إلى هذه الدرجة يصير التكرار جذاباً ومتنوعاً. ينظر الناس في تمهل إلى اللوحات المتشابهة، كأن كلاً منها صورة لوجه مختلف، مع أنها لرسام واحد هو رامبرانت. أكثر من 50 بورتريه للفنان يقدمها متحف "ناشيونال غاليري" في معرض افتتح أخيراً في لندن. يتساءل أحد المشاركين في تنظيم المعرض الكسندر ستارجيت: لماذا رسم الفنان كل هذه الصور الشخصية له، ثم اقترب من لوحة "منظر تاريخي" المنجزة عام 1626، فأشار إلى وجه شاب يظهر بين أكتاف الجنود في المنظر قائلاً: "إنه الرسام رمبرانت في العشرين عندما رسم اللوحة". دأب الفنان منذ ذلك الحين على وضع صورته بين المناظر التاريخية ومشاهد من قصص الانجيل التي تخصص في رسمها. لكن هذا الاتجاه سرعان ما تطور إلى التركيز على رسم بورتريه في لوحات خامة. في بداية هذا الاتجاه رسم رمبرانت صورته ولم يتجاوز 23 عاماً، ظهر فيها اهتمامه بتأثير الضوء، والشغف بمزاج الشخصية. وعندما انتقل إلى أمستردام بدأ يهتم بالمظاهر، مركزاً على الهيئة واللباس لجزء من عناصر الشخصية التي سعى الفنان إلى تقديمها إلى العالم الخارجي. يبدو الرسام هنا مؤرخاً لمرحلة لوحاته ليست صوراً شخصية فحسب، بل دراسة لأساليب في الرسم، وتعبير عن أحوال. فنان استخدم البورتريه كما يستخدم الكاتب المذكرات. يتقدم الكسندر إلى الغرفة الثانية التي اصطفت على جدرانها لوحات كبرى، كل منها تمثل تجربة معينة سواء في مظهر الوجه أو في طريقة التنفيذ وهو يردد: ان المرء يحتار في النظر إلى هذه الأعمال، هو يتجملها بوقار كلاسيكي، أم يحاول أن يستنتج منها معاني حديثة؟ لم يغفل النقاد هذه الناحية، وخصص لها الكتاب القيم المرافق للمعرض فسحة من النقاش. والاستنتاج ان البورتريه لم يكن معروفاً في القرن السابع عشر كما يدّرس اليوم. وان معالم هذا الفن وحتى تسميته وتعريفه ظهرت في القرن التاسع عشر. وأغلب الظن ان انتشاره أيام رامبرانت يرجع إلى شغف الهولنديين بتعليق صورهم الشخصية على الجدران. وكلما كان الرسام شهيراً كلما زادت قيمة تلك الصورة. ولم يلاحظ الكتاب والمفسرون حتى القرن الماضي ان الرسام كان فريداً في الاهتمام بصورته الشخصية، إذ بلغ ما انتجه منها أكثر من ستين، تسجل مراحل مختلفة في حياته. ويؤكد الكسندر ان رامبرانت كان يستخدم المرآة في تنفيذ لوحاته، خصوصاً الكبيرة منها. لكن السؤال الذي يظل يحير الدارسين: هل كان رامبرانت يشبه الصورة المرسومة حقيقة؟ لا أحد يستطيع ان يجزم. إلا أن ما يتفق عليه اليوم ان رامبرانت يبدو مختلفاً في كل لوحة، ما يدل على أنه لم يكن يسعى إلى النقل الحرفي للملامح، فقد كان يتجاوز الشبه إلى شيء أهم وأعمق. أعمال تمتد طوال الحياة، بعضها تسوده الرغبة في الإشهار، وبعضها أسف وحزن، وهناك صور لا يبدو فيها الاهتمام بأي شيء اطلاقاً. إذا نظرنا إلى اللوحة الشخصية التي رسمها الفنان قبل وفاته وعمره 63 عاماً نشعر أن القناع سقط وانتهى وكأنه تخلص من عملية التزييف نهائياً. يذكر الكسندر ان هذه الأعمال تتوزع بين ثلاث فترات: البداية، ثم أيام الشهرة، وأخيراً الشيخوخة. وفي كل منها اسلوب معين، بل أن تغيير ملامح الوجه كانت تملي على الرسام الاسلوب: "أساساً، كانت هذه اللوحات إعلاناً لاجتذاب الزبائن"، لكن العملية تطورت إلى أبعد من ذلك، فصارت تاريخاً للفنان ولنظامه في العمل. توقف رامبرانت عن رسم نفسه فترة، وعندما عاد إلى التقليد في منتصف العمر، ظهر في البورتريه اتجاه آخر: الرسام أكثر نضجاً وهموماً، وهو ينظر إلى العالم نظرات فارغة. لقد زالت الرغبة في الإعلان عن النفس بالأزياء والقبعات. كان الفنان يصوّر نفسه في هيئات مختلفة، أحياناً يتشبه بشخصيات من التاريخ أو بفنانين من عصر الرومان. ويضيف الكسندر ان الأعمال تبيّن ان الشخصية مجرد قناع يمكن تغييره حسب الظروف والزمان. كان الفنان يعلب أدواراً. ولم يقتصر ذلك على الظاهر. فعندما صوّر نفسه في شخصية شرقية استخدم طرق الاستشراق. لكنه عاد ليتخلى عن المظهر ليصور نفسه في ثياب الفنان العامل، يطلق شعره، ويستخدم القبعة بيريه التي تحولت رمزاً للفنانين من ذلك الحين. البورتريه كان بمثابة ركيزة فنية ونفسية لهذا الرسام الذي مر بظروف شديدة: لم يعش من أطفاله الأربعة سوى واحد توفي في عيد ميلاده ال27. وماتت زوجته في سن مبكرة أيضاً. وكانت أوصت بتركتها له شرط أن لا يتزوج بعدها. ورفعت عليه عشيقته دعوى لأنه رفض الزواج منها، فصدر الحكم ضده. واتهم مجمع الكنيسة خليلته الثانية بالزني لأنها كانت تعيش معه من دون زواج. فأعلن افلاسه عام 1656. إلا ان كل هذا لم يقف أمام ابداعه. وظل البورتريه وسيلة للتعبير عن النفس أو مواجهتها. لم يكن الهدف ان يقدم الفنان هذه اللوحات مع بعضها في مكان واحد. ومع ذلك فهي تعبّر عن سيرة حياة، وعن رحلة فنية متماسكة على رغم تباعد الزمن بينها. لقد تحول الاعلان إلى تأمل في الذات، والمظاهر إلى الكشف عن القناع. تحول البورتريه من بحث في الملامح الخارجية إلى تساؤلات عن الوجود. يمكن أن نقرأ في الوجه خصالاً كثيرة، لكن اللوحات الأخيرة تقول: "هذا أنا... لكن ما الفائدة من كل هذا العناء؟".