الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إطلالة على الزمن القديم    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    فعل لا رد فعل    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كلام مواطن عربي سعودي مسلم ... لكي لا تقود الحكومة الأميركية العالم إلى كارثة
نشر في الحياة يوم 13 - 03 - 2002

أكتب هذه المقالة بصفتي مواطناً عربياً سعودياً مسلماً، مشتغلاً بالترجمة والانتاج الثقافي والمعلومات وتقنيتها، وأعيش في وطني المملكة العربية السعودية، وأعتبر نفسي مواطناً في هذا العالم. كذلك، أكتب هذه المقالة معبراً عن رأيي الخاص، وليس الرأي الرسمي السعودي، فأنا أعمل في القطاع الخاص.
هذه المقالة لن تجعل السيد جورج بوش الابن يغيّر مواقفه، ولن تؤثر في سياسة الحكومة الأميركية، ولن توقف العدوان والبطش الذي تمارسه اسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني، ولن تعيد أرض فلسطين المحتلة الى أصحابها، ولن تقنع السيد توماس فريدمان انه يمارس نفاقاً وتضليلاً مماثلاً لذلك النفاق والتضليل الذي مارسته وتمارسه الحكومة الأميركية في أماكن كثيرة في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، ولن تقدم حلاً سحرياً لمشكلات العالم العربي والإسلامي المنقسم على نفسه. وأكتب هذه المقالة للناس العاديين في الولايات المتحدة، وفي العالم العربي والإسلامي ومن سيقرأني في هذا العالم المملوء بالأخبار وطلاب الحقيقة والسلام.
وكمواطن عربي مسلم ومواطن في هذا العالم، فإنني - في المقام الأول - أهدي هذه المقالة الى أرواح الشهداء الأبرار في فلسطين المحتلة الذين دافعوا عن القيم الإنسانية الواضحة، وهي قيم التضحية والكرامة والشرف، ورفض الذل والخنوع، وطلب تحرير الأرض المغتصبة وازالة الاحتلال.
كل الكتابات والتنظيرات والتحليلات، أولاً وأخيراً، لا تساوي قطرة من الدم البشري تراق بغير حق. وكل الكتابات والتنظيرات والتحليلات والتصريحات والأموال والجيوش ووسائل الترغيب والترهيب لا تستطيع ان تجعل الباطل حقاً، والضياء عتمة.
الحكومة الأميركية الحالية تقود العالم الى كوارث لا يعلم مداها إلا الله.
سنأخذ الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية مثالاً، وسأقول البديهات والوقائع الأساسية للقارئ غير العربي:
تحت وطأة تأنيب الضمير تجاه اضطهاد اليهود في أوروبا وبتأثير الإعلام والمال الصهيونيين، قررت الحكومة البريطانية انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1917، وبدأت الحكومات الأوروبية وبريطانيا والجمعيات اليهودية في ترحيل اليهود، مدعومين بالمال والسلاح والإعلام، من أوروبا الى فلسطين، على رغم رفض الحكومات العربية والمواطنين العرب الفلسطينيين، وأعلن عن قيام دولة اسرائيل عام 1948م. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن هجّر نحو أربعة ملايين مواطن عربي فلسطيني، من العرب المسلمين والمسيحيين، ودمرت البيوت والأراضي وصودرت وسرقت، وقتل المقاومون العرب الذين أرادوا استرداد بلادهم. حدثت حروب وانتفاضات على مدى نصف قرن، آخرها الانتفاضة الأخيرة المستمرة الآن والتي بدأت في عام 2000.
هناك تفاصيل عدة مثل حرب 1967م وحرب 1973 بين اسرائيل والعرب اللتين احتلت فيهما اسرائيل أراضي عربية مصرية وسورية ولبنانية، واجتياح اسرائيل جنوب لبنان أكثر من مرة. هناك المفاوضات التي جرت ولم تؤد الى سلام شامل وعادل، وهناك قرار الأمم المتحدة عام 1947 بتقسيم فلسطين الى دولتين عربية واسرائيلية، وصدور قرار من الأمم المتحدة بعودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم القرار 194، وصدور قرارات للمفاوضة على انحساب اسرائيل فقط من الأراضي الفلسطينية والعربية الأخرى التي احتلتها عام 1967 القراران 242 و338. وهناك مؤتمر مدريد للسلام عام 1990 لتطبيق مبدأ الأرض مقابل السلام، أي اعادة الأرض العربية المحتلة عام 1967 في مقابل سلام بين العرب واسرائيل التي جعلتها قوة السلاح والمال والإعلام واقعاً على الأرض.
