قبل أيام كتبت عن مركز للترجمة في الولاياتالمتحدة، وعن مراكز فكر يرتبط أحدها بالآخر عبر أنصار معروفين لإسرائيل يدعون انهم صقور، أو حمائم إذا كان ذلك مناسباً، إلا انهم دائماً في خدمة إسرائيل. وكنت قبل ذلك انتقدت تغطية "الصنداي تلغراف" و"الصنداي تايمز" اللندنيتين انتحار ابو نضال أو قتله في بغداد. ومقال اليوم استكمال للموضوع. كانت "الديلي تلغراف" يوماً جريدة حزب المحافظين في بريطانيا، وكانت صلتي بها قديمة، فقد عرفت مراسليها في بيروت، عندما كنت رئيس نوبة في "رويترز"، وتعززت العلاقة في لندن، فقد كان مكتبي في ساحة غوف، و"الديلي تلغراف" عبر ممر ضيق في فليت ستريت، شارع الصحافة المعروف قبل ان تنتقل. لا أزال أقرأ "الديلي تلغراف" و"الصنداي تلغراف" بانتظام، وهناك اجزاء مهنية راقية، ومن نوع اتمنى لو ان في الصحف العربية ما يوازيه. غير ان الجريدة تحولت بعد ان اشتراها الكندي كونراد بلاك الى جريدة صهيونية ليكودية، تحت نفوذ زوجته الشارونية الميول بربارة امييل، ما جعلها تكره العرب الى حد العنصرية. وفي حين ان عداء الجريدة للعرب ليس جديداً، ويعود الى حملة السويس العدوان الثلاثي فإن الجديد في عهد بلاك - امييل نقل هذا العداء الى صعيد اعلى، او أحقر، مع ان في إسرائيل حكومة نازية الصفة، تمارس سياسة متطرفة لم تفد حتى الآن في شيء سوى زيادة القتل المتبادل، من دون برنامج سياسي او هدف غير القتل. بربارة امييل في مقال الأسبوع الماضي سألت: ماذا يحدث في "نيويورك تايمز"؟ ولا أحتاج ان أسأل: ماذا يحدث في "الديلي تلغراف" فأنا أعرف الجواب منذ سقطت هذه الجريدة في يدي امييل وزوجها الرابع. باختصار، الكاتبة اتخذت من خبر عن موقف هنري كيسنجر من الحرب على العراق مدخلاً لتعود الى تاريخ الجريدة، وتتحسر على اتجاهها الليبرالي، وتبدي الأسف لأن أ.م. روزنتال، وهو صهيوني من معدن امييل، لم يعين لرئاسة تحرير الجريدة، وإنما ذهب المنصب الى هاول رينز "اليساري المتطرف" بحسب وصفها. يبدو ان امييل نسيت ان تقترح الصهيوني المتطرف الآخر وليام سافاير رئيساً للتحرير، غير انني ارجو ان يلتحق بروزنتال، فلا مكان لتحامله في جريدة راقية. أقول ان "نيويورك تايمز" اعظم جريدة في العالم، وهو ما يقوله كثيرون غيري، وهي جريدة مهنية بكل معنى الكلمة، فالأسرة اليهودية التي تملكها منذ اكثر من مئة سنة متواصلة بدأت محافظة وانتهت ليبرالية، وبقيت دائماً منصفة، حتى أنني لا أذكر يوماً ان وجدت ما اعترض عليه في تغطيتها الخبرية للانتفاضة الأولى او الثانية كذلك "واشنطن بوست". وكان يمكن ان تصبح "التلغراف" مثل "نيويورك تايمز" لولا ان امييل جمعت فيها حزبية يمينية متطرفة مع نفس شاروني هو عيب على إسرائيل وكل يهودي يؤيد امراضه السياسية. امييل تقول ان كيسنجر لم يصبح "حمامة"، وأن كاتبين في "نيويورك تايمز" أساءا تفسير مقاله في "واشنطن بوست" غير ان كريستوفر هيتشنز وهو عدو قديم لوزير الخارجية الأميركي الأسبق قرأ مقاله وكتب حرفياً ان كيسنجر يعارض الحرب على العراق، وسواء عارض ام أيد فهذا ليس الموضوع وإنما هو ان تتطاول جريدة شارونية على اعظم جريدة في العالم. قبل يومين وجدت "الديلي تلغراف" تعتذر للسيد محمد الفايد وتتراجع عن خبر منشور عنه، وتدفع تعويضاً. غير ان كون كوفلن الذي أشرت إليه في المقالات السابقة، يمثل توجه الجريدة بشكل افضل، وهو كتب خبراً عن سيف الإسلام القذافي ينضح لؤماً وكذباً، وخسرت الجريدة المواجهة في المحاكم، فكان ان كافأت كوفلن بترقيته من كبير المراسلين الأجانب الى مدير تحرير تنفيذي. اختار من تعليق في "الغارديان" على موضوع كوفلن هذا، فقد كتب ديفيد لي عن ثلاثة طرق تستغل بها اجهزة الاستخبارات الصحافة: الأول محاولة توظيف صحافيين كجواسيس، والثاني ان يزعم عميل استخبارات محترف انه صحافي، والثالث تسريب اخبار من نوع "الدعاية السوداء" الى صحافيين متعاونين للنشر كأخبار حقيقية. كوفلن من النوع الثالث في موضوع ديفيد لي، فخبره عن سيف الإسلام القذافي نسب الى مصادر مصرفية، إلا انه تبين في المحكمة ان المصادر من عملاء جهاز الاستخبارات البريطانية، والواقع انه لولا العميل المنشق ديفيد شايلر، والمؤلف مارك هولنغزوورت الذي كتب سيرة حياته، لأصرت الجريدة على الكذبة، إلا ان شايلر فضحها، فكان خزيها في المحكمة. مع خلفية القضية الليبية ارجو من القارئ ان يراجع معي عناوين بعض الأخبار التي حملت اسم كوفلن في الجريدة وتتجاوز كره الفلسطينيين الى غيرهم: - آيات الله في ايران يبنون ترسانة كيماوية. - اهداف مغرية للغارات امام البنتاغون. - ايران تبني شبكة من مدارس الإرهاب. - ايران تعقد صفقة اسلحة كيماوية سرية مع الهند. اخيراً، الصحيفة قد تكون منحازة، إلا ان الصحافي يستطيع ان يبقى سيد نفسه، ولا أجد ما أختتم به سوى مقارنة كوفلن هذا بالصحافية ماري كولفن في "الصنداي تايمز" فعندي اعتراضات كثيرة على التغطية العربية لهذه الجريدة، إلا انني لا يمكن ان اخطئ كولفن بشيء، فتغطيتها دائماً دقيقة ومنصفة، ومن ارقى مستوى مهني، وليس عندي مثل افضل عليها من خبر كتبته عن اجتياح مخيم جنين، فلم تسجل وقوع مجزرة ولم تنفه، وإنما سجلت ما رأت بنفسها، وسبقت تقرير الأممالمتحدة بشهور، وعادل جهدها في الخبر جهود مراقبي الأممالمتحدة كلهم. ماري كولفن وديبرا سونتاغ ولي هوكستادر وسوزان غولدنبرغ وروبرت فيسك وغيرهم كثيرون فوق، وبربارة امييل وكون كوفلن وبقية الشارونيين تحت.