ما زال الحوار محتدماً حول مقالنا "بيد عمرو... إن لم تسارع أيدينا بالتغيير "الحياة" 13/8/2003 . وكان آخر من دخلوا على الخط للإدلاء بدلوهم على الساحة المصرية كل من الكاتب الصحافي إبراهيم عيسى، الذي نشر مقالاً في عنوان "بيد عمرو لا بيد سعد" "الميدان" 21/8/2003، والدكتور جلال أمين أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية في القاهرة، الذي نشر مقالاً بعنوان "سعد الدين ابراهيم ومدرسته أشبه بتحقير لدور المثقفين العرب في المرحلة الراهنة" "الحياة" في 9/9/2003. كان إبراهيم عيسى خفيف الظل، ساخراً ومتعجلاً، إذ اختصر المشهد العربي الراهن في أنه لا أمل في حكامه أو مثقفيه للمبادرة بتغيير الأوضاع البائسة التي نعيش فيها. ولذلك ينذرنا أو يبشرنا إبراهيم عيسى بأن التغيير إن أتى فسيكون بيد عمرو. أما أستاذ الاقتصاد الشهير فهو مكتئب ويائس تماماً من إمكان التغيير على أيدي الحكام العرب، لأن الغرب أوروبا في الماضي، وأميركا في الحاضر هو الذي أتى بهؤلاء الحكام. وحتى إذا حاول هؤلاء الحكام التغيير هنا أو هناك في ظل الهيمنة الغربية، "فلن يكون الحال أفضل بدرجة محسوسة... وستكون أميركا وإسرائيل على استعداد أن تفعلا المستحيل من أجل تخريب التنمية وتعطيل التطور الديموقراطي ووضع العراقيل في وجه إصلاح التعليم والثقافة وفي طريق تحقيق أي صورة جدية للتعاون العربي أو الوحدة العربية. إذاً، طبقاً لتحليل أستاذ الاقتصاد، ليس هناك من أمل... ويتكرر هذا المعنى مرات عدة في مقاله الذي ملأ صفحة كاملة 3300 كلمة من دون بصيص من نور. ويبدو أنه يؤمن بهذا التحليل وما تداعى منه إيماناً عميقاً بأن لا أمل في الداخل أو الخارج، "لا بيدنا ولا بيد عمرو". لذلك استبد الإحباط برجل الاقتصاد الشهير. ولكن، يؤرق الرجل هاجسان، الاول هو بنص كلماته: "والسؤال الآن هو لماذا لا يشعر سعد الدين إبراهيم بهذا الإحباط الذي نشعر به من الصورة العامة الناتجة عن الهيمنة الأميركية والوجود الإسرائيلي؟ ألا يرى في هذه الهيمنة ما يغضبه ويثير أعصابه؟"، وسوف أؤجل الإجابة على هذا السؤال إلى نهاية مقالي. إن جلال أمين ظل يردد هذا التحليل، وباليقين نفسه على امتداد الثلاثين عاماً الأخيرة، أي أنه منذ نشر كتابه "الوطن العربي والغرب" بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية العام 1978 ممعناً في يأسه وإحباطه. ولكنه يستغرب لماذا لا ينضم اليه في هذا اليأس والإحباط كل المثقفين العرب وبلا استثناء. ومن الواضح أنه يرى في شخصي المتواضع استثناء عن القاعدة. أي أنه لا يقتنع بأن هناك كثيرين مثله - يائسين، غاضبين، محبطين - هو يريد إجماعاً عربياً على اليأس والقنوط والإحباط. أما الهاجس الثاني الذي يؤرق أستاذ الاقتصاد فهو، بنص كلماته إن مقالي "لا يحتوي على عبارة نقد واحدة للسياسة الأميركية أو إسرائيل، أو جملة واحدة يمكن أن تسيء إلى الولاياتالمتحدة أو تغضب إسرائيل، المسؤولية كلها على العرب حكاماً ومثقفين". فإذا تجاوزنا الغمز الرخيص، واللمز الأرخص في هذا التساؤل، فإن أستاذ الاقتصاد فاته أن يقرأ كتاباتي السابقة عن "الأميركي القبيح" الجمهورية، 1982 أو قبلها بعشر سنوات عن سوسيولوجية "الصراع العربي - الإسرائيلي" دار الطليعة، بيروت 1973. بل لعله قصد أن يتجاهل عبارات واضحة صريحة في المقال نفسه الذي نشر لي في "الحياة" 13/8، ورد عليه هو في مقاله الغامز اللامز، بعد ثلاثة أسابيع 9/9... لقد قلت في مقالي إن منطقتنا مستهدفة طوال القرون الثلاثة الأخيرة من قوى الهيمنة الغربية الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين، والأميركية في القرن الأخير. ألم يقرأ الأستاذ الذي يُعلم طلابه الدقة في الاقتباس والأمانة في التوثيق نص هذه العبارة "إن هذه الأهمية الإستراتيجية جعلت منطقتنا في بؤرة الاهتمام العالمي، وتضاعفت هذه الأهمية في القرن الأخير مع اكتشاف النفط في أطرافها وغرس إسرائيل في قلبها؟"