لم يتقرر بعد نهج لمفاوضات المرحلة الختامية بين حكومة إسرائيل والسلطة الفلسطينية. تقرر نهج للمرحلة الانتقالية، هو الذي صاغت مبادئه العامة "اتفاقات أوسلو" التي وقعت في البيت الأبيض في واشنطن يوم 13 أيلول سبتمبر 1993. ولكن ظلت مفاوضات المرحلة الختامية، حتى هذا الوقت، من دون "اتفاق - إطار". هذه هي المسألة التي أصبح من المحتم حسمها الآن، وكانت الموضوع الرئيسي في قمة أوسلو التي عقدت قبل أيام بين كلينتون وباراك وعرفات، واستثمرت اسم عاصمة النروج واسم رئيس وزراء إسرائيل الراحل اسحق رابين، اللذين نهضا رمزين عن التصميم على مغالبة الصعاب وصولاً الى تسوية في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. والحقيقة أن "الاتفاق - الإطار" المطلوب بلوغه، ليس مجرداً تماماً من محددات، بمعنى أن المتفاوضين لا يبدأون من الصفر، بل ربما يبدأون مما هو دون الصفر! فهناك السلبيات الموروثة من المراحل السابقة، هناك الأمور التي تضمنتها اتفاقات المرحلة الانتقالية والتي لم توضع موضع التطبيق، وهناك ما تقرر ترحيله الى المرحلة الختامية بدعوى أنه يتعلق بنقاط الخلاف الأكثر استعصاء، وأرجئت لتناولها فقط عندما يكون الطرفان المتفاوضان قد حققا قدراً من الثقة المتبادلة، وهذا يشمل أصعب الملفات: القدس وعودة اللاجئين والدولة الفلسطينية والحدود والمياه والأمن. ثم هناك تصميم الجانب الأميركي على التوصل الى اتفاق نهائي قبل نهاية رئاسة كلينتون الثانية في كانون الثاني يناير 2001، ذلك أن كلينتون بحاجة إلى إنجاز خارق يختم به رئاسته ويمحو به عار مونيكا - غيت، وزاد الأمر إلحاحاً بعد فشله في إقناع الكونغرس بالتصويت على معاهدة منع انتشار الاسلحة النووية التي بذل هو جهداً كبيراً في محاولة فرضها عالمياً. وهكذا يبدو تقرير نهج لمرحلة المفاوضات الختامية أقرب الى تربيع الدائرة، ذلك أن ما تعذر تحقيقه في ربع قرن من المفاوضات منذ حرب تشرين الأول اكتوبر، مطلوب الآن تحقيقه في عشرة شهور، فهل هذا ممكن؟ واذا كان ممكناً، هل من الممكن التوصل إليه من دون إعادة تناول جوهريات الصراع؟ في يوم 20 أيلول سبتمبر الماضي، نشرتُ مقالاً في "الحياة" تحت عنوان السلام "عقد" بين طرفين وليس تسليماً بپ"حق" تدعيه إسرائيل وحدها، ويستخلص مما كتبته في هذا المقال أن المفاوضات الانتقالية قد تعثرت طويلاً لأنها انطلقت من افتراض أننا بصدد صراع بين "حقين"، أي صراع يحاول كل طرف إقناع الطرف الخصم بأنه يملك "حقاً" على الطرف الخصم ان يعترف به، وأن هذا مستحيل، لأن اعتراف كل طرف بحق "الآخر" يتضمن الانتقاص من "ذات" كل طرف، والمساس بصميم "حقه" هو، إننا بصدد "لعبة صفرية" ZERO SUM GAME لا فكاك منها قط. ومن هنا، فلا مفر من غض النظر عن رؤية تنطلق من "الحق"، وعدم افتراض وجوب اعتراف كل طرف "بحقوق خصمه، بل النظر الى عملية السلام المنعقدة الآن على أنها "عقد" قائم على "لعبة لا صفرية بالزائد" NON-ZERO SUM GAME PLUS يمكن أن تسفر عن مكسب للطرفين