كل هذه التفاصيل والقرارات لم تؤد الى سلام بين العرب واسرائيل. وكل هذه التفاصيل لا تلغي جوهر المشكلة التي هي ببساطة:
1 - ان انشاء دولة اسرائيل قام بالمال والسلاح والارهاب والإعلام بجلب اليهود من أوروبا وأميركا وإحلالهم بالقوة والعنف والإرهاب محل السكان الأصليين.
2 - ان انشاء دولة اسرائيل أدى الى تهجير نحو أربعة ملايين عربي فلسطيني من المسلمين والمسيحيين الى خارج بلادهم فلسطين.
3 - ان انشاء دولة اسرائيل أحدث - ولا يزال يُحدث - خسائر فادحة وبشعة في الأرواح والممتلكات العربية الفلسطينية.
4 - ان انشاء دولة اسرائيل قام على منظومة من المعتقدات مثل ان فلسطين أرض بلا شعب وهي لليهود الذين هم شعب بلا أرض، وأن هذه الأرض المقدسة هي الأرض التي وعد الله بها اليهود وان كل من ينتقد اسرائيل وجراءمها هو معادٍ للسامية.
هذا ما ينبغي ابرازه للرأي العام العالمي والضمير الانساني بالأرقام والوقائع في كل اللغات وفي كل المحافل حتى يعرف الناس الأحرار جوهر الصراع.
والحكومة الأميركية - تحت وطأة تأثير اللوبي الصهيوني - لا تريد ان تلتفت الى هذه الحقائق الأساسية في الصراع العربي الاسرائيلي. والحكومة هذه - وليس الشعب الأميركي الذي هو ضحية التضليل الإعلامي - لم تعمل بإخلاص ووضوح حتى هذه اللحظة على ردع اسرائيل واعادة الحقوق الى أصحابها وفرض حل عملي بحسب الشرعية الدولية وحقوق الإنسان.
الحكومة الأميركية - وليس الشعب الأميركي الذي هو ضحية التضليل الإعلامي - لا تستطيع ان تعصي لإسرائيل أمراً، وليذهب الضمير الإنساني الى الجحيم.
أكثر من هذا، الحكومة الأميركية - وليس الشعب الأميركي الذي هو ضحية التضليل الإعلامي - تصرح وتلمح الى ضرب ومحاصرة ومعاقبة أي دولة أو نظام أو شعب يعارض سياستها وسياسة اسرائيل في المنطقة. فهي تلوح أحياناً بضرب العراق الذي يموت أطفاله جوعاً ومرضاً تحت الحصار الأميركي، وأحياناً بضرب ايران باعتبارها احدى "دول محور الشر" - بحسب تعبير الرئيس بوش، وأحياناً بضرب "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وهي قوى مقاومة، وليست بأي حال قوى ارهاب، وهذه المنظمات ترجو إما الشهادة وإما استعادة الحقوق المغتصبة كما يليق بأي انسان ويجب على أي انسان ان يفعل، بغض النظر عن دينه أو معتقده. وذنب هذه المنظمات انها تريد تحرير الأرض الفلسطينية. وجريمة العراق وايران الآن من وجهة نظر الحكومة الأميركية هي أنهما يعارضان سياسة الحكومة الأميركية وسياسة اسرائيل في المنطقة.
اسرائيل مسكونة بهاجس الأمن والخوف من العرب والمسلمين في المنطقة. وأمام الحكومة الأميركية واسرائيل سيناريوات منها:
1 - ابادة جميع العرب والمسلمين وهم خمس سكان العالم للتخلص من القضية الفلسطينية.
2 - القبول بمنطق السلام العادل وانسحاب اسرائيل فوراً من دون قيد أو شرط على الأقل من جميع الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967 وتفكيك جميع المستوطنات التي بنيت في الأراضي المحتلة عام 1967، وعودة اللاجئين العرب الى ديارهم وتعويضهم والاعتذار عن جرائم اسرائيل واعتداءاتها على الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين وتعويضهم أيضاً عن جميع خسائرهم البشرية والمادية والمعنوية، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وترسيم الحدود مع جميع الدول العربية المجاورة واحلال قوى دولية لمراقبة السلام.
3 - الاستمرار في الحالة الراهنة مع كسب الوقت بالحديث الديبلوماسي والتهدئة ثم الحديث الزائف عن المفاوضات والسلام وارسال المبعوثين والوفود.
والحقيقة ان هناك شعباً أعزل هو الشعب الفلسطيني المحاصر يقاوم ويموت ويسقط شهداؤه من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب تحت قذائف الطائرات والدبابات الاسرائيلية، في طريق صحوة الضمير الانساني.
الحال الراهنة هي بكل تأكيد أحد أسباب التطرف الإسلامي الحالي والمتزايد في المنطقة العربية والعالم الإسلامي بأسره.
ولأن الحكومة الأميركية - وليس الشعب الأميركي الذي هو ضحية التضليل الإعلامي - قادرة جداً وفي شكل براغماتي وحاسم على ضرب الإرهاب في أفغانستان لكنها ضعيفة ومترددة بل متواطئة مع الاحتلال الاسرائيلي، فإن رئيسها يصرح للإعلام الأميركي والعالمي بعبارات غامضة تشي بالتأجيل والتسويف والتمييع وكسب الوقت وعدم الحسم مثل:
1 - الدولة الفلسطينية كانت جزءاً من تفكير الإدارة الأميركية لماذا لم تقم الدولة الفلسطينية حتى الآن؟.
2 - لا بد من خفض العنف في الشرق الأوسط السؤال: عنف من؟ هل احتلال الأراضي بالقوة والارهاب عنف أم لا؟.
3 - سأبعث تينيت وزيني وغيرهما الى المنطقة السؤال: ماذا سيفعل المبعوثان لوقف الاعتداء الاسرائيلي واحتلاله؟ هل الانسحاب من الأراضي المحتلة يحتاج الى مبعوثين أولاً؟.
4 - اطلب من السلطة الفلسطينية ان تعمل أكثر لوقف العنف السؤال: من يدمر المقرات الرسمية للسلطة الفلسطينية بالقذائف؟ ومن يضع الرئيس الفلسطيني تحت الاقامة الجبرية في رام الله؟.
5 - العودة الى المفاوضات السؤال: لماذا المفاوضات أولاً وليس الانسحاب؟ والمفاوضات على ماذا؟
6 - أحث الأطراف على ضبط النفس السؤال: أين حقوق لمعتدى عليه وأين العقاب الرادع للجاني؟ لماذا الاحتلال أصلاً؟ وأين حقوق الإنسان؟.
يلاحظ القارئ انني أتحدث عن سياسة الحكومة الأميركية، ولا أتحدث عن الشعب الأميركي الطيب والنبيل الذي هو ضحية التضليل الإعلامي. لقد عشت شخصياً مع أصدقائي الأميركيين زهاء ست سنوات في الولايات المتحدة عندما كنت طالباً، وأعرف جيداً انهم شعب يتميز بالمثابرة والإبداع وحس النكتة، ومحبة الحياة والعمل النافع، وفيهم - كأي شعب - الصالح والطالح. والولايات المتحدة - شعباً وانجازات - هي أفراد وأسر ومثقفون وجامعات رائدة، وبحث علمي متفوق، ومستشفيات وتجارة وأعمال متنوعة وانجازات علمية واجتماعية وفنية ممتازة. وهم - كأي بشر - يعيشون ويموتون بآمالهم ومشكلاتهم، ولديهم هموم تربية الأولاد تربية صالحة وهموم الصحة والسعادة والنجاح وتحقيق حياة طيبة لهم ولمن حولهم.
