لنتعمق في الحوار المثمر الذي أطلقه الدكتور سعد الدين إبراهيم في ردّه الأربعاء الماضي "الحياة" 13 آب/ أغسطس على مقال لي في هذه الزاوية قبل أسبوعين "الحياة" 1 آب في عنوان "التغييرات تأتي من الخارج إذا لم تنبثق من حيوية دائمة في الداخل". مدير مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية في القاهرة أعاد صوغ السؤال ب:"هل ستكون القابلة التي تتم على يديها ولادة التغيير عربية أو أميركية؟ هل بيدنا أم بيد عمرو؟" وحمل مقاله عنوان: "نعم بيد عمرو... إن لم تسارع أيدينا الى التغيير". لقد تجرأ سعد الدين إبراهيم على البوح بما في خواطر الأكثرية الخائفة أو المترددة أو المكتفية بالانتظار. تحدث عن مسؤولية المثقفين بشجاعة يفتقدها معظمهم في البلاد العربية، هو الذي دفع ويدفع ثمن الاقدام على الأفعال. فلننقل الحوار الى: "ماذا نفعل؟" الأفكار والنظريات وأحاديث البحث عن منطق أو هوية أمر مهم، لكن الأهم هو صوغ التوجهات العملية وإجراءات تنفيذها. وقبل الخوض في محاور النقاش الكثيرة المثقلة بالاحباط، هناك مثال إيجابي عن التغيير وجنينه وقابلة الولادة يستحق التوقف عنده: هناك مجموعة من الشبان الفلسطينيين في الثلاثين أدركت ان ثمة حاجة لنقل المقاومة الفلسطينية من حلقة "توازن العنف" و"العنف الانتقامي" الى مرتبة "المقاومة البديلة". وانطلقت من أن مطالبة الفلسطينيين بزلا يفعلوا شيئاً إزاء الاحتلال الإسرائيلي ترفضها كل القطاعات الفلسطينية، وأن مواصلة الأعمال الانتحارية قد تتطور الى عملية انتحار جماعية فلسطينية، إذ ان كلفة تفجير المدنيين الإسرائيليين هي إنهيار الفلسطينيين أو فتح الباب أمام خطط ترحيلهم قسراً. وتحركت المجموعة باستراتيجية وبخطة مدروسة وبفاعليات بعيداً من العشوائية والغوغائية. وضعت الدراسات الاحصاءات والاستفتاءات، ودرّبت الناشطين والمدربين المحليين، واستنجدت بأحد أهم العقول الاستراتيجية العاملة في ميدان التخطيط للمقاومة غير العسكرية. وستنطلق ميدانياً في الأسابيع المقبلة. وتقوم استراتيجيتها على أساس مقاومة شعبية مباشرة حيث لكل فلسطيني دور بدلاً من انتظار العمل العسكري المنفرد. فالمقاومة البديلة تشمل الجميع، وللجمهور الأوسع دور مباشر فيها. أهم سلاح لديها عدالة القضية، ورسالتها واحدة هي: انهاء الاحتلال. عملية التنفيذ تسير في سكك متوازية، بتنسيق مضبوط، وفي خطوات تدريجية تراكمية. وتقوم فكرتها على تصور أدراج في جبل. وسكّتاها المتوازيتان الرئيستان هما: الحشد والتعبئة الشعبية، والتأثير الإعلامي. وذلك في استراتيجية تطويق يدخل فيها العنصر البسيكولوجي حيث يُملى على الطرف المنازع العمل الذي عليه تنفيذه. وكمثال، وفي اطار أحد أهم مقومات استراتيجية "المقاومة البديلة" وهو "تمكين" الشعب الفلسطيني من هذا النوع من المقاومة، يتم إيفاد مجموعة صغيرة من المدنيين المعوقين الى نقاط العبور التي درجت قوات الاحتلال عادة على اقفالها. تفرض عليهم القوات الاسرائيلية العودة، فيعودون، ثم يكررون المحاولة في اليوم الثاني والثالث والرابع... والعاشر برفقة إعلامية يومية الى أن تضطر هذه القوات إلى السماح لهم بالعبور، أو دفع الرأي العام