"إعادة اللوحة الى الحياة كان، في نهاية الأمر، أبرز ما تفرد به فرومنتان. فهو كان يتسلل الى الرسم ليكتشف الرسام، ومن ثم يعالج الرسام ليستخلص الانسان الذي يكمن في خلفيته. ومن هنا نجده يتساءل عن المزاج الذي كان لروبنز حين رسم لوحة الوداع - الوصية "العذراء والقديس جورج". ومن هنا أيضاً ينبع ذلك القول النبيل الجميل: كل طبيعة لا تنطق بطبع خالقها تكون عملاً فاشلاً. ومن هنا أيضاً تعلقه برمبرانت، على رغم نفوره الشكلي من تكاوينه الكلاسيكية، حيث نجده يقسمه نوعياً الى فنانين، أحدهما ظاهر والآخر باطن، ثم لكي يسبغ على الثاني عواطفه كلها، نراه يقلل من شأن "دورية الليل" و"السامري الطيب" إذ لا يشاهد في الأولى سوى الفنان المتعجرف الذي يتعمد الإبهار...". بهذا الكلام وبغيره تحدث أوائل ستينات القرن العشرين، الباحث الفرنسي جان فوكار، عن كتاب كان صدر، للمرة الأولى قبل ذلك بنحو قرن من الزمن. وكان هذا النوع من الكلام بمثابة إعادة اعتبار لكاتب وكتاب كانت الحداثة التي طغت خلال العقود العشرة المنصرمة قد جعلتهما جزءاً من الماضي. ومن هنا، منذ اللحظة التي عاد فيها الكتاب الى الوجود عاد السجال مجدداً حول صاحبه، الذي إذ عاش في فرنسا - وطنه - خلال واحدة من أكثر الحقب صخباً في تاريخه الفني، أواسط القرن التاسع عشر، عرف كيف يكون كل شيء إلا كاتباً وفناناً ينتمي الى ذلك المكان في ذلك الزمان تحديداً. انه أوجين فرومنتان، الذي بكتاباته الأدبية وبلوحاته الفنية، كان واحداً من آخر الرومانسيين، ثم حين وضع كتابه الأساسي في تاريخ مرحلة فنية أوروبية آثر أن يمزج كلاسيكيته برومانسيته، ما جعل الكتاب أشبه بمأوى يقيه، شر ان يكون من أبناء الزمن الذي عاش فيه. والكتاب هو بالطبع "معلّمو الماضي"، الذي صدر عام 1876، أي في العام نفسه الذي مات فيه فرومنتان عن عمر يناهز السادسة والخمسين. والكتاب مثل الكثير من كتب فرومنتان الأخرى، يصف رحلة قام بها. ولكن اذا كانت كتب فرومنتان الأخرى المنتمية الى أدب الرحلات، ركزت على تجواله في ديار الشرق والشمال الافريقي الجزائر، مصر، الساحل... الخ، فإن "معلمو الماضي" كان رحلة الى الشمال، وتحديداً الى هولندا والفلاندر. وإذا كانت كتب رحلاته الأخرى اهتمت برسم الطبيعة والبشر الذين رسمهم فرومنتان، لغة ولوحات في الوقت نفسه فإن "معلمو الماضي" اهتم برسم الحياة الفنية في منطقتي الشمال هاتين، من خلال تأمله للوحات ولحيوات عدد من أبرز رسامي تينك المنطقتين، خلال العصر الذهبي للرسم الشمالي، أي لقرنين خليا وسبقا وصفه الكتاب. إذاً ف"معلمو الماضي"، رحلة في الزمان أكثر منه رحلة في المكان. وبالأحرى: إفلات للكاتب/ الفنان من ربقة زمنه الذي كان يشهد موت رومانسية انتمى إليها، نصاً ورسماً، لمصلحة انطباعية وليدة كان يرى فيها الشر كله، ويدهشه أن يقول باحثو زمنه انها تعبر عن ذلك الزمن. لقد كان "معلمو الماضي" آخر كتاب صدر لفرومنتان خلال حياته، وربما كان آخر كتاب وصفه على رغم ان كتباً أخرى صدرت له بعد رحيله بسنوات ومنها كتابات شبابه، وكتاب يصف "رحلته الى مصر". ومن هنا يبدو "معلمو الماضي" أشبه بوصية فنية لكاتب عاش الفن طولاً وعرضاً، نظرية وممارسة، ومعركة أيضاً. ولأن "معلمو الماضي" كتاب معركة كان هناك من سانده، كما كان هناك من عاداه. أما الباحثون الأكثر انصافاً فقالوا انه كتاب يشبه أن يكون تمريناً أسلوبياً رائعاً كتب من أجل الذين كانوا اعتادوا أن يمروا بالفن الكلاسيكي مرور الكرام، أما العارفون حقاً بالفن والمتمرسون في أعمال روبنس ورمبرانت وهالس ومن هم من طبقتهم، فإنهم لا شك يشعرون بالخيبة إزاء تضخيمات وتفسيرات يرونها أحياناً غير ذات علاقة بواقع الفن الذي يتحدث