«الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    إسماعيل رشيد: صوت أصيل يودّع الحياة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    ألوان الطيف    ضاحية بيروت.. دمار شامل    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب بالفرنسية يتناول علاقاته العاطفية المضطربة . كافكا عاش المرأة هاجساً وكلما اقترب منها ... هرب
نشر في الحياة يوم 08 - 07 - 2003

صدر حديثاً للباحث الفرنسي دانيال ديماركت كتاب "كافكا والفتيات" عن دار "بيغماليون" في باريس وهو يتناول علاقات كافكا العاطفية ونال عنه جائزة مديسيس للأبحاث. أهمية الكتاب في كونه يلقي ضوءاً على الناحية الملتبسة في حياة الكاتب، وهي كان لها انعكاس على أعماله الروائية والقصصية. أي علاقة جمعت بين كافكا والفتيات؟
مغامرات كافكا العاطفية ولقاءاته بالفتيات لا يتناولها الكاتب دانيال ديماركت بحدّ ذاتها، بل يشدد على الروابط التي تجمعها بأدبه وبسيرته الذاتية النفسية وكأن كافكا يتوقع فقط من الفتيات والنساء أن يكنّ بمثابة عون له يستمد منهن القدرة على الكتابة لا بل يضحي بهن على مذبح الكتابة.
تشكل رسائل كافكا الكثيرة شيئاً يشبه كتاب "التربية العاطفية" للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير، إذ يحلم كافكا، كما سلفه فريدريك مورو، بالحب على طريقته كما يحلم بالحياة. يطلب كافكا من الفتيات المستحيل كما يطلب من الأدب. ولكن، لماذا لا يستطيع إلا أن يكتب الرسائل؟ لماذا لا يجعل لقاءاته حقيقة أو يسعى الى أن تكون كذلك فعلاً؟ لماذا يقضي نهارات بأكملها يكتب لفيليس باور؟ لماذا يريد ان يعرف أدق التفاصيل عن حياتها، كل الأشياء الموجودة في غرفتها وكيف اشتغلت في أويقات يومها، وحين تقترب منه فعلاً يهرب منها، وحين تهرب منه يحاول استرجاعها؟ لماذا يخطب كافكا باستمرار ثم يفسخ الخطوبة، لماذا يصبح الاقتران بامرأة هاجسه المتواصل فيما يتحاشى دوماً أن يتحقق هذا الهاجس؟ أسئلة كثيرة يحاول هذا الكتاب الاجابة عنها.
كافكا حالم أبدي ولا يستفيق من أحلامه ولا يتابعها أيضاً إلا عبر الرموز التي تخلفها الفتيات العابرات في حياته، كل ظهور لفتاة مصادفة وحظ وخطر ونافذة على المجهول، لأن أملاً ما يظهر في روحه المعذّبة التي لا يمكن مواساتها، لأن امكاناً يظهر في الأفق. ويضع كافكا في هذا الظهور كل ثقته، تصبح المرأة رسولة ولكن رسولة شبحية، أي أنه يؤجل فرص لقائه الجسدي بها الى ما لا نهاية. وهذا بالذات لا يثنيه أيضاً عن جعلها بكل الوسائل أسيرته أو لا ينثني عن السعي لامتلاكها على طريقته الغريبة المعذِّبة. يطلب منها ان تساعده لكي يعبر صحراء الكتابة ويصل الى الأرض الموعودة للإبداع والخلق الأدبي، ويبقيها على مسافة منه. وإبقاؤها على مسافة والخوف من الاقتراب أكثر مما يلزم من سر الآخر، يشكلان رعباً كافكاوياً حقيقياً. لذا يصبح الترسل ضرورة ملحة، لعبة الابتعاد والاقتراب، وكما يقول جيل دولوز: "تصبح الرسائل بالنسبة الى كافكا القوة المحرّكة، وهي تمده بالدم الذي يطلق آلة الكتابة برمّتها ويسيّرها". ان التطلب العاشق لكافكا لا يملك إلا هدفاً واحداً: الاستسلام لإشراق المرأة واشعاعها، ولكن بعد حين، أي لحظة التذكر، لحظة الرسالة والاستسلام لتأثيرها الأروتيكي. استسلم كافكا مع جميعهن لهذا السحر ونال الشعاع المطلوب والمرتجى. لكن هذا الشعاع سرعان ما كان يتلاشى، وهذا ما يفسّر الى حدّ كبير عدم اكتمال أعماله الأدبية. يخضعهن للتجربة وهذه التجربة لا تخلو من القساوة مع كل الاشفاق الكبير الذي تحتويه.