أما الإعلام الأميركي ومن يؤثر فيه ويسيطر عليه، فيمعن في النفاق والتضليل وخلط الحقائق. وأول ضحايا ذلك هو الشعب الأميركي نفسه. ان هناك في العالم مصالح متنامية من حيث الضخامة والتنوع بعشرات ومئات البلايين من الدولارات وأكثر لتحقيق مشاريع السيطرة والهيمنة بالترغيب والترهيب. وتقود هذه المصالح للشركات الكبرى العابرة للقارات ترسانة ضخمة من العمل الإعلامي الجبار وأعمال العلاقات العامة، جنباً الى جنب مع الترسانة الهائلة من الأسلحة التي تهدد بتدمير الكوكب. وليس معظم أعضاء الحكومة الأميركية سوى اداريين في هذه الآلة الطاحنة. ويُرجى من العقلاء أصحاب المصالح الكبرى في العالم ان يعيدوا النظر في واقع الناس ومصيرهم والكوكب برمته. فهناك في العالم ازدياد في الجهل والفقر والمرض والتعصب والتلوث البيئي وجعل الإنسان رقماً فحسب في السوق الاستهلاكي، واعلاء قيمة وهدف الربح المالي فوق أي اعتبار، وهناك مآسي البطالة والتضخم والمشكلات الاجتماعية، وتفريغ المحتويات التربوية والثقافية والخدماتية والمعلوماتية والمعرفية من محتوياتها الانسانية لجهة الربح المالي. وهناك عسكرة العالم، والتدخل السافر في شؤون الدول والمجتمعات والأديان، وإملاء الشروط السياسية والمعلوماتية التقنية تحت دواعي العولمة بخيرها وشرها من دون تمييز.
وإذا كان للسيد توماس فريدمان، الكاتب في "نيويورك تايمز" صوت مسموع يصب في مجرى النفاق والتضليل الذي تمارسه الحكومة الأميركية، فإن في الولايات المتحدة أصواتاً أخرى ناقدة وصريحة ومسموعة، ولكن في درجات أقل كثيراً وبما لا يقاس، مثل أصوات نعوم تشومسكي وبول فندلي وإدوارد سعيد وغيرهم. وفي المجتمع الأميركي أصوات انسانية شريفة أخرى من العلماء والمثقفين والناس العاديين ممن يعبّرون، في شغف انساني، عن المشكلات القائمة وهي مشكلات تخص الجميع على وجه البسيطة، فلم يعد شعب أو أحد في معزل عن شعب أو أحد. والملاحظ أن أمثال نعوم تشومسكي وبول فندلي وادوارد سعيد وغيرهم يُنظر اليهم شزراً ومن دون ارتياح من الإعلام الأميركي الرسمي، والسبب ان هؤلاء - مع تجاربهم وخلفياتهم المعرفية القومية - ذوو حس نقدي ويتكلمون بوضوح وعمق واقناع عن أخطاء سياسة الحكومة الأميركية بالمعلومات والوثائق، داخل أميركا وخارجها. لذلك، فإن الإعلام الأميركي الرسمي - الذي يتخذ من حقوق الإنسان والديموقراطية شعارات جليلة - لا يفرد لتشومسكي وفندلي وسعيد المساحة التي يفردها لفريدمان وزملائه، بل ان وسائل الإعلام الأميركي المؤثرة - الصحف الكبيرة والتلفزيونات المشهورة تتجاهل وتتحاشى عمداً التعامل مع الصوت النقدي القوي للمثقف الأميركي الذي يعارض السياسة الرسمية الأميركية ويفضحها.
وأما شعور الناس في أميركا وفي غيرها تجاه سياسة الحكومة الأميركية التي تقود العالم نحو مزيد من الكوارث، فله مؤشرات في سياتل ودافوس وكوريا وجنوى وغيرها حيث الاحتجاج المنظم على الآثار السلبية للعولمة القسرية التي تقودها الحكومة الأميركية في العالم من دون تمييز. وتعرف الحكومة الأميركية شعور المرارة والاحباط والكراهية الذي بدأ كثر من الناس في العالم يعبرون عنه تجاهها.
من هنا لا بد من ان تدعى الحكومات العربية والإسلامية وحكومات العالم المستضعف الى مخاطبة الناس العاديين ومخاطبة المثقفين النقديين غير الرسميين في الولايات المتحدة ودعوتهم باستمرار الى حوارات مفتوحة وعلنية مع المثقفين الرسميين وغير الرسميين في العالمين العربي والإسلامي وشتى أرجاء العالم.