معاً، إن مثل هذا النهج وحده يؤهل الطرفين لتحاشي الرفض المتبادل، وكفيل بفك الاشتباك بينهما، وخلق الظروف المؤاتية لتسوية، وتحويل المحاولات المبذولة الآن للتوصل الى تسوية عاجلة من دائرة الطموحات المستحيلة التنفيذ، الى دائرة الممكنات. على سبيل المثال، تبين للطرفين مصلحتهما معاً في قيام دولة فلسطينية. الدولة، في نظر الفلسطينيين، هي الضمان الذي يكفل لهم هويتهم، ويؤمنهم ضد التشريد والبعثرة والتيه. أما إسرائيل فتريد - وهذا يقوله باراك صراحة وقاله قبله بيريز - أن تكون اتفاقات السلام التي تعقدها إسرائيل مع الفلسطينيين اتفاقات تبرمها وتتحمل مسؤوليتها دولة، لا سلطة تتسم بصفة "المرحلية"، ولا منظمة نضالية. فمثل هذه "الكيانات" السلطة الفلسطينية الراهنة، أو منظمة التحرير لا تخضع للقانون الدولي، ولا للمساءلة والمحاسبة بمقتضى مقررات الشرعية الدولية. إذا ما احتكمنا إلى "حق" كل طرف، نجد أن أسباب موافقة الطرفين على قيام "دولة فلسطينية" متعارضة، لقد أرادها الفلسطينيون لتجسيد تطلعهم الى تقرير المصير والسيادة الوطنية، وكأداة في ترسيخ "حقهم" في الوجود، وأرادتها إسرائيل لتحميل الفلسطينيين مسؤولية عدم تعرض الأمن الإسرائيلي لسوء، ولتعارض الأسباب التي من أجلها يوافق كل من الفلسطينيين والإسرائيليين على قيام دولة فلسطينية، فأضحى من الممكن الاتفاق سريعاً على مبدأ قيام هذه الدولة، ولكن مكونات وصلاحيات هذه الدولة تختلف كثيراً في نظر الطرفين. الفلسطينيون يطالبون بأن تكون القدسالشرقية العربية عاصمة دولتهم، بينما يصر الإسرائيليون على عدم تعرض القدس للتقسيم، وأن تظل "أبد الدهر" عاصمتهم الموحدة!، وإن كان هناك مسعى إلى "حل وسط" يبدو كأنما هو "لعبة لا صفرية بالزائد"، يمهد له يوسي بيلين بقوله "إن القدس ينبغي ألا تقسّم وإنما ينبغي أن توسّع"، ما يعني - ضمناً - ضم مزيد من أرض الضفة الى القدس، وانتقاء موقع من هذه الأرض المضمومة، ليصبح عاصمة الدولة الفلسطينية، ولن يكون هناك اعتراض على أن ينسب الفلسطينيون موقع عاصمتهم الى القدس، وهو في حقيقته خارج القدس وجزء من الضفة! كذلك في ما يتعلق بحق الفلسطينيين في العودة، تصر إسرائيل على أن لا عودة الى أي أرض في فلسطين أصبحت تخضع لسيادة إسرائيل، وقصر العودة على قدرة الدولة الفلسطينية على استيعاب نازحين، ثم جمع أموال دولية لتعويض بقية النازحين، عن 1948 وعن 1967، وإعادة توطينهم خارج أرض فلسطين التاريخية. فهذا - وغيره - ليس إعمالاً لپ"حق"، ولا هو احترام لمقررات الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، ولكنه صفقة، لا إدعاء فيها ل "الحقوق" ولكن تعامل بمقتضى "موازين القوى" بين الطرفين المتنازعين، ويتداعى مما سبق أنه إذا كان هناك "عقد" هو تعبير عن موازين القوى، فإن الفرص المتاحة لتعديل هذا العقد، وجعله أكثر إنصافاً، إنما تتوقف على تغيير موازين القوى لمصلحة الجانب العربي. وهنا أريد أن أستعين بفكرة سبق أن ألححت عليها في ندوة عن مستقبل