يواكب هذا الأسبوع مرور ربع قرن على توقيع الرئيس السادات، باسم مصر، على اتفاقيتي كامب ديفيد لعام 1978، وقد تضمنتا إطارين للتسوية: أحدهما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والآخر بالصراع بين مصر وإسرائيل. وكان من الطبيعي أن يثير هذا التوقيع ردود أفعال حادة ليس فقط بين الدول والحكومات العربية، وإنما أيضاً بين التيارات الفكرية والسياسية المختلفة داخل النخب والشعوب العربية. وإذا كانت اتفاقات كامب ديفيد جاءت ثمرة لمبادرة شخصية مفاجئة وغير تقليدية زيارة القدس تفتق عنها ذهن رجل واحد شاءت له المقادير أن يتولى مسؤولية السلطة في أكبر دولة عربية، فإن ردود الأفعال اتسمت بدورها بالحدة والعصبية رسمياً وشعبياً. وفي سياق التفاعلات الناجمة عن المبادرة وردود الأفعال، بدا العالم العربي وكأنه أسلم نفسه لمصير مجهول بعدما وضع نفسه في سفينة بلا قبطان تتقاذفها الأمواج في بحر عاصف. وعلى رغم مرور ربع قرن على تلك الأحداث الخطيرة التي هزت المنطقة ولا تزال تؤثر بشدة في مجمل تفاعلاتها، إلا أنها لم تخضع لتقويم علمي وموضوعي حتى الآن. فالتيارات الرئيسية في العالم العربي لا تزال تتحصن في خنادقها الفكرية والحزبية القديمة نفسها من دون أن يبدو عليها أنها تعلمت شيئاً أو استخلصت من دلالات الأعاصير التي تهب على المنطقة، منذ ذلك الحين، دروساً تعينها على وقف الاندفاع نحو الهاوية. ومن المؤسف أنه ما إن تبدأ أي مناقشة جادة لحقيقة ما جرى حتى تنقلب المناقشة إلى جدل عقيم سرعان ما يتحول إلى حرب قبائل تقليدية على الطريقة العربية: فمن ينتقد المبادرة لا بد أن يكون ناصرياً كارهاً للسادات بالضرورة، ومن ينتقد اتفاقات كامب ديفيد هو بالضرورة ضد المصلحة الوطنية المصرية ورافضاً لتحرير سيناء. كان كاتبنا الكبير الراحل أحمد بهاء الدين، يرحمه الله، من أشد الناس حرصاً على تذكيرنا بين الحين والآخر بتلك البديهة التي تقول إن التاريخ هو ذاكرة الأمم والشعوب الحية. بل إنه لم يتردد في تشبيه الشعوب التي لا تتعلم كيف تستخلص الدروس الصحيحة من تجاربها التاريخية، بالفئران التي لا ذاكرة لها والتي تعود لتلتقط الجبن دائماً من المصيدة نفسها. ولا أعرف لماذا عاد هذا المعنى يلحّ عليّ بشدة حين كنت أهيئ نفسي للكتابة عن اتفاقات كامب ديفيد بمناسبة مرور ربع قرن على إبرامها. ربما يعود السبب إلى أنني كنت أحد الذين اتخذوا موقفاً نقدياً صريحاً من تلك الاتفاقات. ففي العام 1984، أي منذ حوالي عشرين عاماً نشر لي مركز دراسات الوحدة العربية كتاباً بعنوان: "مصر والصراع العربي - الإسرائيلي: من الصراع المحتوم إلى التسوية المستحيلة". و لم يكن سبب رفضي لهذه الاتفاقات يعود إلى موقف سياسي من نظام الرئيس السادات، أو إلى موقف أيديولوجي منحاز إلى المصالح القومية العربية العليا على حساب الوطنية المصرية، كما يدعي المزايدون، وإنما لسبب آخر مختلف تماماً وهو الاعتقاد بأن النهج الذي استخدمه الرئيس السادات في إدارة الصراع مع إسرائيل لن يؤدي إلى تسوية شاملة أو عادلة، وأنه سيدخل المنطقة في مرحلة اضطراب وعدم استقرار، وأن المستفيد الرئيسي منها سيكون إسرائيل. لقد وجدت أن الأمانة العلمية تفرض عليّ ضرورة العودة إلى الكتابات السابقة قبل القيام بزيارة جديدة لاتفاقات كامب ديفيد، كي أتمكن من وضع يدي على أي خلل أو قصور في المنهج أو في ما سبق أن توصلت إليه من استنتاجات، وهو ما فعلت. وقمت بهذه المهمة متسلحاً بما يكفي من الشجاعة لممارسة أي قدر من النقد الذاتي