وكتابات السيد توماس فريدمان مثال واضح لما يمكن ان يطلق عليه اعلام منافق وتضليلي.
زار السيد فريدمان المملكة العربية السعودية، وخرج غاضباً - كما قالت الصحف - لأن بعض من قابلهم من المثقفين سموا شارون ارهابياً، ولأنهم انتقدوا سياسة الحكومة الاسرائيلية، ولأن بعضهم - كما قرأنا - ذكر الدين اليهودي بسوء مما شعر معه السيد فريدمان بالإهانة لمعتقده.
لم أقابل فريدمان شخصياً في السعودية. ولو قابلته لرجوت أن أكتب زاويته الشهيرة مرة واحدة فقط بالنيابة لكي أقول فيها للناس العاديين في أميركا بعض ما أقوله في هذه المقالة عن النفاق والتضليل في سياسة الحكومة الأميركية في خصوص الصراع العربي - الاسرائيلي.
أما شارون والسياسة الاسرائيلية والاحتلال الاسرائيلي منذ 1917 وحتى الآن واجتياح فلسطين قسراً منذ أكثر من نصف قرن بالمهاجرين اليهود وممارسات اسرائيل اللاإنسانية ضد العرب بالقتل والتشريد والهدم والحصار، فأنا واثق أن معظم العرب والمسلمين يعتقدون جازمين ان ذلك كله ارهاباً مدعوماً بالسلاح والمال والعمل الديبلوماسي من حكومة الولايات المتحدة الأميركية صاحبة الفيتو دائماً لمصلحة اسرائيل في مجلس الأمن.
وأما إذا أساء أحدٌ الى دين فريدمان اليهودية فأنا أعتذر نيابة عن المسيء، وهو قد أخطأ. فلا الدين الإسلامي ولا الأخلاق العربية ولا الذوق الانساني تسمح بإهانة أي معتقد. ومن الأخطاء الشائعة عن الإسلام لدى بعض المسلمين مع الأسف ولدى غيرهم أن الدين الإسلامي يلغي الديانات الأخرى ويحث على قتل الكفار، ويأمر بالإساءة الى غير المسلمين، وان الجهاد هو الحرب على الكفار وان كانوا مسالمين والبدء بالقتال والغزو. الدين الإسلامي يدعو الى عكس ذلك تماماً، فهو دين رحمة، ودعوة الى الإخاء والتسامح بين بني البشر جميعاً، ويأمر بالقسط والبر بالنصارى واليهود وأهل الديانات الأخرى. وفي القرآن آيات كثيرة تؤكد هذا المنحى والتوجه الإنساني العالمي للدين الإسلامي الذي هو تتمة لمكارم الأخلاق وتكملة للديانات. أما الآيات التي تتحدث عن القتل والإصرار على إثبات الفوارق فهذه مشروطة بوقائع وأحداث معينة تعرض فيها المسلمون الى بطش وتنكيل وخديعة، لذلك فهي دفاع مشروع عن النفس في سياقه. وأدعو العلماء والمفكرين المقتدرين من العرب والمسلمين وغيرهم الى التفات أكثر ومزيد من الكتابات والشروحات لهذه المعاني الإسلامية الإنسانية.
وقد يبدو لبعض الناظرين ان هناك تناقضاً في آيات القرآن. والمسألة مسألة تدقيق في النظر والتحليل ومعرفة السياق، ومسألة تأويل للآيات الكريمة. وأهل التفسير المستنيرون أقدر على شرح وتأكيد هذه الجوانب الى السيد فريدمان والى الأجيال العربية والإسلامية.