... ألم يقرأ الأستاذ في مقالي العبارات الآتية: "بنهاية الحرب الباردة أصبح هناك قطب أميركي واحد يهيمن على مجريات الشؤون العالمية ولا كابح لهذا القطب الأوحد إلا قوى الرأي العام الأميركي نفسه". الأستاذ يأخذ علينا لا أننا لم ننقد أميركا وإسرائيل، ولكن أننا لم نهاجمهما بما فيه الكفاية. وردنا على هذه الملاحظة أننا فعلنا ذلك لعشرات السنوات في كتب ومقالات عدة، ذكرنا بعضها أعلاه. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فأستاذ الاقتصاد وغيره كثيرون احترفوا مثل هذا الهجوم وأجادوه، فلنتقدم قليلاً في تقسيم العمل الفكري وفي التحليل الاجتماعي والسياسي، ونترك لمن يجيدون الشتائم وصب اللعنات على ظلام الهيمنة الأميركية وربيبتها إسرائيل المزعومة أن يؤدوا عملهم اللفظي المبهر، والذي يلقم أعداءنا حجراً تلو حجر، ولينصرف بعضنا الآخر لمواجهة الاستبداد الداخلي، ولإشعال الشموع، حتى ولو شمعة واحدة. إن جلال أمين مسكون بالغرب عموماً وبأميركا خصوصاً، لكنه لا يقدم فكرة واحدة أو رؤية متكاملة، أو حتى جزئية، للتعامل مع هذا العفريت الأميركي، ناهيك عن قهره ودحره. وجلال أمين مشفق على الحكام العرب حتى لو كانوا فاسدين أو مستبدين. لماذا؟ لأنهم، بنص كلماته "قليلي الحيلة، فهم عاجزون، ولو كانوا أقل عجزاً لتخلصت منهم الولاياتالمتحدة منذ زمن طويل". إن تحليل جلال أمين تحليل دائري، فقوى الهيمنة الأميركية هي التي أتت بالحكام العرب إلى السلطة، ودعمتهم حتى بقوا فيها، فإذا حاول أحدهم أن يُصلح من أحوال بلاده، فإنها تسارع إلى الانقضاض عليه وإسقاطه، مثلما فعلت مع المصلح الكبير صدام حسين!. هذا التحليل الاختزالي الدائري هو الذي يؤدي بجلال أمين إلى اليأس والإحباط. أما لماذا لا أشاركه يأسه وإحباطه، فلسببين أساسيين أولهما: أنني لا أشاركه منطلقاته التحليلية التي تفسر حركة التاريخ الإنساني عموماً، والعربي خصوصاً، بمقولة الهيمنة الأجنبية والتبعية الداخلية. وإلا ما تقدمت مجتمعات أخرى، كانت أحوالها مثل أحوالنا أو أسوأ كثيراً مثل الصين والهند وكوريا وتايوان وفيتنام وماليزيا وتايلاند والبرازيل وشيلي والبرتغال وأسبانيا وبولندا. لقد حرصت في إيراد هذه الأمثلة أن تحتوي على بلدان حكمتها أنظمة وأيديولوجيات مختلفة، كما أنها تتفاوت في أحجامها، سكاناً ومساحة، وقد حدث تقدمها جميعاً خلال الثلاثين سنة الأخيرة، أي في ظل نظام دولي تهيمن عليه أقطاب دولية معلومة. بل إن بعضها حقق طفراته التنموية والديموقراطية في السنوات العشر الأخيرة، أي بعد نهاية الحرب الباردة، وفي ظل هيمنة القطب أو العفريت الأميركي الأوحد. فكيف أفلت كل هؤلاء، سواء في ظل الحرب الباردة أو بعدها، ولم تنجح أنظمتنا العربية من الإفلات؟ قد يسارع المسكونون بالعفريت الأميركي وربيبته المزعومة إسرائيل بالقول إن أولئك الذين أفلتوا لم يكن لديهم نفط ولم يجاوروا ربيبة أميركية اسمها إسرائيل. ونرد عليهم أن معظم بلداننا العربية لا نفط فيها ولا تجاور إسرائيل، ولم تدخل معها في أي حرب، ولم تتعرض لأي عدوان منها. فكيف نفسر استمرار استبداد أنظمتها وفسادها؟ وقد دأب أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية على صب اللعنات على أميركا كلما عجز عن تفنيد مقولة مستقرة أو وصل بتحليله إلى طريق مسدود. من ذلك اقتباسه مقطعاً من مقالنا عن الذين يرفضون التغيير "هذه المقاومة للتغيير يمارسها مثقفون عرب تحت شعار مقاومة الهجمة الغربية أو مهاجمة العولمة أو دفاعاً عن الثوابت العربية. وهم في ذلك ينسون أو يتناسون أن الذي سهّل للهيمنة الغربية عموماً والأميركية خصوصاً مهمتها في اختراق الجسم العربي هو سيطرة الجمود السياسي والتحجر الاجتماعي والدروشة الدينية". وكأن جلال أمين أحس شخصياً أنه المقصود بهذا الكلام، فهب مدافعاً بتنبيه القراء إلى الخطر بهذه الكلمات "ما أخطر هذا الكلام. ولكن ما أسوأه أيضاً". أما لماذا كلامي خطير وسيئ فهو لا يخبرنا بمقولة مضادة مثلاً، ولكن يدعي أنني ساخط على كل من لا يعجبه ما يفعل الأميركيون اليوم في البلاد العربية. عدتُ إلى نص مقالي ابحث عن هذا الذي ادعاه عليّ أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية، فلم أعثر على كلمة واحدة تقترب مما ادعاه. فأنا لم أعبر عن أي سخط أو احباط، ولم أستخدم هذه المفردات أصلاً. وحتى أريحه تماماً وأقطع عليه خط الرجعة إن هو فكر في الرد على هذا المقال، أقول له: "على أميركا ألف لعنة ولعنة... وعلى إسرائيل مليون لعنة ولعنة". المهم، أن يدخل جلال أمين وأمثاله في الموضوع الذي نحن بصدده. فإذا كان يقر بأن أحوال العرب سيئة، فما هو السبيل إلى تغييرها؟ وإذا كان الغرب وأميركا وإسرائيل هم المسؤولون عن سوء أحوال العرب، فكيف السبيل إلى دحرهم وهزيمتهم؟ أرجوك يا دكتور جلال أمين أن تضيء لنا ولو شمعة واحدة بالإجابة على السؤالين أعلاه، بدلاً من اللعنات المعتادة التي تصبّها على كل غربي دب وعلى كل أميركي هب، وعلى كل إسرائيلي هب ودب. لقد وجهت أنا هذه اللعنات نيابة عنك على أمل أن تدخل في موضوع التغيير: طبيعته وكيفيته... وهزيمة أميركا وإسرائيل والغرب: كيف ومتى؟ أرجو ألا يتملص الدكتور جلال أمين من الإجابة على هذه الأسئلة وأؤكد له أنه لو اجتهد وتبرع بجزء من وقته للمساهمة في تنفيذ ما ستتفتق عنه قريحته من تغيير... أؤكد له أنه في هذه الحال سيجد إجابة على السؤال الذي طرحه في منتصف مقاله وهو "لماذا لا يشعر سعد الدين إبراهيم بهذا الإحباط الذي شعر هو به من الصورة العامة الناتجة عن الهيمنة الأميركية والوجود الإسرائيلي؟" هناك يا أخ جلال من يقاومون أميركا بالسلاح في أفغانستان والعراق ومن يقاومون الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. وهناك من يقاومون أميركا بسلاح المقاطعة لبضائعها ومؤسساتها. وهناك من يقاومون الأنظمة العربية المستبدة بالعنف أو بالوسائل السلمية. باختصار هناك ألف طريقة وطريقة لمقاومة الهيمنة الخارجية والاستبداد الداخلي. المهم أن ينخرط الدكتور جلال أمين وأمثاله في أي منها، وإذا لم تعجبه جميعها فليبدأ هو حركة اجتماعية، أو حزباً سياسياً، أو منظمة مدنية غير حكومية. المهم أن يفعل شيئاً، ولو مرة واحدة على سبيل التغيير. إن التغلب على الإحباط هو العمل وإضاءة الشموع وليس التنطح الفكري وصب اللعنات على الظلام. أقول قولي هذا وأرجو للعزيز جلال أمين الهداية وقهر الإحباط. * كاتب مصري. رئيس مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية.