أقرأ جريدتنا هذه مع قهوة الصباح في السرير، غير ان نهار العمل عندي يبدأ بقراءة "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" على الانترنت، فأنا أقرأها قبل جرائد لندن حيث نقيم، وقبل الجرائد العربية والاسرائىلية، وعندي اليوم درس في الصحافة والسياسة. الجريدتان الاميركيتان يملكهما يهود، وهما تؤيدان اسرائىل، الا انهما موضوعيتان جداً، وتوجههما ليبرالي، لذلك فهما قادرتان على الانصاف احياناً. وأهم من هذا ان اخبارهما صحيحة، موثقة ومحققة ومدققة، وهما من المهنية ان تصححا الاخطاء. الدرس يبدأ في 21 من الشهر الماضي عندما كتبت في هذه الزاوية اقول ان صدام حسين بريء من انتشار جرثومة انثراكس عبر البريد في الولاياتالمتحدة، وعرضت اسبابي فلا اكررها اليوم. غير انني كتبت مع خلفية خبر من براغ عن اجتماع فيها بين محمد عطا الذي يفترض ان يكون قائد الارهاب في 11 ايلول سبتمبر وديبلوماسي عراقي هو احمد خليل ابراهيم العاني. كان العاني ديبلوماسياً في السفارة العراقية في براغ وطرد لقيامه بنشاط لا يتفق مع عمله الديبلوماسي، فقد راقبته الاستخبارات التشيخية وهو يرصد مبنى راديو اوروبا الحرة وراديو ليبرتي، وكلاهما له علاقة بالاستخبارات الاميركية. وبما ان العاني مراقب فقد سجل التشيخيون ايضاً اجتماعه مع عطا، من دون ان يقدروا اهمية الاجتماع. وترك العاني براغ في 22 نيسان ابريل من السنة الماضية، الا ان سجله بقي. لا حاجة لمناقشة هذه التفاصيل، ووزير داخلية تشيخيا ستانسلاف غروس اعطى معلومات كثيرة في مقابلة تلفزيونية يوم الاحد الماضي، اي 28 تشرين الاول اكتوبر. والآن احاول ان اقارن بعض الاخبار التي توافرت لي، ولكل انسان، عن الموضوع. في 26 من الشهر الماضي كتبت "الديلي تلغراف" اللندنية الصهيونية الميول نقلاً عن جيمس ووزلي، رئىس وكالة الاستخبارات المركزية الاسبق، قوله ان هناك ادلة متزايدة على علاقة العراق بارهاب 11 ايلول، وأيضاً بالانثراكس. وهو قال ان جرثومة انثراكس في البريد الاميركي كانت من مستوى "عسكري" ما يثبت وجود دولة وراءها. في اليوم نفسه كانت "نيويورك تايمز" تقول عن الخبر نفسه ان ثلاث دول هي: الولاياتالمتحدة وروسيا والعراق انتجت انثراكس. الا ان الجريدة زادت ان وسيلة انتاج الانثراكس منشورة على الانترنت، وأي حامل دكتوراه في علم الاحياء يستطيع انتاجها في مختبر صغير حسن التجهيز. وهو كلام كررته الجريدة في موضوع جديد قبل يومين، ثم امس. ومع ذلك، ففي 27 تشرين الاول كتب دانيال ماكريغوري ما تراوح بين الخرافة والخيال العلمي في "التايمز" اللندنية وقال ان عميلاً عراقياً، لعله يقصد العاني، اعطى محمد عطا زجاجة انثراكس خلال اجتماعهما، ثم استشهد بالاستخبارات الاسرائىلية وهي لم تكتف بزيارة عطا براغ بل "زورته" المانيا واسبانيا وايطاليا، إضافة الى تشيخيا. ربما لم يكن هناك عملاء استخبارات اسرائىلية اصلاً، لأن "نيويورك تايمز" في اليوم نفسه نسبت الى عملاء استخبارات اسرائىلية من الواضح انهم غير عملاء ماكريغوري قولهم: "لا نرى اي دليل على وجود القاعدة في العراق، لا كمركز عمليات او مصدر تمويل". في اليوم نفسه ايضاً قالت "واشنطن بوست" بوضوح تام ان الادارة الاميركية أنكرت وجود علاقة للعراق بالارهاب، وذكّرت قراءها بأن نائب الرئىس ديك تشيني سئل على التلفزيون هل للعراق علاقة، فقال جازماً: لا. ونقلت جرائد لندن عن جريدة "بيلد" الالمانية الواسعة الانتشار قولها ان عملاء استخبارات اسرائىلية يبدو انهم غير من سبق قالوا ان العراق اعطى الارهابيين الانثراكس. غير ان الجرائد الاميركية سجلت ما هو واضح تماماً للناس كلهم، ما عدا انصار اسرائىل، و"لوس انجليس تايمز" قالت في 27 تشرين الاول ايضاً "إن من مصلحة اسرائىل ان تقف الولاياتالمتحدة موقفاً اكثر عداء تجاه العراق". وقالت "كريستيان ساينس مونيتور" في 30 من الشهر الماضي ان الاجتماع بين عطا والعاني لا يعني ان للعراق علاقة بالارهاب. في اليوم نفسه، اي الاثنين الماضي، حسمت "واشنطن بوست" الموضوع فهي نشرت تحقيقاً دقيقاً كعادتها كان عنوانه "فحص الجرثومة يبعد الشبهة عن العراق"، وجاء فيه ان جرثومة انثراكس التي وصلت بالبريد الى مكتب السناتور توماس داشل، رئىس الغالبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ، والى دائرة بريد نيويورك، لم تحتو على مركب "بتونايت" المعدني الذي استخدم في الاسلحة الجرثومية العراقية لجعلها اشد عدوى. وأكدت الجريدة ما قالت انه معلومات ادارات اميركية مختلفة صرحت بأن العراق ليس متهماً في موضوع الانثراكس. وكشفت ان سيارتين استأجرهما محمد عطا في فلوريدا لم تظهرا وجود انثراكس بعد ان فحصهما خبراء مكتب التحقيق الفدرالي. مرة اخرى، ارجو من القارئ ان يقارن بين صحف اميركية تؤيد اسرائىل، ولكن تحترم نفسها والقارئ، وبين صحف لندنية يفترض ان تكون رصينة، وتتصرف كأنها "تابلويد" فتخلط بين الكذب والاثارة في نوع آخر من الارهاب يطمس الحقيقة ويشجع اسرائىل على ارتكاب الارهاب، طالما انه سيوجد دائماً من يعتذر لها ويحول الانظار عنها الى الابرياء من ضحايا ممارساتها الارهابية ضد الفلسطينيين.