الاسرائيلي الى مطالبة قواته بالكف عن الاساءة الى "صورة" اسرائيل. في كل الحالات، إما أن تُكسر حلقة عربدة القوات الاسرائيلية على المعبر، وعلى المعابر الأخرى بتكرار العملية وتوسيعها لتشمل أكثر من المعوقين، ،إما أن تبدأ نواة شراكة شعبية فلسطينية - اسرائيلية جديدة نوعياً. الأمثلة كثيرة ومتنوعة ومدروسة على أساس لكل فعل رد. وهكذا يقوم توازن مختلف جذرياً يخرج من توازن العنف، ويصب في توازن اللاعنف في وجه العنف، ويحشد الرأي العام الفلسطيني والاسرائيلي معاً. بهذه الطريقة يسترجع الفلسطينيون المبادرة. وستكون مراكز العمل في جنين وغزة، بعيداً من "عواصم النخبة" الحاكمة. وليست المجموعة في صدد التنافس أو المواجهة مع الرئيس ياسر عرفات ولا مع حكومة محمود عباس ولا حتى مع المنظمات الفلسطينية بما فيها تلك التي تعتبر العمليات الانتحارية الخلاص. بل هي استقطبت قطاعات مهمة للعمل معها، على أساس أفكارها وخطتها. ومن أجل المحاسبة والشفافية، هناك مجلس مستشارين يضم قيادات أوروبية وعربية مهمة، ومدققون في الحسابات، أوروبيون وعرب. وهناك تعاون مع الغرب والبيئة العربية، لكن الانطلاقة والفعل فلسطينيان حصراً. وهذا نموذج ممتاز عن "ماذا نفعل؟" وهو أيضاً ردٌ منهم على مَن يقول في البلاد العربية ان الظروف لا تسمح أو أن سيف المتطرفين الإسلاميين لن يرحم. ففي الساحة الفلسطينية تبدو العراقيل مضاعفة، من قوة احتلال مستبدة الى تطرف قاتل، الى محنة يومية نتيجة سياسات دولية وعربية واقليمية، وكذلك نتيجة قرارات قيادية فلسطينية. وعلى رغم هذا، أخذت المجموعة الشابة على عاتقها البحث عن بديل من الأمر الواقع، ووضعت خطة وبدأت بالتنفيذ. "بأيدينا وليس بيد عمرو، والمنادين بالاحباط". هي أيضاً سئمت الارتهان المصطنع للشعوب العربية بذريعة القضية الفلسطينية. وانزعجت من المزايدات العربية على الفلسطينيين باسم القضية. ومثل الأكثرية الصامتة بين الشباب العرب، ترى أن القضايا العربية التي تتطلب العناية والعمل كثيرة، حان وقت بدء معالجتها. وهي تشغل المنطقة الرمادية بين المناطحة والانبطاح وتقرر خوض مسار الانخراط لتقرير المصير. هذا ما لا تفعله طبقة المثقفين في معظم البلاد العربية الأخرى باستثناء حفنة منهم هنا أو فرد هناك، في الوقت الذي تبدو الحاجة ماسة الى تيار تسارع أيديه الى التغيير من داخل بدلاً من الاسترسال في شتم التغيير الآتي من خارج. وللتأكيد، ان بعض المناطق العربية أصعب من غيرها إذا شاء أهلها التغيير الداخلي. العراق، في نظر كثير من العراقيين، كان مستحيلاً خروجه من قبضة نظام صدام حسين من دون تدخل خارجي، وأميركي تحديداً. في مثل هذا الظرف، هل اللعنة على الأميركيين لأنهم أنقذوا العراقيين من قمع واضطهاد حتى وإن فعلوا فعلهم في العراق "لغاية في نفس يعقوب"؟ أو هل اللعنة على نظام استبدادي حوّل الشعب العراقي شعباً بائساً وفقيراً؟ أو هل اللعنة على العراقيين لأنهم رضخوا للخوف القاطع حيث المقابر الجماعية شاهد على مبرراته؟ وهذا السؤال ليس لمجرد الاسترسال في تشخيص الداء وإنما هدفه القول انه في بعض الحالات لن يأتي التغيير سوى من الخارج، لكن دور الداخل بعد التغيير هو محك النقلة النوعية، الذهنية والفكرية والعملية، لصنع المصير وتحمل مسؤولية المواطنة. أما في مواقع أخرى من المنطقة العربية فهناك مجالات عدة لإحداث التغيير من الداخل. لكن هناك تكاسلاً أو تلكؤاً أو تقوقعاً في تقاليد اجتماعية أو دينية موضع اجتهاد. وعلى سبيل المثال، إن بلداً مثل لبنان يتباهى بديموقراطيته، لا يحق للأم اللبنانية أن تمنح مولودها الجنسية اللبنانية لأنها امرأة. الجنسية من الأب فقط، كأن تلك المواطنة الأم التي حملت مجرد وعاء. فهي ومولودها نكرتان، فأين القيادات الحكومية والمدنية والبرلمانية والنخبوية من هذا الأمر؟ وفي بلد مثل الأردن، هزمت القبلية والرجعية الملكيةَ المتنورةَ في المعركة على إلغاء حصانة "جرائم الشرف" وقانون "الخلع". أين القطاع المدني في الأردن؟ إنها لأعجوبة أن يكون الأردن بهذا القدر من التنور والظلمة القاتمة في آن! إن القضية ليست محصورة بموضوع المرأة، على أهميته البالغة إذا كان لهذا العالم العربي أن ينهض من سباته، لكنها مرآة لأكثر من وجه في المجتمعات العربية، من السلطة الى النخبة الى القبيلة الى الشارع الى الفرد. فإذا لم نفعل في القضايا الأساسية في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لن يحق لنا التذمر من ولادة التغيير بأيدٍ أميركية، بل حتى بأيدي جهات أميركية متطرفة. وبين الأسئلة التي علينا طرحها على أنفسنا سؤال جذري: هل يكون التغيير أبعد مجالاً بولادة عربية وإن كانت في الاتجاه الذي يسعى وراءه الإسلاميون الناشطون؟ هناك تصور لدى بعض من يصف نفسه بأنه "علماني" بالمعنى البريطاني وليس بمعنى رفض الدين، بأن الخيار بين "خندقين"، الأميركي أوالإسلامي. هذا خطأ فادح خصوصاً في ظل غياب القطاع المدني عن المشاركة في صنع التغيير. بل ان هذا البعض يرى في الحوار العربي - الأميركي انحناء أمام الأميركيين لأنهم الأقوى في موازين القوى. وهذا أيضاً خطأ، إذ ان التأثير في الفكر الأميركي حيال المنطقة يتطلب الحوار والمشاركة في إيضاح المواقف والمطالب العربية مع حق الاتفاق على القواسم المشتركة وحق الاختلاف. فأحد أهم أسلحة المتطرفين من المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة هو سلاح الشارع العربي الذي يصحو ويركد، وسلاح المثقفين العرب الذين لا فعل لهم سوى الغوغائية. حتى الأنظمة المُستهدفة تشكل سلاحاً لزمرة المتطرفين الأميركيين لأن قوامها استخباري ولغتها لا مكان لها في قاموس اليوم. وفي نهاية المطاف ان التخلف تخلفنا والتقدم تقدمنا. الولاياتالمتحدة دولة عظمى تعمل على أساس مصالحها، وهذا حقها. فإذا قامت شراكة عربية - أميركية متكافئة فلا عيب في ذلك. وإذا أحدثت أميركا التغيير، وإن مصادفة لما هو في مصلحة شعب العراق، فلا عيب في استقباله والبناء عليه. وإذا تلاقت جهود دولية، أميركية وأوروبية وغيرها، في المساعدة على معالجة محنة عربية، فلسطينية أو سودانية أو عراقية، فمرحباً بها. المهم وقف الغياب والغوغائية. فلننطلق في هذا الحوار بعقلانية وإيجابية ومسؤولية وبمقترحات عملية. فلكل فرد دور، بغض النظر عن حجمه. ولتسارع أيدينا الى التغيير، فهذا حاضرنا ومستقبل أولادنا والأجيال المقبلة.