أعتقد أن البحث العلمي لا يمكن أن يتقدم من دونه. وقد يدهش القارئ إذ أقول أنني أصبتُ بقدر ما من الإحباط حين اكتشفت خلو الكتاب من أي افتراضات أو استنتاجات تتطلب المراجعة وإعادة النظر. كنت أفضل العثور على قضية مركزية تصلح مدخلاً لإعادة التقويم والتصحيح في ضوء ما جرى منذ إبرام الاتفاقات. غير أنني لم أعثر، بصرف النظر عن التفاصيل، إلا على كل ما يؤكد قناعاتي السابقة والحالية. وأياً كان الأمر، وبعيداًً عن الرغبة في إعادة فتح باب جدل مثير للاستقطاب الفكري، فإن ذكرى مرور ربع قرن على كامب ديفيد الأولى تستدعي منا إعادة تأكيد عدد من القضايا كانت ولا تزال محل خلاف: * الأولى: تتعلق بما كان يمكن أن يحدث لو اختلفت ردود الأفعال العربية تجاه زيارة الرئيس السادات للقدس وشاركت الأطراف العربية التي وجهت اليها الدعوة لحضور مؤتمر مينا هاوس في القاهرة، بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية. في تقديري أن الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية السائدة في ذلك الوقت حالت دون مشاركة أي من هذه الأطراف في مؤتمر مينا هاوس، وأن السادات كان على وعي تام بهذه الحقيقة. ومع ذلك يبدو لي أن عدم المشاركة كان خطأ استراتيجياً لأنه مكّن السادات، من ناحية، من توظيفه بمهارة لإلقاء اللوم على الجانب العربي وتحميله مسؤولية عدم التوصل الى تسوية شاملة وتبرير اندفاعه نحو الحل المنفرد، كما مكّن إسرائيل، من ناحية أخرى، من الاستفراد بمصر والتحلل من أي التزام قانوني بتسوية شاملة. والواقع أنه يمكن القول إن مشاركة الأطراف العربية كانت قادرة على وضع كل من السادات وإسرائيل أمام مأزق. فإسرائيل كانت سترفض بالقطع دخول مفاوضات مع منظمة تحرير فلسطينية تعتبرها إرهابية، في وقت كانت مصر تتعامل معها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني. وكان من الصعب على السادات أن يبرر اندفاعه وتصميمه على حل منفرد في وقت تبدو الدول العربية جاهزة للتفاوض والبحث عن أسس لهذا الحل. وبالتالي لم يكن هناك سوى أحد بديلين كان كلاهما أفضل لمصر وللعرب على السواء: انهيار المفاوضات مع بقاء الموقف المصري متلاحماً مع الموقف العربي إلى أن يصبح المجتمع الإسرائيلي أكثر نضجاً لتسوية شاملة تستجيب للحد الأدنى من الحقوق العربية، أو إجبار إسرائيل على دخول مفاوضات جماعية شاملة. في أي حال، وعلى رغم أنه لم يعد لهذه القضية سوى أهمية أكاديمية وتاريخية، إلا أن السلوك الإسرائيلي طوال ربع القرن المنصرم يقطع بأن إسرائيل كانت ستفضل انهيار المفاوضات على حل يشترط عودة إسرائيل إلى حدود 67 وقيام دولة فلسطينية مستقلة على كامل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، بما فيها القدسالشرقية. * القضية الثانية: تتعلق بالفجوة الواضحة بين موقف مصر الحقيقي من التسوية، وقد عكسه خطاب الرئيس السادات في القدس وكان بالمناسبة من أجمل وأقوى خطاباته السياسية على الإطلاق، وبين الاتفاقات التي تم التوقيع عليها فعلاً في كامب ديفيد. ففي خطابه في القدس أكد السادات أنه لم يجيء إلى إسرائيل بحثاً عن تسوية منفردة مع مصر، لأن الصراع ليس مصرياً - إسرائيلياً، وإنما بحثاً عن تسوية شاملة أساسها حل نهائي للقضية الفلسطينية لا يتحقق إلا بقيام دولة فلسطينية مستقلة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة في 67، بما فيها القدسالشرقية. غير أن ما وقّع عليه السادات كان شيئاً مختلفاً تماماً: حكم ذاتي للشعب الفلسطيني في الضفة