الفتيات اللواتي يعجبن كافكا لا يستطيع مسَّهن فيما سيكتسب خبرته الجنسية مع الخادمات والبائعات. والفتاة البائعة التي قضى ليلة معها لا يذكر شيئاً عن عريها ولا عن لمساتها أو قبلاتها. لم تكن البائعة الصغيرة إلا منفذاً لشياطينه. أيقن كافكا ان الجنس مخزٍ وانه مرادف للقرف والوساخة، ورواياته تعكس هذه الصورة للجنس، ثم ان الموئل الزوجي لأمه وأبيه غذى في داخله نفوره من الجنس، وفي احدى الرسائل لفيليس يقول: "ان رؤية المخدع الزوجي في البيت والشراشف التي اتسخت وقمصان النوم المبسوطة بعناية تثير فيَّ قرفاً يصل الى حدّ الغثيان".
انعكاسات بيوت الدعارة رافقت كافكا حيثما ذهب وصورة العاهرة في رواياته تختصر المرأة بالنسبة اليه. كتب كافكا في يومياته يقول: "ان الرغبة الجنسية ترهقني وتعذبني ليلاً ونهاراً. يجدر بي لإشباعها أن أتخطى خوفي وخجلي وحزني أيضاً"، لكن هذا لا يمنعه من اغتنام أول فرصة تلوح له ثم سرعان ما يشعر ان الرغبة الجنسية التعيسة تدينه وتحاكمه، يشعر أنه لا يصلح إلا للمواخير، وهذا ما آل به الى استنتاجه قبل وفاته بسنتين: "كل ما يستحقه هو هذه المرأة العجوز المجهولة الوسخة صاحبة الساقين المتهدلتين، التي تأخذ منيه بلحظة واحدة وماله ثم تستعجل بالذهاب الى الغرفة المجاورة حيث ينتظرها زبون آخر...".
كافكا، منبوذ الحب، بعيداً من الفتيات اللواتي يراهن عليهن، وأول رهان له هي فيليس التي التقى بها مصادفة في زيارة لصديقه ماكس برود ليل 13 آب أغسطس 1912. في تلك الليلة، حين وصل عند صديقه لم يكن يتوقع أن يجد فيليس هناك. للوهلة الأولى اعتقد انها "الخادمة". ثم جلس يراقبها بعد أن صافحها. لفت نظره عنقها المشيق. منذ لقائه الأول بها لن ينسى أياً من التفاصيل، محاولاً تفنيدها واحداً تلو الآخر في رسائله الكثيرة، الى المرأة الشابة. وعن فيليس الشبحية التي اختفت رسائلها الى كافكا، لا نعرف إلا صورة تعود الى بداية علاقتهما. نظرتها صافية، خجولة وساذجة، وجهها من دون ألق، أسنانها محشوة بالرصاص. وغالباً ما عبر كافكا عن نفوره من أسنانها. فما السر الذي يكمن خلف هذا الوجه الذي شدَّ كافكا اليه؟ كانت صورها وهي فتاة صغيرة تسحره، ويحملها معه في أسفاره، ينظر اليها طويلاً "فتغرورق عيناه بالدموع، ويشعر بالشفقة حيال الصغيرة التي لم يعذبها أحد أو جعلها تبكي". أما فيليس المرأة فكان يشعر بالتحفظ حيالها: "أشعر أنني أقرب من الفتاة الصغيرة وأستطيع ان أقول لها كل شيء، أما السيدة فتشعرني بالكثير من الاحترام". ويضيف: "لو حُيّرت بينهما في الحياة، لأمكنني القول ان الفتاة الصغيرة هي التي تقودني الى الآنسة الكبيرة". كانت الصور الكثيرة لفيليس في صغرها هي التي تقرّبه من المرأة الشابة، منذ أن قرر في أيلول سبتمبر 1912، أي بعد شهر من لقائهما، أن يكتب لها، حتى أخذت الرسائل تتوافد الواحدة تلو الأخرى. أراد كافكا أن يعرف كل شيء عن فيليس، فطورها ومواعيد عملها ولباسها وأسماء أصدقائها وصديقاتها والمنظر الذي يطل من نافذتها... "أريد أن أمتلك كل دقيقة في حياتك" وكأن الأمر مشروع امتلاك مطلق. أما فيليس، فلا تجد شيئاً تقدمه