احتفلت فرنسا يوم الاثنين الذي يوافق 14 تموز يوليو بعيد الثورة الفرنسية وكنت في بلدة صغيرة على البحر في جنوبفرنسا فرأيت في النهار عرضاً قادته فرقة موسيقية سار وراءها رجال مسنّون ونساء وبعض الأطفال، وتفرّجت ليلاً على ألعاب نارية تقليدية بالمناسبة. وأكتب من الذاكرة، وأعود بها الى المدرسة الثانوية، فأرجو ألا أخطئ وأنا أسجّل ان الثورة الفرنسية تعود الى سنة 1789، وأن 14 تموز يحيي ذكرى سقوط الباستيل. غير اننا نعرف اليوم ان الباستيل لم يكن ذلك السجن المخيف، ورمز الظلم والطغيان، فهو عندما سقط لم يكن فيه سوى بضعة سجناء. ثم ان المؤرخين المحدثين كافة يؤكدون ان ماري انطوانيت لم تقل "دعهم يأكلون البسكويت" عن الشعب الجائع الذي لم يكن يجد الخبز. الخرافات التي اصبحت جزءاً من تراث الثورة الفرنسية ذكرتني بخرافات معاصرة نعيشها كل يوم، ولا بد من ان نصبح في المستقبل جزءاً من التاريخ المتوارث الذي يكتبه المنتصرون. وكنت بعد احتفالات الفرنسيين الاثنين عدت الى الإنترنت على الكومبيوتر المحمول الذي يرافقني في سفري. واخترت ان أقرأ جريدة "واشنطن تايمز" اليمينية الحقيرة، لا رغبة وإنما لأن عملي يقتضي ان أقرأ صباحي يبدأ مع "نيويورك تايمز"، و"واشنطن بوست" الراقيتين. "واشنطن تايمز" الليكودية الشارونية هبطت بالوقاحة دركاً آخر ذلك اليوم، ففيما كانت الصحف الأميركية والبريطانية تتحدث عن الكذب المتبادل بين البيت الأبيض و10 داوننغ ستريت وأجهزة الاستخبارات المختلفة حول محاولة العراق شراء يورانيوم من النيجر، وقدرته على تشغيل اسلحة الدمار الشامل في 45 دقيقة، وهما كذبتان بالكامل، نشرت "واشنطن تايمز" خبراً عجيباً مصدره لندن يقول حرفياً: "ذكرت مصادر استخباراتية اميركية امس انه يعتقد ان الاستخبارات الفرنسية رفضت ان تعطي الاستخبارات البريطانية إم آي 6 معلومات استخباراتية "موثوقة" تظهر ان العراق حاول ان يشتري خام اليورانيوم من النيجر". ويكمل الخبر نقلاً عن مسؤولين بريطانيين ان لدى الاستخبارات البريطانية معلومات من اكثر من مصدر استخبارات واحد عن اليورانيوم وأن مصادر الاستخبارات الأميركية ترجح ان مصدر ال إم آي 6 كان الاستخبارات الفرنسية دي جي إس اي. هل هذا معقول؟ وكالة الاستخبارات المركزية نفسها تقول ان قصة اليورانيوم مختلقة، وتختلف مع البيض الأبيض حول ابلاغها الرئيس ذلك قبل خطابه عن "حالة الاتحاد" في كانون الثاني يناير او بعده، والحكومة البريطانية تعترف بأن تقريريها عن العراق في ايلول سبتمبر وفي شباط فبراير تضمنا اخطاء فاضحة. ومع ذلك تأتي جريدة صفيقة في واشنطن لتقول العكس تماماً بأسلوب ليكودي غوبلزي أثير. هل يريد القارئ مزيداً. خبر "واشنطن تايمز" كتبه مايكل سميث في "الديلي تلغراف" اللندنية ونقلته الجريدة الأميركية، لوجود تعاون إخباري بينهما. والجريدة اللندنية هي من مستوى رديفتها الأميركية ليكودية "شارونية" وقحة. ذكّرني خبر "التلغراف - واشنطن تايمز" بخبر كانت نشرته الجريدة الأميركية، وزعمت فيه ان فرنسا اعطت مسؤولين عراقيين من نظام صدام حسين وصلوا الى سورية جوازات سفر فرنسية، وهو خبر ثبت كذبه بالمطلق، ولم أتصور ان تستطيع الجريدتان المزايدة عليه حتى كان خبر الاثنين الماضي. وما كنت أتوقف عند خبر من جريدة يمينية يملكها ويقرأها "المونتير" أو أتباع القس من يونغ مون، غير انني انتقلت الى صفحة افتتاحيات وآراء ووجدت من اصل خمسة مواضيع مدرجة هناك ثلاثة عن دول عربية ومسلمة. اول افتتاحية كانت عن ايران وزعمت انها تحاول عرقلة البحث عن برنامجها النووي. وأن الولاياتالمتحدة كانت حتى السنة الماضية تعتقد ان ايران ستستطيع ان تنتج سلاحاً نووياً بعد ثماني سنوات الى عشر سنوات، إلا انها اصبحت تعتقد انها ستستطيع انتاج هذا السلاح في السنوات القليلة المقبلة. وأرى ان "ثماني سنوات الى عشر" هي مثل "السنوات القليلة المقبلة" زمناً، الا ان الصحيفة تحاول التخويف مما قد يكون موجوداً في ايران وتتعامى عن اسلحة الدمار الشامل من نووية وكيماوية، وغيرها في اسرائيل. وكانت هناك افتتاحية بعنوان "حريات هشة في الكويت" تحدثت عن نتائج الانتخابات، وقالت ان الكويت "اكثر بلد ديموقراطي في الخليج" وحليف مهم للولايات المتحدة، إلا انها زادت حرفياً "من سوء الحظ خلال الانتخابات البرلمانية خسر التقدميون مقاعد وكسب الإسلاميون...". لماذا تُعتبر هذه النتيجة الديموقراطية سوء حظ؟ انا شخصياً أقرب الى الليبراليين الكويتيين، غير انني أرحب بفوز الإسلاميين وأهنّئهم على الفوز طالما ان هذه ارادة الشعب الكويتي. أقول ان الكويت ليست استثناء. فلو أجريت انتخابات حرة لفاز الإسلاميون في اكثر الدول العربية والجريدة تخاف منهم لأنهم ضد الولاياتالمتحدة، غير ان هذا الموقف هو احد اهم اسباب شعبيتهم. وفي حين كانت الافتتاحيتان السابقتان من دون اسم الكاتب، فإن افتتاحية اخرى عن سورية حملت اسم فريدن غادري الذي وصف بأنه من مؤسسي حزب الإصلاح السوري. الكاتب يسجل أمانيه عن سورية لا الواقع فيها، ويتحدث عن خلاف داخل حزب البعث بين الذين يريدون مواجهة الولاياتالمتحدة، والذين يريدون شن حملة علاقات عامة لكسب "الأميركيين الطيبين". هناك "اميركيون طيبون"، إلا انهم ليسوا في الحكم، وأزعم انني أعرف سورية اكثر من كاتب افتتاحية في جريدة ليكودية، حتى لو كان سوري الأصل، ولا أتفق معه في معلوماته، ومن بعدها على تحليله. وأعود الى ما بدأت به وإلى "مصادر الاستخبارات الأميركية" التي تستشهد بها "التلغراف" و"واشنطن تايمز"، ففي اليوم التالي كتب بول كروغمان في "نيويورك تايمز" مقالاً بعنوان "أنماط من الفساد" موضوعه ان الكذب حول شراء اليورانيوم لم يكن كذبة وحيدة بل "نمط عريض عن اجهزة استخبارات فاسدة مسيّسة". هذا الكلام لم أقله انا، وإنما هو مكتوب في "أهم جريدة في العالم" وهي اكثر صدقية من صحف اسرائيل ودعاة الحرب فيها.