وغزة خلال مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات تحتفظ فيها إسرائيل بسيادة كاملة على الأرض، من دون أي إشارة الى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره أو الى احتمال تطور سلطة الحكم الذاتي الإداري إلى دولة فلسطينية مستقلة. وكان يستحيل على أي طرف فلسطيني قبول هذا الحل، خصوصاً أن السادات لم يتمكن من تضمين إطار الحكم الذاتي نصاً صريحاً يلزم إسرائيل بوقف بناء المستوطنات في الضفة وغزة خلال المرحلة الانتقالية. * القضية الثالثة: تتعلق بالأسباب التي أدت إلى إقدام الرئيس السادات على التوقيع على معاهدة سلام نهائية مع إسرائيل رغم معرفته الكاملة بتعنت موقفها، وهو ما لمسه ليس فقط خلال مفاوضات كامب ديفيد وإنما قبل ذلك في مفاوضات حسن التهامي السرية مع موشي ديان في الرباط، والتي سبقت قراره بزيارة القدس. أغلب الظن أنه كان يفترض أن نجاحه في بناء علاقات خاصة مع الولاياتالمتحدة، من ناحية، وفي تأكيده الحاسم على أن التسوية بالطرق السلمية أصبحت هي الخيار الاستراتيجي، وليس التكتيكي، لأكبر دولة عربية، من ناحية أخرى، سيخلقان قوة دفع قادرة على إحداث تحول جذري في موقف الرأي العام الإسرائيلي من التسوية، وأن هذا التحول سيسمح في نهاية المطاف بتسوية تحقق الحد الأدنى للمطالب العربية. قد لا يكون بوسع أحد أن يتنبأ بردود فعل السادات لو كانت الأقدار أمدّت في عمره ليرى إسرائيل وهي تغزو لبنان وتحاصر عاصمة دولة عربية للمرة الأولى، وترفض الانسحاب من طابا... الخ. غير أن الشيء المؤكد أنه يمكن، في تقديري على الأقل، وفي ضوء السلوك الإسرائيلي والأميركي والعربي خلال الأعوام الخمس والعشرين السابقة استخلاص ثلاث نتائج حاسمة. أولها: أن الافتراضات التي بنى عليها السادات استراتيجيته كانت خاطئة. وثانيها: أن إسرائيل والولاياتالمتحدة لم تحاولا مطلقاً إيجاد حل حقيقي نهائي ودائم للقضية الفلسطينية، وإنما عملتا دائماً على استخدام التسوية السلمية كوسيلة لإعادة تشكيل خريطة المنطقة بما يتناسب مع مصالحهما معاً. وثالثها: أن الرهان على تحول موقف الداخل الأميركي أو الداخل الإسرائيلي لإنضاج الظروف الملائمة للتسوية، هو رهان خاسر مسبقاً وأن الرهان الصحيح يجب أن يكون على القدرات الذاتية العربية عموماً، والمصرية خصوصاً. إن إبرام معاهدة سلام مصرية مع إسرائيل كان يمكن أن يكون نقطة تحول في الاتجاه الصحيح نحو تسوية شاملة لو ان شرطين تحققا: الأول، لو كانت مصر تمكنت من توظيف مرحلة "السلام" لإحداث تعديل حقيقي في ميزان القوة مع إسرائيل لصالحها، وهو ما لم يحدث. فمن المقطوع به إن إسرائيل حققت مكاسب من التسوية مع مصر أكبر بكثير مما حققته مصر، وبالتالي فإن فجوة القوة بين مصر وإسرائيل، من ناحية، وبين العرب وإسرائيل، من ناحية أخرى، راحت تزداد اتساعاً ولمصلحة إسرائيل وليس العكس. والشرط الثاني: لو كانت مصر تمكنت من استثمار علاقاتها الخاصة بالولاياتالمتحدة لإضعاف العلاقات الأميركية - الإسرائيلية أو، على الأقل، تحييد الدور الأميركي في الصراع، وهو ما لم يحدث. فقد نجحت إسرائيل في توظيف العلاقات المصرية - الأميركية لبلورة موقف أميركي أكثر انحيازاً لموقفها من الصراع، وليس العكس. في هذا السياق أظن أنه لم يعد هناك مناص من البحث عن طريقة لتفعيل القوة الذاتية العربية إذا أردنا تسوية تحقق الأدنى من المصالح العربية، وهو ما لا يبدو واضحاً في الأفق. * رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة القاهرة.