المشهد الأول: تصعد الى الباص المكتظ ساعة عودة الموظفين من أعمالهم، بعد نهار ألقى بثقله تعباً على جسدها. تبحث بيأس عن مقعد فارغ، من دون جدوى. تضطر للوقوف مستندة الى ذلك العمود المحاذي للباب المتحرك. طريقها طويل، ونظراتها تستجدي مكاناً للجلوس. "قليل الأدب لم يتعلم آداب السلوك"، تقول في نفسها حانقة على ذاك الشاب "البليد" الذي تنقصه نظرة تقدير لفتاة تبحث عن مقعد. هي لا تعرفه. ولا ترغب أصلاً بمعرفته. كل ما تريده أن يتنازل لها عن مقعده. ولا تهتم إن كان عانى نهاراً شاقاً مثلها أو أكثر. ولا تهتم، طبعاً، إن كان عمله يستهلك منه جهداً جسدياً أكثر من عملها. كل ما تطلبه مقعده. لماذا؟ لأنه شاب، وهي فتاة. المشهد الثاني: حانت ساعة الغداء. يضيق الوقت على الخروج من المكتب فيقرران طلب الطعام الجاهز الى مكان العمل. وهذا بالنسبة إليه الحل الأمثل، والأوفر. هي تعمل في مثل عمله، في مكتب مشترك، براتب متقارب. إذاً تملك مالاً قد يوازي ما يملكه. ولكنه يصر على رفض قبول مالها بدلاً عما تناولته من طعام. تحاول بكل ما استطاعت من حيل كلامية أن تجعله يقبل المبلغ المتوجب، فتصطدم بجدار منيع من الرفض غير القابل للنقاش. هو يعلم انها تملك المال، وهي تعلم انه لن يأخذ مالها. ولكنهما، بتواطؤ سري يتابعان مسرحيتهما. يحاول أن يثبت بالمال رجوليته، وهي تكسب، مع المال، أنوثتها. المشهد الثالث: تعارفا منذ فترة قصيرة. فعلياً لا يزال في مرحلة الاختبار عندها. لذلك كثفت مشاريع الخروج سوياً لتتعرف عليه عبر الناس. كان موعدهما ظهيرة يوم مشمس. ترجل من السيارة متوجهاً نحو باب المطعم المقصود، لم يحاول أن يفتح لها باب السيارة. تعزي نفسها بأن هذا أصبح، ربما، موضة قديمة "فلم يعد الشاب يفتح باب السيارة للفتاة"، تقول في سرّها متجاوزة المسألة. تترجل لترافقه، يدخل ليفتش عن مكان للجلوس. لم يفتح باب السيارة ويدخل أمامها، أيضاً! تعتذر لنفسها لتخفي امتعاضها، مبررة تصرفه بعدم الانتباه. انتقى طاولة أخيراً. توجه نحوها، جلس لينتظرها. إذاً لن يساعدها لتجلس! لن يقدم لها الكرسي! ربما نسي في البداية، أو تناسى، مرتين. ولكنها ثالث "ضربة" على رأسها، وقد آلمتها. هي تعرف ان شيئاً لن يتغير فيه ان قدم لها الكرسي، ولكنه كان ليحوز نقاطاً أكثر لو فعل. لماذا؟ لأنه شاب، وهي فتاة. بعيداً من كل الضجيج الذي تستحدثه النساء مطالبات بحقوق ما، يطرأ سؤال عارض: هل يمكن أن تتحمل المرأة ثقل المساواة التي تطالب بها؟ هل ترغب المرأة، حقاً، بالمساواة؟ فأن تتساوى بالرجل معناه ان تتخلى عن أكثر أسلحتها فاعلية. أن تخلع أنوثتها على باب العمل وتلبس معطف الرجولة في محاولة للتشبه بمن لا يشبهها شكلاً وتكويناً. متعة التأنيث "مساواة؟ أعوذ بالله!" تجيب ميرا 22 عاماً باستهجان واضح: "من قال انني أريد أن أتساوى مع الرجل؟ نحن مختلفان، وتوجد حكمة من هذه المسألة، وإلا لكان الله خلق جنساً واحداً، أليس كذلك؟". ترد ميرا رفضها التساوي بالرجل الى أنها تتمتع بكونها أنثى، ويبقى للشاب الرجولة "التي تميزه". ولكن يبقى الكلام عن طريقة ممارسة هذه الرجولة، والتي لا يمكن أن تبيح له اللجوء الى أساليب "متخلفة" في التعامل، "كاستعمال العنف مثلاً. لكن المساواة لا توقف العنف ضد المرأة، بل يوقفه الوعي في المجتمع واحترام كل جنس لدور الآخر". وللمساواة، إن حصلت، تأثير على أنوثة الفتاة كما تقول ميرا، "فهذا يعني انها ستسترجل، أو ستحول الشاب الى "فوفو"، فيختل التوازن الطبيعي". وهي ترى ان فتاة اليوم لا ينقصها أي شيء "فهي تتعلم وتتولى مناصب مهمة. ولكن الفرق أنها تولي عاطفتها اهتماماً أكبر في حياتها، وهذا ما يميزها عن الرجل". أما أمل 20 عاماً فترجع التفرقة في الراتب بين المرأة والرجل عن نفس العمل الى "تركيبة المرأة الجسمانية التي تجعلها غير قادرة على تحمل ما يتحمله الرجل من جهد جسماني، وهذا سبب التمييز، لا أكثر". تتمسك أمل بتمايزها عن الرجل، مؤكدة على رغبتها الدائمة بأن تشعر بأنوثتها في حضرة الجنس الآخر مهما اختلفت أشكال اللقاء: "أريد أن أشعر بأنوثتي، وهذا لا يمكن إذا كنت أتنطح للتساوي بالرجل". ولكن المساواة تأخذ عندها معنى آخر: "ربما يجب عدم التفرقة لجهة المبادرة في تدليل الآخر. فكما ترغب الفتاة بأن تدلل، كذلك يجب أن تبادر الى تدليل الشاب". تحد تتطرف روان 26 عاماً في غير الاتجاه السائد، متحدية "أكثر النساء مطالبة بالمساواة ألا تتصرف بشيء من الأنوثة في حضرة الرجل". فهذا في رأيها أسلوب المرأة لتقول للعالم إنها موجودة: "أحياناً كثيرة تتحول مطالبة النساء بالمساواة الى ضرب من المبالغة. ثم بأي حق يتحدثن باسم جميع النساء؟ من قال إنني أوافق؟" تسأل روان بتحد واضح. "هل تلاحظين كم تتغير ملامح الفتاة حين تسمع كلمات الإطراء، ولو مجاملة، من رجل ما؟ هل هي مستعدة للتخلي عن هذا مثلاً؟"، تتابع الصبية العشرينية ببعض الخجل من نظرة اعجاب يرمقها بها شاب في المقعد المقابل. بعكسها تبدو عبير 23 عاماً مقتنعة بضرورة المطالبة بالمساواة، من دون أن تبدي استعداداً للتخلي عن أي من مكتسباتها مقابل هذا الطلب. "طبعاً أحب أن أعامل بطريقة أنثوية، فالمساواة لا تشمل كل شيء، بل على العكس يجب الحفاظ على بعض الخصوصية"، تقول عبير مناقضة إصرارها الأول على ضرورة وجود مساواة بين المرأة والرجل "في كل شيء". وتشدد على أهمية المساواة من الناحية القانونية "كأن يحق للمرأة العاملة بتأمين الضمان الاجتماعي والصحي لأولادها، كذلك اعطاء الجنسية". هذا مع أن يكون لها "هامش أكبر من الحرية، شرط أن تحترم المجتمع الذي تعيش فيه". السيدات أولاً ويكرر علي 27 عاماً التشديد على أهمية أن تحترم المرأة البيئة الاجتماعية التي تعيش فيها، مبدياً قبوله للمساواة الكاملة مع المرأة "دون حدود المس بالشرف". ويشرح ان المساواة تفهم أحياناً على أنها حرية مطلقة للفتاة تشابه حرية الرجل. "ولكن هناك مسألة واحدة ينتهي عندها حق المساواة، هي الحفاظ على عفة المرأة وصونها". ولا يولي علي أهمية فعلية لمطالبة النساء بالمساواة: "حين أخرج مع فتاة ما أعاملها بتميز واضح، فلو كنت أرغب بالتساوي معها لخرجت مع صديق لي". وبرأيه فإن "أي فتاة ترغب التدليل وهذا ما يحير"، ويضيف "يطالبننا بالمساواة ومع ذلك يرغبن بالإبقاء على امتيازاتهن". كذلك يرى عماد 21 عاماً ان الفتاة أخذت اليوم جميع حقوقها، وما المطالبة بالمساواة إلا "زيادة في الدلال"، كما يقول مبدياً حيرة في أسلوب التعامل الذي يجب اعتماده مع الفتيات اليوم، "فإذا تعاملت معا كندّ فهمت من ذلك أنني لا أحترمها، وأنني أهين أنوثتها، لذلك يجب أن أعاملها بشكل مميز وخاص طيلة الوقت. فكيف تدعي أنها مثلي؟ أعتقد أنني يجب أن أطالب بحقي من الآن فصاعداً"، يضيف ضاحكاً. ويدافع عماد عن حق المرأة في المساواة من الناحية القانونية مثلاً: "يجب أن يكون لها حق الضمان والجنسية. ونحن أيضاً يجب أن يكون لنا الحقوق التي ستتمتع بها المرأة حينها. هي المساواة أليس كذلك؟". لميس حطيط - الجامعة اللبنانية.