إليه إلا نصيحتها له بالاعتدال وبإيجاد هدف في الحياة. كانت تستغرب دوماً الرسائل التي يبعث بها اليها، تفاتح صديقه ماكس برود بالأمر فيحثها على اظهار بعض العطف حيال كافكا ومراعاة حساسيته المرضية. لم تكن فيليس باور تهتم بالجانب الأدبي لدى كافكا والذي هو كل حياته، وهنا تكمن الهاوية بينهما. لم يكن كافكا هو الجلاد الوحيد في هذه العلاقة ويمكن تخيل مقدار العذاب الذي سببه له خرس فيليس ولا مبالاتها بقدره ككاتب، ولكن ما دام يعرف أن هذه المرأة لم تكن مخلوقة لتقوم بهذا الدور، دور الملهمة، فما الذي كان يتوقعه منها إذاً؟ ربَّما كان فعل الكتابة المتواصل لها هو الذي يغذي تعلقه بها أكثر من أي شيء آخر. وربما كانت رغبته في الكلام مع شبح ينتمي الى عالم مختلف تماماً هو الذي صنع كل تلك الصور الغالية على قلبه والتي تثير نفوره في آن واحد. وإن فشل كافكا في اقناعها عبر الرسائل، فهل سينجح عبر اللقاء الحي المباشر بها؟ لا شك في أن اللقاء بها لم يكن يغريه وكان يؤجله الى ما لا نهاية لأن هذا اللقاء لا يدخل في رهان الكتابة: "أخشى ألا احتمل رؤيتك". ولكن كيف بإمكانها هي احتمال شخص يغرق دائماً في نفسه؟ ان الطريقة الوحيدة التي تجعلهما قريبين هي ان يكونا بعيدين واحدهما عن الآخر: "هذه العلاقة التي أقيمها عبر المراسلة والتي أطمح باستمرار الى تخطيها وموافاة الواقع، هي الشكل الوحيد للعلاقة الذي يلائم تعاستي". وتخطي الحدود يقودهما الى الشقاء، لذا يقرر كافكا قطع العلاقة. تبعث فيليس عام 1913 بصديقة وسيطة لاقناع كافكا بإعادة العلاقة بينهما، ولكن الفتاة الوسيطة التي تدعى غريت بلوخ تقع أسيرة سحره وتبدأ المراسلة بينهما. إنها ذكية وتحب الدسائس والحبكات العاطفية والأكاذيب، ووجدت نفسها مدفوعة الى عالم كافكا المعقد ولن تخرج منه سالمة معافاة. بعد عشرين عاماً، كانت لا تزال أسيرة وهم علاقتها بكافكا وادعت انها أنجبت منه طفلاً وأُثبت في ما بعد أن هذا كذب محض.
لكن المعركة مع فيليس لم تنتهِ بعد، أُعلنت خطوبتهما في العام 1914 وازداد خوف كافكا من الزواج الذي أصبح وشيكاً: "لا أحتاج الى شقة، لا بل انها تخيفني". كل مشاريع فيليس ترعبه وكل ما له علاقة بالزواج أصلاً. بعد ستة أسابيع من الخطوبة انهار الصرح الموقت. ثم يقرر كافكا وفليس أن يخطبا من جديد في تموز يوليو 1917، لكن هذا أيضاً لن يؤدي الى أي نتيجة. وفجأة في ليل 9 أو 10 آب أغسطس من العام نفسه، يستفيق كافكا على سعال دامٍ غزير. وتبدأ رحلة كافكا مع المرض الذي يتصوره نتيجة صراع نفسي: "لديَّ الحق في أن أقول انني مزّقت نفسي". ليست روحه فقط المصابة في صميمها بل جسده أيضاً. وفي لحظة وداعه النهائي لفيليس في كانون الأول ديسمبر 1917، لم يكن يبكي المرأة بل انقطاع الرسائل. بعد رحيل فيليس يدوّن كافكا ملاحظة في يومياته، عميقة الدلالة: "كل شيء صعب، باطل وصحيح مع ذلك". تشبّث كافكا بمرضه كما "يتشبث طفل بتنورة أمه". المرض محرّر من كل شيء، من المكتب حيث يعمل والعائلة وبراغ وفيليس، ويشعر أنه هو الذي خلق مرضه بنفسه عبر معاهدة أقامها عقله مع رئتيه على غير علم منه.
