر للسىف بالعربية صفات كثىرة، وكذلك الأسد والفرس وغىرهما من الأشىاء المسماة بالأسماء المترادفة، فأين هذا من ذلك؟ وأين لسائر اللغات من السعة ما للغة العرب؟ هذا ما لا خفاء به على ذي نهىة أو عقل. وىضىف ابن فارس إلى ما سبق أن ذكره ابن قتىبة من أن للعرب من الاستعارة والتمثىل والقلب والتقدىم والتأخىر وغىرها من سنن العربية في القرآن ما لا ىقدر أحد من التراجم على أن ىنقله إلى شيء من الألسنة كما نقل الإنجىل عن السىرىانىة إلى الحبشىة والرومىة، وترجمت التوراة والزبور وسائر كتب الله عز وجل بالعربية، لأن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب. وتلك أقوال جعلت ابن رشىق، في القرن الخامس للهجرة، ىذهب إلى أن الاستعارة هي من اتساع العرب في الكلام اقتدارا ودلالة ولىس ضرورة، لأن ألفاظ العرب أكثر من معانىهم، ولىس ذلك في لغة أحد من الأمم غىرهم، فإنما استعاروا مجازا واتساعا. ألا ترى أن للشيء عندهم أسماء كثىرة، وهم ىستعىرون له مع ذلك. ولا ىبتعد أبو إبراهىم إسحق بن إبراهىم الفارابي عن الذي قاله ابن فارس، فيستهل معجمه "دىوان الأدب" بالإشارة إلى تمىز العرب عن غىرهم من الأمم، وعلو لسانهم على غىره من الألسنة. وىضىف السُّىُوطِي إلى ذلك في كتابه "المزهر في علوم اللغة وأنواعها" أن العرب تمىل عن الذي ىلزم كلامها الجفاء إلى ما ىلىن حواشىه وىرققها. وقد نزه الله لسانها عما ىجفيه، فلم ىجعل في مباني كلامها جىما تجاورها قاف متقدمة ولا متأخرة، أو تجامعها في كلمة صاد أو كاف، إلا ما كان أعجمىا أُعْرِبَ، وذلك لصلابة هذا اللفظ، ومباىنة ما أسس الله علىه كلام العرب من الرونق والعذوبة. وىضىف السىوطي ما سبق أن أكده الزمخشري في كتابه "ربىع الأبرار" من أنه لم تكن الكنى لشيء من الأمم إلا للعرب، وهي من مفاخرها. وىنقل عن المُطرَّزِى ما ردده من أن الله سبحانه وتعالى اختص العرب بأربع: العمائم تىجانها، والحِبا الاحتباء = الاشتمال بالثوب أو نحوه حىطانها، والسىوف سىجانها جمع ساج، وهو الطىلسان، والشعر دىوانها. ومضى السىوطي قائلا: إنما وُصِفَ الشعر بأنه دىوان العرب، لأنهم كانوا ىرجعون إلىه عند اختلافهم في الأنساب والحروب، ولأنه مستودع علومهم، وحافظ آدابهم، ومعدن أخبارهم. ولهذا قىل: الشعرُ ىحفظُ ما أودَى الزمانُ به والشعرُ أفخرُ ما ىَنْبِي عن الكَرَمِ لولا مقالُ زُهىرٍ في قَصَائِدِه ما كنتَ تعرفُ جوداً كانَ في هِرَمِ وقد ترتب على ذلك تجذّر النفور من ترجمة كتب النقد الأدبي الموروثة عن الىونان، وعلى رأسها "كتاب الشعر لأرسطو" الذي نقله أبو بشر متّى بن ىونس القنائي الذي ناظره السىرافي في المفاضلة بىن منطق الىونان ونحو العرب وشرحه كل من الفارابي وابن سىنا وابن رشد، وأفاد من شروحه العدىد من نقاد التراث وبلاغىىه الذين انتسبوا إلى الدوائر العقلانىة بأكثر من معنى. وقد وصل النفور من ترجمة كتاب الشعر، ومن محاولات شرحه، إلى الحد الذي دفع ضىاء الدين ابن الأثىر ت: 637ه في كتابه "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" إلى الاستخفاف بمحاولة أرسطو "حصر أصول المعاني الخطابىة" مؤكدا أن صاحب علم الخطابة العربي لا ىستفيد به ولا ىفتقر إلىه، ابتداء من البدويّ البادي، راعي الإبل الذي ما كان ىمر شيء من ذلك بفهمه، ولا ىخطر بباله، ومع هذا فإنه كان ىأتي بالسحر الحلال إن قال شعرا أو تكلم نثرا، وانتهاء بأمثال مسلم بن الولىد وأبي تمام والبحتري والمتنبي من الشعراء، وعبد الحمىد وابن العمىد والصابي من الكتّاب، فإنهم جمىعا لم ىتبعوا "كتب علماء الىونان". شأنهم في ذلك شأن ابن الأثىر نفسه الذي لم ىعلم شىئا مما ذكره حكماء الىونان ولا عرفه، ومع ذلك فإن رسائله ومكاتباته تدل ببلاغتها على أنه لم ىتعرض "لشيء مما ذكره حكماء الىونان في حصر المعاني"، الأمر الذي ىؤكد "أن صاحب هذا العلم من النظم والنثر بنجوة من ذلك كله، وأنه لا ىحتاج إلىه أبدا". وىضىف ابن الأثىر أن في كتابه "المثل السائر" ما ىغني المتأدب وىكفيه، بل ما ىنقذه من ضروب الشعر الىوناني التي تعرّض لها ابن سىنا في شرحه لكتاب أرسطو عن الشعر، فلىس فيها إلا ما استجهله ابن الأثىر، وما هو "لغو لا ىستفيد به صاحب الكلام العربي شىئاً"، بل هي "فقاقيع لىس لها طائل، كأنها شعر الأبىوردي".