الكتاب عنه. بل ان ثمة من يرى أن فرومنتان، في كتابه هذا، قد رجح كفة الفن الهولندي الذي يغلبه التقشف والانبعاث البورجوازي البروتستانتي الشمالي، على كفة الباروك الفلاندري الكاثوليكي. ومهما يكن من الأمر فإن القراء الواعين يرون، من دون أدنى ريب، في خلفية هذا الكتاب كله، سلاحاً حربياً طاحناً ضد الفن المعاصر لزمن فرومنتان. ولا يرون في تمجيده المدهش للماضي سوى محاولة للتقليل من شأن الحاضر. غير أن هذا كله لا يمنع "معلمو الماضي" من أن يعتبر كتاباً كلاسيكياً في ميدانه، وليس فقط بفضل بنيته وأسلوبه: لغة فائقة الجمال تروي رحلة الفنان بين مدن الفنانين الذين يتحدث عنهم وحياتهم ولوحاتهم، بل غالباً في تحليلاته، ولا سيما في ذلك الطابع التجديدي الذي يربط أسلوب اللوحة وموضوعها بحياة رسامها نفسه، وهو أمر كان جديداً في ذلك الحين، حيث كان الابداع يعتبر، في أحسن حالاته، جزءاً من حركة المجتمع ككل وتعبيراً عن مكان وزمان محددين، في تقليل مدهش من شأن دور الفنان الفرد نفسه في اللعبة الفنية. في كتابه هذا، إذاً، والذي يعيد فيه فرومنتان الاعتبار، الى الفنان الفرد حتى وإن توقف عند أمكنة وأزمنة محددة، يقسم الكاتب رحلته الى قسمين: قسم يشمل الفلاندر بلجيكا والآخر يشمل هولندا. ولا يتوخى الكاتب بالطبع هنا أكثر من أن يقدم انطباعاته ويقترح احكامه المتعلقة برسامي الماضي، واضعاً إياه نصب قراء الحاضر، عبر مرشحه الذاتي: مرشح الكاتب والرسام الذي تكوّن في أحضان مدرسة ديلاكروا وديكام، وعرف كيف يكون كاتباً ورساماً ورحالة في الوقت نفسه. وينقسم الكتاب إذاً الى قسمين، لكن القسم الأول المتحدث عن الفلاندر تهيمن عليه كلياً شخصية روبنس، أما القسم الثاني فيبدو وكأن كل الرسامين الذين درسوا فيه إنما درسوا لكي ينتهي المطاف الى عند رمبرانت. وفي الأحوال كافة نجد فكرة أساسية تهيمن على الكتاب وهي فكرة التركيز على الطابع الروحي والذاتي في الفن. وهذا الأمر هو الذي أتاح للكاتب تفادي التوقف عند تراتبية المدارس وأهمية المواضيع وتشابهها، ليتوقف حقاً عند أساليب الرسامين وارتباط تلك الأساليب بشخصياتهم وحياتهم، على اعتبار الأساليب تعبيراً عن تفرد كل واحد منهم. وبهذا تمكن فرومنتان من إقامة التطابق والتماهي بين تاريخ الفن ونقد الفن، مازجاً بين كل ما يترتب على دراسة اللوحة من تعمق في جذورها وأطرها التاريخية وحياة رسامها علماً بأن فرومنتان لا يهمه من هذه الحياة سوى ما ينعكس على اللوحة سعادة روبنس مثلاً خلال المرحلة الأخيرة من حياته، أو قلق رمبرانت واضطرابه... الخ، ما يمكن الكاتب من أن ينتقل بسهولة من اللوحة الى الرسام ومن الرسام الى الانسان الذي كانه، وبالعكس. والمدهش في هذا كله أن فرومنتان لم يتحدث في الكتاب عن فرمير، الذي كانت أعماله قد بدأت تكتشف في زمنه نفسه، ولربما كان تعرفه عليه سيتيح له أكبر فرصة للتعبير عن أسلوبه في تناول الأعمال الفنية. المهم ان هذا الكتاب، أعاد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الأضواء مسلطة على فناني تلك المنطقة من العالم، وأوجد أساليب جديدة في التعاطي مع الأعمال الفنية. ومن هنا اعتبر على الدوام كلاسيكياً ولا غنى عنه لكل دارس للفن. بل انه اعتبر أهم ما أنجز أوجين فرومنتان 1820 - 1876 في حياته على رغم غزارة انتاجه، كروائي "دومينيك" التي كتبها عن فشل قصة حبه الأولى ورحالة كتبه المهمة عن "عام في الساحل" و"صيف في الصحراء" و"رحلة الى مصر" ورسام معظم لوحاته الكبرى تصف مشاهداته في الجزائر ومصر وغيرهما من البلدان العربية. في اختصار يمكن القول ان فرومنتان بكل ما أنتج كان كمن ينعى عصراً جميلاً عاش بعضه وأحب دائماً أن يعيش بعضه الآخر ولم يفلح.