ويعرف السيد فريدمان ان اليهود عاشوا على دينهم أفضل فترات تاريخهم في البلاد العربية بما فيها فلسطين وتحت الحكم العربي الإسلامي في اسبانيا وغيرها، أقليات محترمة في سلام. وحين كانوا يتآمرون وينقضون العهود والمواثيق ويشهرون السلاح على المسلمين أو يشاركون عملياً في القتال ضد المسلمين، فمن المتوقع، وهم في موقع من بدأ العداوة، أن يكون هناك قتال ضدهم أو نفي من الأرض. وأيام كان العرب والمسلمون في موقع القوة والفعل، فقد كان خلفاء المسلمين وقادتهم وعلماؤهم ومثقفوهم على علاقات انسانية جيدة مع أهل الديانات المختلفة جميعاً. وطبيب صلاح الدين الأيوبي، محرر بيت المقدس في القرن الثاني عشر الميلادي، يهودي لا يقر اليهود على الاحتلال والعدوان. هذا النوع من المعلومات بتفاصيله ينبغي تعميمه على توماس فريدمان والإعلام العربي وعلى مدارس التعليم العام في البلاد العربية، معاً. لأن الدين الإسلامي دين محبة وتعاون على البر والتقوى، وليس تعاوناً على الإثم والعدوان. وفي طبيعة الحال، فهناك دائماً استغلال للدين كما هناك استغلال لأي نسق أو منظومة من الأفكار والمعتقدات، كما هناك أيضاً تأويلات وممارسات بعيدة من جوهر المعتقد. والمسألة كلها منوطة بالوعي والفهم والتأويل والمصالح وأفق الإنسان وإدراكه وأهدافه. هذه - أولا - كلمة اعتذار وتوضيح للسيد فريدمان.
ثم كتب فريدمان مقالته حاجز الأفكار أو الجدار الفكري في جريدة "نيويورك تايمز". وتُرجمت المقالة الى اللغة العربية ونشرتها "الوطن" السعودية يوم 4 آذار مارس 2002. قرأت المقالة أكثر من مرة. وفيها ذاك النوع من النفاق والتضليل. سأوضح ذلك.
يعلن فريدمان، بعد تجواله مدة ستة أسابيع في السعودية ومصر وباكستان ان الناس هنا "لا يصدقوننا عندما نقول لهم الحقيقة". سيدي فريدمان: هل قلت للناس هنا ما يعرفونه جيداً من الظلم والعدوان الذي مارسته وتمارسه دولة اسرائيل بدعم لا محدود بالمال والسلاح من الحكومة الأميركية لهذه الدولة العنصرية، فلم يصدقوك؟ هل قلت لهم حقيقة سياسة الحكومة الأميركية، الدولة العظمى في العالم، وأنها سياسة غير انسانية وغير عادلة في كف الشر الاسرائيلي المعلوم يومياً في الأراضي الفلسطينية، فلم يصدقوك؟ هل قلت لهم ان الإرهاب ارهاب والاعتداء اعتداء جاء من شارون أو من غيره، فلم يصدقوك؟
يقول فريدمان ان الرئيس كلينتون قضى آخر فترته الرئاسية يحاول ايجاد/ خلق دولة فلسطينية، وان الفلسطينيين لم يقبلوا. وهذا أمر لا يصدقه عاقل. فما عُرض ويعرض على الفلسطينيين هو أقل من 20 في المئة من أرضهم المحتلة كل فلسطين أي يعرض عليهم الضفة والقطاع مع وجود مستعمرات وبشروط أمنية مذلة. هل قلت للناس ولقرائك في "نيويورك تايمز" تلك الحقيقة فلم يصدقوك؟
يتحدث فريدمان ان عدم ايقاف بناء المستعمرات سيدمر اسرائيل كدولة يهودية. ونحن نقول له ان العرب والمسلمين لا يقبلون أي مستعمرة في الأراضي المحتلة عام 1967. ذاك هو الحد الأدنى الذي يمكن تسويقه للعرب والمسلمين المعتدلين. وعلى هذه المستعمرات ان تفكك قطعة قطعة ويعود سكانها من حيث أتوا وليس فقط مجرد التكرم بإيقاف بناء المستوطنات.