الصراع العربي - الإسرائيلي، عقدها "مركز دراسات الوحدة العربية"، في بيروت في الصيف الماضي، هي الفكرة التي لخصتها في مصطلح: "تجاوز نهج كامب ديفيد". لقد عاد "كامب ديفيد" الى مقدمة المسرح مرة أخرى مع احتمال عقد قمة ثلاثية أميركية - إسرائيلية - فلسطينية، في ذات منتجع كامب ديفيد في شهر كانون الثاني أو شباط يناير أو فبراير من العام المقبل، على أن يستبعد من هذه القمة أي طرف آخر، وذلك لإقرار "الاتفاق - الإطار" المنظور له على أنه الخطوة التمهيدية الضرورية للتسوية الختامية، وأزعم أن الوقت قد حان ليكون كامب ديفيد نهجاً وواقعاً بالمعنى الحقيقي والمجازي للكلمة. ويعني نبذ نهج كامب ديفيد في الجوهر نبذ النهج القائم على التسويات المنفردة مع إسرائيل، ومما لفت النظر في قمة أوسلو غياب القادة العرب الوثيقي الارتباط بمجريات المفاوضات مثل الرئيس المصري وعاهلي الأردن والمغرب، وقصر مداولات القمة على الثلاثي كلينتون - باراك - عرفات، وحدهم، على نمط كامب ديفيد الأصلي الذي اقتصرت مداولاته على الثلاثي كارتر - السادات - بيغن. وقد أبرزت قمة أوسلو أن "العقد" المبرم بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وقد أشرفت المرحلة الانتقالية على نهايتها، مختل، وأنه لا يصلح قط منطلقاًَ للمفاوضات الختامية، ولذلك أصر كلينتون على إلغاء المؤتمر الصحافي الذي كان مقرراً عقده في نهاية المداولات، للحؤول دون صدور تصريحات من شأنها زيادة الأمور تعقيداً. ومن هنا جاءت فكرة عقد قمة على غرار كامب ديفيد، لإزالة كل ما من شأنه تعطيل الاتفاق على صيغة سلام نهائية قبل مغادرة كلينتون البيت الأبيض في بداية 2001. وجوهر التخلي عن نهج كامب ديفيد هو أن تنبذ الأطراف العربية التعامل منفرداً مع إسرائيل، ومعنى ذلك في الظروف الراهنة تحديداً مواجهة تحديات مرحلة المفاوضات الختامية بمواقف مشتركة من قبل الأطراف العربية المتفاوضة جميعاً، بمعنى أن يسند كل طرف منها الطرف الآخر، ويكمله ويعززه، بدلاً من أن تتضارب المواقف وتتصادم. فماذا لو تضافرت الجهود العربية وأصرت على موقف فلسطيني - سوري مشترك كشرط مسبق على التسوية مع الفلسطينيين؟ وأن يلتقي من أجل ذلك عرفات وحافظ الأسد قبل أن يلتقي باراك، بمقتضى صيغة "كامب - ديفيدية"، مع عرفات من جانب والأسد من الجانب الآخر، كل متهماً على حدة؟ وبدلاً من أن يكون استرداد الجولان وحده هو شرط السلام الشامل بين سوريا وإسرائيل، أن يكون استرداد الجولان ومعه القدسالشرقية، ومعهما كل ما يجعل من الدولة الفلسطينية كياناً يلبي تطلعات الشعب الفلسطيني الى السيادة الوطنية على قدم المساواة مع تلبية تطلعات إسرائيل الى أمنها، هو شرط تسوية شاملة تنهي فعلاً النزاع العربي / الإسرائيلي، في مختلف جوانبه، مع بداية القرن الجديد؟ أعلم أنه ليس من السهل إتمام مصالحة تاريخية بين سورية والسلطة الفلسطينية، ولكنه على وجه التأكيد "شر أهون" من أن تستبد إسرائيل بالأطراف العربية جميعاً. * كاتب مصري.