جولي المجنونة
في قرية صغيرة شمالي براغ تدعى شلسن، يلتقي كافكا بجولي شريكته في النزل حيث تخضع لعلاج مثله، شابة في الثمانية والعشرين من عمرها فقدت خطيبها في الحرب، كانت تشبه فرانز وكأنها أخت له، النعومة نفسها في الملامح، مبتهجة دوماً وتملك فن اضحاكه. لم يستطع كافكا الصمود أمام ضحكات جولي ولا أمام سذاجتها. لا شكَّ في ان الانجذاب الجسدي كان قوياً بين هذين المخلوقين المتوحدين الجريحين. ومع ذلك بقيت علاقتهما في شلسن عذرية. وخلال الأسابيع الستة لوجودهما معاً، كل ما فعلاه هو الكلمات المتبادلة وامساك كافكا بيدها الصغيرة وقتاً طويلاً. تركت جولي النزل وبقي كافكا هناك ثلاثة أسابيع لم يتبادلا خلالها أي رسالة. ولكن ما إن رجع كافكا الى براغ حتى طار كل منهما لملاقاة الآخر من دون تحفظ وبدأت مرحلة النزهات في الغابة والتسكع معاً في الشوارع. الى أن عكَّر كافكا هذا التفاهم الهانئ بفكرة الزواج التي عرضها على جولي، وهنا رجعت الشكوك والمخاوف. كيف باستطاعة شخص مثله أن يُسعد فتاة هانئة، هو الموظف البسيط المريض شبه المجنون إثر صراعه الطويل مع المرض وآلام الرأس والأرق؟ يذهب الحبيبان معاً الى الشقة التي اختاراها للعيش معاً ويقرّران الزواج يوم الأحد. يوم الجمعة يصلهما الخبر ان الشقة المحجوزة افلتت من أيديهما ويبطل مشروع الزواج. وهكذا يضحّي كافكا على مذبح انعتاقه من كل القيود الزوجية المحتملة بجولي المتواضعة الهانئة والمتفانية: "أشعر بالتعاسة الفائقة حيال الأذى الذي سببته، لكنني لا أعرف كيف يمكنني التصرف في شكل آخر". لن يوفّر القدر جولي أيضاً من أذاه، جولي تلك الفتاة التي كانت تحب الضحك كثيراً: خطيبها الأول توفي والثاني تركها وكان الجنون لها بالمرصاد. فهي أُصيبت بالجنون كما قيل، لأنها كانت فتاة تحدوها رغبة مجنونة للضحك والعيش والحب.
ميلينا المتزوجة
خلف وجه الضحية جولي ينبثق الوجه المشرق للفتاة ميلينا، ميلينا المغمورة بضباب الأدب، ميلينا، الإسم الأكثر توهجاً من بين كل الأسماء التي ارتبط بها اسم كافكا. وهي أيضاً الحب الأكثر تدميراً وعنفاً وقوة. ميلينا هي المرأة المقدرة للحب كما يصفها كل الذين عرفوها. "ميلينا، أي اسم غني وكثيف! غني، ممتلئ، مفعم الى درجة يشق عليّ حمله!" فمن هي ميلينا؟ هل هي امرأة مطيعة؟ أبداً. لكنها امرأة مكتملة ومتزوجة، لكن كافكا لا يراها إلا بعين الفتاة: "بالنسبة إلي، لست امرأة بل فتاة شابة، لم أعرف في حياتي فتاة أشد صبا منك"! كافكا لم يخطئ في حكمه لأن المرأة البالغة الرابعة والعشرين من العمر تحمل في داخلها كل زخم الشباب والمراهقة. ميلينا فتاة ثرية وعاصية تلتهم الكتب وروايات دوستويفسكي واللوحات والموسيقى. في الرابعة عشرة، تمنح أول قبلة لصديق أبيها في زيارة له في المستشفى، تتسكع في الليل بين المقابر وتستأجر غرفة في فندق مشبوه لكي تحقق نزواتها. لم تكمل دراستها الجامعية وتفضل التردد على مقهى أركو حيث يلتقي الأدباء، متحررة الى أبعد الحدود وشغوفة بالتجارب والمغامرات، مُحبة للأدب ومعجبة بكافكا. ترجمت احدى قصصه الى اللغة التشيكية، وهذا كان السبب في نشوء علاقتهما. رأى كافكا ميلينا فعلاً عندما قرأ لها، رآها بوضوح.
