اذا كانت الحرب سياسة بأشكال أخرى، فالديبلوماسية هي لحظة تتويج للحرب والسياسة في آن، أي أنها مرآة علاقات مجتمعية أعرض لا توجزها العملية التفاوضية الضيقة والتقنية. على هدي هذه الفرضية، أصدر وحيد عبدالمجيد كتابه المميز في الذكرى العشرين لمعاهدة كامب ديفيد المصرية - الاسرائيلية، مركّزاً عمله على مقارنة دؤوبة وتفصيلية بين النصوص والروايات التي قدمها بعض صانعي المعاهدة. مع هذا فان مهمة عبدالمجيد في "كامب ديفيد بعد عشرين عاماً" دار ومطابع المستقبل، الاسكندرية والفجالة، تتعدى المقارنة الدقيقة. فنحن، هنا، حيال نص يُعيد تركيب صناعة الحدث الكبير نفسه لجهة اتصاله بمقدماته المجتمعية. وهنا، بالتالي، تكمن أهمية الكتاب وأهمية الخلاصات التي خرج بها بعيداً عن الطرق المرتجلة في الاستخلاص التي تسود الكتابة والتأريخ العربيين للحدث اياه. فكامب ديفيد، وإن خفت بريقها، لا تزال تشكل محطةً منعطفاً في تاريخ النزاع العربي - الاسرائيلي، فضلاً عن التاريخ السياسي لمصر. فقد نجحت في انهاء عصر الحروب من دون ان تنجح في ادخالنا عصرَ السلام الشامل. وفي المعنى هذا، وفي حدود الادراك للتحول الذي انطوت عليه، تحتل طريقة قراءتها وفهمها موقعاً خاصاً. هكذا فالكتاب ليس دراسة في المفاوضات ولا في سياسة مصر الخارجية أو تلك الاسرائيلية أو الأميركية، كما انه لا يقدم معلومات غير معروفة. انه، في المقابل، حصيلة قراءة مقارنة لشهادات محمد ابراهيم كامل في كتابه "السلام الضائع في كامب ديفيد"، وبطرس غالي في كتابه "طريق مصر الى القدس"، وموشي دايان في كتابه "الاختراق - تقييم شخصي لمفاوضات السلام بين مصر واسرائيل"، فضلاً عن سيرة جيمي كارتر كما كتبها بيتر بورن. الا أنه يعيد ترتيب المعلومات عبر ادراجها في سياق متماسك. فالهاجس الثابت في "كامب ديفيد بعد عشرين عاماً" الذي يعود اليه عبدالمجيد بين الفينة والأخرى، هو ذاك السؤال الذي "ينبغي طرحه على نطاق أوسع من موضوع المفاوضات: عن تأثير غياب السياسة في المجتمع المصري، منذ العام 1954، على الأداء العام. ذلك ان نزع السياسة من المجتمع وصل الى نظام الحكم نفسه، من خلال الغاء الطابع السياسي للوزراء بدعوى الاعتماد على التكنوقراط. وترتب على ذلك أن صار الوزراء بلا خلفية سياسية غالباً، بل بدون حس سياسي أحياناً. وانطبق ذلك على الوزراء وكبار المسؤولين في مجال السياسة الخارجية. ورغم ان ابراهيم كامل مارس نشاطاً سياسياً وطنياً في شبابه، إلا أن صلته بهذا الحقل انقطعت لفترة طويلة حتى صار وزيراً للخارجية. كما أن بطرس غالي لم يقترب من هذا الحقل أبداً، ولم تعوّضه خلفيته الأكاديمية كأستاذ للعلوم السياسية والقانون الدولي". ولا يلبث أن يستخلص الكاتب ما نعاود اكتشافه في العديد من صفحات كتابه اللاحقة: ف"الأرجح أن ابتعادهما ]كامل وغالي[ عن السياسة أثّر على أدائهما في المفاوضات ... وربما كان شعورهما الحاد بتقزيم دوريهما واستبعادهما في اللحظات الحاسمة راجعاً، في جانب منه، الى عدم انتباههما الى طبيعة النظام السياسي وكيفية توزيع السلطة فيه. ومما له دلالة على أهمية تأثير النظام السياسي على الأداء العام، هو أن أياً من كامل وغالي لم يعر أدنى اهتمام لمسألة كفاءة الأداء، أو يثر سؤالاً عن الأداء المصري في مجمله. اكتفى كل منهما بتحميل السادات المسؤولية عن كل شيء، وكانت انتقاداتهما له تتعلق بموقفه وليس بنوع الأداء". ويعود المؤلف مرة بعد مرة الى هذه النقطة، حيث لم يدر في خلد كامل وغالي "أي ارتباط بين مشكلة علاقتهما بالرئيس السادات، وبين طابع النظام السياسي المصري في مجمله. ولم يربط اي منهما المشكلة التي واجهتهما مع السادات بأسلوب صنع واتخاذ القرار السياسي المصري بوجه عام. وبينما كان كل منهما يتمنى، على تفاوت بينهما، علاقة أكثر ديموقراطية مع السادات، لم يفكر أيهما بالمسألة الديموقراطية في مصر عموماً". ولأن المسألة الديموقراطية لم ترد أصلاً، فقد بدا لغالي، مثلاً، أن المفاوض الاسرائيلي يستطيع ان يستغل لمصلحته الخلافات بين السادات ومساعديه، كما لو أن السلوك التآمري يمكن أن يمضي بلا ضوابط له ولا حدود عليه وما يتوقف عنده عبدالمجيد ليس فقط نتاج ضعف السياسة أو نزعها، بل هو أيضاً، أي الأداء، مُولّد صورتنا الديبلوماسية في أهم فرص الاحتكاك الديبلوماسي المعاصر مع العالم الخارجي. هكذا ينبغي، قبل الدخول في الشكل الذي انتهت اليه المفاوضات، العودة الى المناخ السياسي والثقافي والتعليمي... الذي يتم فيه انتاج المفاوضين. فحين يفشل أربعمئة من خريجي الجامعات المصرية في الاختبار الذي تجريه وزارة الخارجية للتعيين في وظائف ديبلوماسية، وحين يخفق ألفان آخران في اختبار نظّمته وزارة الاعلام لاختيار عشرة مذيعين ومُعدّي برامج، يصبح المطلوب الاهتمام بمصادر الديبلوماسية قبل التركيز على الديبلوماسية نفسها، والديبلوماسية وحدها. ولهذا لا يتوقع الكاتب في ظل التردي السياسي، بل المجتمعي العام، الا أن يزداد أداؤنا الديبلوماسي المتخلف تخلفاً، خصوصاً أننا لا نراجع تجاربنا ولا نهتم باستخلاص دروسها والعمل على تفادي أوجه القصور فيها. فالحاكم، أي الرئيس السادات، وهو ليس نتاج عملية ديموقراطية، ينشغل ابان الاعداد للتفاوض بالحزب الجديد الذي أعلن تشكيله في آخر تموز يوليو 1978، وهو الحزب الوطني الديموقراطي الذي طرد الحزب الحاكم حينئذ "حزب مصر العربي الاشتراكي" من الساحة وحل محله. وبحسب وزير خارجيته، كامل، فإنه كان "يمضي الكثير من أمسياته منشغلاً بتنظيم الحزب الوطني الديموقراطي، فكان يستقبل الشخصيات والوفود التي هرعت الى اعلان انضمامها للحزب الجديد لغرض أو لآخر، ويشكل اللجان ويوزّع المناصب ويقيم الندوات ويلقي المحاضرات". وكانت الاستراتيجية التي صاغتها مجموعة العمل في وزارة الخارجية ضعيفة الى حد يُرجّح أن يكون قد دعم اقتناع السادات باستراتيجيته البديلة الهادفة الى التوصل الى اطار للسلام، وليس الى اعلان مبادىء، على ما تم فعلاً في كامب ديفيد. ولئن كان السادات مشغولاً بالمسألة المصرية أكثر من الفلسطينية، من دون ان يكون مستعداً لتجاهل الأخيرة خصوصاً وأن في وسع المساومة عليها أن تدعم مركزه في موضوع الانسحاب الكامل من سيناء، فإن أحد انشغالات بطرس كان توليه وزارة الخارجية