ويتهم فريدمان القادة العرب والمسلمين بالإسهام في حاجز الأفكار بتشجيعه نشر أسوأ الأكاذيب عن أميركا، إضافة الى مقالات صارخة ضد اليهود ومقالات تنكر المحرقة. ونقول لا أحد يستغني اليوم عن الولايات المتحدة حكومة وشعباً في العلاقات الدولية: الاقتصاد وتقنية المعلومات وعولمة التسويق الذي تقوده أميركا. وما هي مصلحة القادة العرب والمسلمين في معاداة أميركا ونشر الأكاذيب ضدها. والجميع في العالم يعرف - بمن في ذلك القادة العرب والمسلمون - أهمية بناء علاقات احترام وتحالف وتبادل منافع مع الولايات المتحدة أعظم وأقوى دولة في العالم اليوم. وينسى فريدمان أو يتناسى العلاقات الممتازة الرسمية والاقتصادية والعسكرية الأميركية - العربية الإسلامية السعودية ومصر وباكستان على مدى عقود. وإذا كان النفاق والتضليل استهدف في الصحافة الأميركية حكومات السعودية على جه الخصوص ومصر وباكستان، فإن لذلك تفسيراً واحداً وهو النتيجة الطبيعية لعمل الجهاز الغبي الذي أنشأه البنتاغون لنشر قصص غير حقيقية من شأنها أن تسهم - من وجهة نظر الحكومة الأميركية - في محاربة الإرهاب. والتفسير المصاحب لهذا التفسير هو سيطرة اللوبي الصهيوني على وسائل الإعلام الإميركية وعلى الكونغرس، وبالتالي خلط الأوراق من جديد في ما يتصل بالصراع العربي - الاسرائيلي، والحقيقة أن مثل هذا التضليل والتحيز تجاه العرب والمسلمين منهج استعماري قديم ارتأته الامبراطورية. وعلى السيد فريدمان وبوش قراءة أو اعادة قراءة كتب ادوارد سعيد "تغطية الإسلام" و"الاستشراق" و"الثقافة والامبريالية" ليعرف كيف أسهمت المصالح العمياء وتسهم في قلب الحقائق. أما الموقف السلبي من الحكومة السعودية على وجه الخصوص، فلأن جهاز التضليل الأميركي يعرف جيداً موقف حكومة المملكة العربية السعودية الإنساني والواضح من قضايا الصراع العربي - الإسرائيلي. كما يعرف جهاز التضليل قوة الممكلة العربية السعودية ومكانتها في العالمين العربي والإسلامي.
وبدلاً من القول إن هناك حاجز أفكار بين أميركا والعرب والمسلمين، فإنه من الدقة والحقيقة القول ان هناك نفاقاً وسياسة تضليل وانحيازاً مطلقاً وعداءً غير انساني تمارسه حكومة الولايات المتحدة تجاه الحكومات العربية والإسلامية وشعوبها ومعتقداتها وقضاياها بالجملة، على تفاوت في الدرجات وتوقيت في الممارسات، من دون ان يُتاح لمعظم الشعب الأميركي معرفة جذور المشكلة وحقائقها وواقعها وتطوراتها، ولا معرفة الكوارث التي حدثت وستحدث بسبب كل هذا التضليل والعداء.
وبدلاً من الدعوة التي أطلقها توماس فريدمان قبيل لقاء الرئيس حسني مبارك الرئيس بوش: يا حسني مبارك ويا جورج بوش اهدما هذا الجدار". كان حرياً أن يتوجه الى الحكومة الأميركية: "يا حكومة أميركا آن لك ان تعلني على العالم الحقائق كاملة، وآن لك كأضخم قوة في العالم ان تكفي عن سياسات النفاق والتضليل وترغمي اسرائيل على ايقاف سفك الدم العربي وعلى الانسحاب فوراً من الأراضي العربية المحتلة من دون قيد أو شرط، والمفاوضات تأتي لاحقاً". والى الحكومات العربية: "آن لكم ان تمارسوا كثيراً من النقد الذاتي والعمل الإصلاحي المستنير، والقبول بتعايش انساني يحترم كل الأديان والشعوب. وآن للإصلاح التربوي والثقافي ان يتعمق، وللبعد المعرفي في التعامل مع الداخل والخارج بوضوح وصراحة وحزم وتعاون خلاّق ونبيل بين الشعوب أن يكون في الأولويات".
لو ان فريدمان قال مثل هذا الكلام، لصدقناه.
سأبعث الى "نيويورك تايمز" بنسخة انكليزية من هذه المقالة لأرى الى أي مدى تكون حرية النشر والكتابة والصراحة في هذه الجريدة بالذات. ان جريدة "الوطن" السعودية نشرت رأي فريدمان بالعربية كاملاً، فهل تنشر "نيويورك تايمز" رأياً لمواطن عربي سعودي بالانكليزية؟
* رئيس تحرير "الموسوعة العربية العالمية" - الرياض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.