لا تشبه رسائل كافكا لميلينا رسائله الى فيليس. رسائله الى ميلينا صريحة العبارة، رسائل هي من بين الأجمل التي كتبها كافكا لأنه يعرف أن ملينا يمكن أن تفهمه ويسعه أن يتكلم معها بحرية أكثر من أي شخص كان. دعته الى فيينا فقبل الدعوة ووصل في 29 حزيران يونيو1920. نزل في فندق ريفا وكان اللقاء نهار الأربعاء. أربعة أيام معاً من الأربعاء حتى السبت، أربعة أيام شكلت سعادتهما الوحيدة: "اليوم الأول كان يوم الشك والثاني يوم اليقين العظيم والثالث الندم والرابع الأفضل". وفجأة هذا السبت السعيد الذكر حيث لحق كافكا بميلينا في أعالي فينا فتلاشى القلق ونسي المرض: "مشى طيلة النهار ولم يسعل مرة واحدة. أكل كغول ونام نوماً عميقاً". حتى الخوف اختفى: "رأسي يرتاح فوق صدرك شبه العاري". استطاعت ميلينا خلال أربعة أيام أن تروض خوف كافكا. لكن كل شيء حصل بسرعة في فيينا. ما إن رجع كافكا الى براغ حتى بدأ يمطر ميلينا بالرسائل، ثلاث رسائل يوم الأحد، أي يوم رجوعه كان سكراناً بميلينا. وميلينا لا تستطيع أن تقرر فعلاً التخلي عن زوجها بولاك فيما يؤكد لها كافكا انه لا يغار من زوجها ولا يريد امتلاكها وأنه يكتفي بأن يكون "فأرة في زاوية البيت". يريد امتلاك ميلينا روحياً ويترك الامتلاك الجسدي لزوجها بولاك. لكن كافكا يغار من صديقاتها اللواتي يؤثرن فيها سلباً من ناحية. وتبدأ ميلينا لعبة تشريح مرض كافكا والحكم عليه بأنه رجل لا يرجى من شفائه وكأنه لا يملك أي ملجأ يلوذ اليه، غافلة تماماً عن انها هي ملجأه الوحيد. وحيرة ميلينا وترددها أمام مساعدته والذهاب بعيداً في تنورها تجاهه دلائل على فشلها في حبه وفشله هو أيضاً. كلّما لوحت له ميلينا بالمجيء الى براغ في احدى رسائلها، يحاول اقناعها بالعدول عن ذلك، يرغب فيها أكثر من أي شيء آخر ولا يريد إلا أن يلقي برأسه فوق ركبتها الأبدية كلها. ولكن ليس هناك من أثر للرومنطيقية بل اليأس المطلق.
ضاعت ميلينا، كانت أكثر أنثوية من أن تتحمل تقشف كافكا وزهده القاسي، ستحبه على طريقتها، أي بمجابهتها القاسية لموته وترجمتها لأعماله. فقدان ميلينا يعني الموت. يقول لماكس برود في احد اللقاءات: "إذا تكلمت الى ميلينا عني فحدثها كما لو أنني ميت". يتجنب الالتقاء بها مصادفة ويطلب من صديقه ماكس ألاّ يعلمه بزياراتها الى براغ، لكنه في النهاية يلتقي بها ويسلمها يومياته. ميلينا هي الوحيدة التي كان لها شرف الحصول على هذه "اليوميات" وهذه أجزل هبة. لكن ميلينا لم تعط رأيها بهذه "اليوميات" وكان صمتها ثقيلاً.
على ضفاف البلطيق ينتظره حلمه الأخير في صيف 1923: دورا ديامان. "كائن رائع" في التاسعة عشرة من عمرها، مزيج من البراءة والشغف وكأنها خارجة من روايات دوستويفسكي. سيموت كافكا محباً ومحبوباً، الألم والسعادة سيجتمعان أخيراً، "سيأتي الموت وستكون له عيناك" كما يقول سيزار بافيز.
هذه هي قصة كافكا مع الفتيات اللواتي ملأن حياته ولم يقترب منهن، إلا قدر ما سمح له مزاجه وعشقه للكتابة. ولكن، هل نستطيع حصر حياة كافكا العاطفية بخوفه العصابي من الجنس والمرأة والزواج؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.