التي لم تُعط له لأسباب، بينما لم يشاطر كامل رئيسه رأيه في الأولويات، وأنفق حسن التهامي وقتاً طويلاً لاقناع غالي باعتناق الاسلام، او بالتأكد من ان موشي دايان "ضد المسيح". وهذا فضلاً عن زعمه تلقي رسائل غيبية مقدسة تؤكد له ان السادات يسلك الطريق الصحيح! وبدورهما فإن كامل وغالي بالغا في السخرية من التهامي، كما لم يكونا متأكدين من الصفة التي يحضر بها الاجتماعات التفاوضية. فحين ذهب كامل بعيداً في مخالفة رأي السادات، قال له الأخير: "بقى أنت فاكر نفسك ديبلوماسي يا سيد أحمد" بصوت جهوري وقهقهة مسرحية. وحين حل مصطفى الخليل في موقع المسؤولية التفاوضية، لم يكن "مطلعاً تماماً على التفاصيل سواء في ما يتعلق بالشق المصري أو الفلسطيني". فإذا عطفنا الى ذلك كله أن رفض الفلسطينيين، وهم كانوا آنذاك إبان اقامتهم البيروتية ممنوعين من أن يقبلوا، "كان نقطة ضعف عانى منها المفاوض المصري الذي سعى، رغم ذلك، الى الحصول على أقصى ما يمكن انتزاعه"، فهمنا بعض جذور الأزمة التفاوضية العربية، خصوصاً أن دايان اعتبر طلب المصريين حل المسألة الفلسطينية واستعادة سيناء في الوقت نفسه، جرأة غير معهودة. فهو يفكر بالديبلوماسية صلةً ثنائية بين بلدين، فيما المصريون، لأسباب معروفة، مدفوعون الى مناقشة قضيتهم والقضية الفلسطينية، ما يجعل الجهود الاستثنائية مطلوبة لحمل الآخرين على قبول مفهومهم للديبلوماسية. هذا كله لا يعني، بطبيعة الحال، أن الوفد الاسرائيلي كان شديد التجانس، خالياً من التناقضات. فخلافات بيغن ودايان غدت أشهر من أن يُذكّر بها، غير ان الخلافات تلك حصلت في ظل قدرة عضو الوفد على التعبير عن رأيه بجدية في اطار ديموقراطي، وهذا ما كان متاحاً لدايان أو وايزمن. ويوضح لنا عبدالمجيد كيف ان بعض القناعات التي سادت في خصوص كامب ديفيد كانت مجرد خرافات تم تعميمها. فالتوصل الى اتفاق على الانسحاب الكامل من سيناء يتضمن اخلاء المستوطنات، لم يكن سهلاً كما يتصور البعض. ولأنها كانت المرة الأولى التي تقبل فيها اسرائيل اخلاء مستوطنة، نشبت معركة سياسية وفكرية حادة، لا سيما في ما يتصل بياميت. وكان على بيغن ان يقف موقفاً لم يخطر على باله قط، هو القومي المتعصب، فيشرح لشعبه انه كان ازاء وضع بالغ الصعوبة: اما السلام من دون ياميت أو ياميت من دون السلام. ومعروف ما أدى اليه تفكيك أكبر مستوطنات سيناء من تورّم في جبهة اليمين وتعديلات تركت آثارها على مجمل الخريطة الحزبية في اسرائيل. ويلاحظ الكاتب أيضاً، وعلى عكس الرواية الشائعة والاطلاقية عن أميركا، أن الدور الذي قامت به الولاياتالمتحدة في كامب ديفيد وبعده، حتى توقيع معاهدة السلام في آذار مارس 1979، كان "تجسيداً لمفهوم الشريك الكامل في عملية تفاوضية. ولكن كانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي اضطلعت فيها بدورها على هذا النحو". وهو يرد التراجع في الدور هذا الى أن اسرائيل كانت استخلصت درس تلك المفاوضات وتصرفت بمقتضاه فعزمت على تقليص امكان تعرضها لضغوط أميركية مجدداً، ونجحت في ذلك عبر اعطاء مزيد من الاهتمام للكونغرس، الشيء الذي لم يخطر للديبلوماسية المصرية والديبلوماسيات العربية. وفي المعنى هذا كان موقف ادارة كارتر تجاه اهم المسائل الفلسطينية "أفضل وأكثر تقدماً مما صار عليه الموقف الأميركي الآن"، يصح ذلك بالنسبة الى المستوطنات كما بالنسبة الى القدس. ولهذا فليس اكثر ظلماً وخطأً من أن يتهم بعضُنا كارتر بأنه كان "ألعوبة في يد اللوبي اليهودي". والحال، وفي المقابل تماماً، شعر المفاوض المصري نفسه كامل في هذه الحال "باليأس" من الموقف الأميركي المتقدم والايجابي، فيما ارتبط يأسه بموقفه هو من التسوية الذي كان "مفارقاً للواقع" بل "حَريّاً أن يدفعه الى عدم الذهاب الى كامب ديفيد أصلاً". ومن دون ان يقتصر تفسير سياسة كارتر على دور السادات، يبقى مهماً لحظ الصداقة التي نجح الرئيس المصري الراحل في عقدها مع الرئيس الأميركي السابق. وفي مطلق الحالات فإن مواقف كارتر وادارته كان يمكن استغلالها على نحو أكبر "لو كان أداؤنا أفضل". على أن وسطاً ما يقف بين النجاح في عقد صداقة شخصية تخدم السياسة، وبين امحاء السياسة لمصلحة العوامل الشخصية التي يُراد توليد السياسة منها. وهنا كمن سلوك السادات. فقد سبق لأحد الذين درسوا سلوكه في كامب ديفيد أن لاحظ غياب اللحظة السياسية والتفاوضية بتفاصيلها وتعقيداتها. فالرئيس المصري اما أن يرى في "الآخر" أخاً يربطه به ودٌ خالص ولا داعي معه للتشدد أو حتى التدقيق، أو أن يرى فيه خصماً لا مجال للتسوية معه، فيما يتولى "الغضب" تنظيم علاقته به. ومن هذا القبيل لم يكن لديه تصور واضح لكيفية ادارة العلاقة مع الوفد الأميركي، كاشفاً الموقف التفاوضي المصري منذ اللحظة الأولى ل "الصديق" كارتر. هكذا يعيد عبدالمجيد الى الأذهان ان السادات "أبلغ كارتر بالمدى الذي يمكنه الذهاب اليه بالتنازلات، وأدى ذلك الى حرمان المفاوضين المصريين القدرة على المناورة". كذلك أدى طغيان الجوانب الشخصية، على جبهة أخرى، الى أن يضع بعض أعضاء الوفد المصري من ذوي "الذات المتضخمة"، مشكلتهم مع السادات "في صدارة اهتماماتهم". وهذه السياسة الغائبة هي ما ينهي به عبدالمجيد كتابه، مشدداً على أهميتها وأهمية الديموقراطية تالياً، بما يؤدي الى تصحيح الأخطاء ومحاسبة المخطئين. وهذا انما ظهر في الميدان العسكري حيث اختلف الأداء في حرب 1973 عنه في حرب 1967 نظرا الى تحولات أبرزها الحد من سطوة أجهزة الأمن على المواطنين. فاذا كانت الانقسامات الاسرائيلية العميقة غير خافية على احد، غير ان "التقاليد والآليات الديموقراطية"، على عكس ما هي حالنا، تهدىء حدة الصراع الديني - العلماني وغيره من الصراعات. وقد جاء الموقف الرسمي من كامب ديفيد نفسها ليدل الى الفارق في تركيب المجتمعين، اذ وافق مجلس الشعب المصري بنسبة 96 في المئة على المعاهدة التي وقّعها الرئيس، بينما وافقت الكنيست الاسرائيلية عليها بنسبة 85 في المئة فقط، علماً أن حزب العمل المعارض كان مؤيداً، كما كان بطبيعة الحال حزب ليكود الحاكم. وما لبث السادات نفسه ان قضى قتلاً، فيما تبين ان الذين يعارضون كامب ديفيد في مصر ليسوا مجرد "حفنة" تقل عن 15 في المئة من السكان. * كاتب ومعلّق لبناني.