النقاش الشفوي الذي كان دائراً بين السوريين حول الاصلاح والتطوير الاقتصادي والسياسي عاد الى حلبة الكلمات المكتوبة في الانترنت وصحف محلية وعربية، تتفق على تقدير مخاطر احتلال العراق وتتباين في حدود التعاطي مع هذا التغيير الجيو- سياسي الكبير على الوضع العربي. ولم تعد النقاشات تقتصر على مثقفين وصحافيين ونشطاء في الشأن العام، بل شارك فيها او في اطلاقها مسؤولون حاليون وسابقون ادراكاً لخصوصية المرحلة مع الحرص على التشديد على ان ذلك عائد الى أسباب داخلية حسب "آجندة مشروع التطوير والتحديث" الذي اطلقه الرئيس بشار الاسد لدى انتخابه قبل ثلاث سنوات. وبعد تركيز في الخطاب الرسمي على اولوية الاصلاحات الاقتصادية والادارية لوجود قناعة بخلل في "النظام الاداري" على أي اصلاح سياسي وفق ما عرف باتباع "النموذج الصيني"، ظهرت اخيراً مؤشرات لاعادة طرح اسئلة "جريئة" تتعلق بالجانب السياسي. وكان لافتا اول من امس ان عنونت صحيفة "البعث" الناطقة باسم الحزب الحاكم في صدر صفحتها: "الاصلاح السياسي وتعميق الديموقراطية بالتوازي مع الاصلاح الاقتصادي". ونقلت عن نائب رئيس الوزراء الدكتور محمد الحسين، وهو احد الاعضاء الجدد في القيادة القطرية، قوله في "المنتدى العالمي لتنمية الموارد البشرية" مساء الثلثاء ان "سورية تنفذ على التوازي مع الاصلاحات الاقتصادية الجارية الترخيص لمصارف خاصة، واصدار صحف خاصة باللغتين الانكليزية والعربية مشروعاً للاصلاح السياسي وتعميق الديموقراطية في البلاد من حيث فتح الباب واسعاً أمام الحوار الديموقراطي والمشاركة الاوسع لفئات الشعب كافة في مناقشة وتقرير وقيادة اهداف التنمية وصوغ مستقبل الوطن". وتزامن ذلك مع جرعة من الجرأة النقدية في مناقشة نواب للبيان الحكومي الذي قدمه رئيس الوزراء الدكتور محمد مصطفى ميرو قبل أيام وصلت الى حد مطالبة نائب عن "الحزب السوري القومي الاجتماعي" برد البيان الحكومي، علماً ان هذا الحزب غير المرخص حصل على اربعة مقاعد في الانتخابات التي حصلت في اذار مارس الماضي في اطار التعاطي الجديد معه بعد قطيعة "بعثية" تعود الى ايام اغتيال العقيد عدنان المالكي. وفيما وصلت مطالب نائب شيوعي الى حد خفض مدة الخدمة الالزامية من سنتين الى سنة ونصف سنة، اخذ النائب ناصر عبيد الناصر على البيان عدم اشارته الى "الاصلاحات السياسية التي اقدمت وتقدم عليها القيادة السياسية" بينها "توسيع هامش الديموقراطية من خلال الممارسة الصائبة للديموقراطية التي قطعت الطريق على ثقافة الخوف... واحترام حقوق الانسان والرأي والرأي الاخر والتعاطي معها على قاعدة: التمسك بالتراث الوطني والقومي للقائد الراحل حافظ الاسد، التمسك بقيادة حزب البعث للدولة والمجتمع وفق المادة الثامنة للدستور، الاعتداد بالمؤسسة العسكرية التي تحمي حدود الوطن واحترام المؤسسة الامنية التي وفرت وتوفر الامن والاستقرار في البلاد"، منتقداً "تقصير" الحكومة في "تفكيك البيروقراطية ومكافحة الفساد". وفيما رأى مراقبون في هذه الانتقادات خطوة جديدة، ذكّر آخرون بخطوات اجرأ حصلت في سنوات سابقة وصلت الى حجب الثقة عن وزراء في منتصف الثمانينات. ومن المقرر ان يقدم الدكتور ميرو في بداية الاسبوع المقبل رده على الملاحظات التي قدمها عشرات النواب في انتظار المرحلة اللاحقة التي تتراوح بين التغيير اوالتعديل الوزاري المحدود واستمرار هذه الوزارة. والواضح وجود رغبة لتفعيل العلاقة بين المؤسستين التشريعية والتنفيذية إذ تشكلت بعد الانتخابات لجان فرعية من النواب للعمل سوية مع السلطة التنفيذية لتطوير قطاعات حكومية بما في ذلك الاعلام الذي لم يكن في مستوى الموقف السياسي في الفترة الاخيرة على رغم وجود حرص رسمي على تفعيله. كما جرت قبل يومين انتخابات الادارة المحلية وفق نظام القوائم المفتوحة في القرى والبلدان مع بقائها محددة في المدن والمحافظات لاحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" للمرة الاولى منذ تشكيل هذا الائتلاف السياسي قبل نحو ثلاثين سنة، بحيث تنافس نحو 42 الف مرشح على 8560 مقعداً في تنافس لم يكن في المستوى المأمول له. وكان الهدف من هذه التجربة القيام ببعض التعديلات الانفتاحية من القاعدة نحو الاعلى كما حصل في انتخابات "البعث" التمهيدية التزاما بقرار المؤتمر القطري الاخير للعام 2000 الذي تضمن ايضا السير نحو تغيير دور الحزب ليكون مراقبا للسلطة التنفيذية بدلاً من ان يكون منخرطا فيها. لكن اللافت هو قيام المهندس ايمن عبدالنور، احد الذين شاركوا في مؤتمر الحزب كمراقب رغم عدم تسلمه أي منصب، بطرح عدد من "الاسئلة الكبرى" المتعلقة بسياسة البلد الداخلية والخارجية في اطار نشرة يصدرها الكترونياً تتضمن معظم من ما ينشر عن سورية في وسائل الاعلام الخارجية ليوزعها على "شخصيات بارزة" فاتحاً النقاش والرد. وهو سأل قبل ايام: "بالنسبة الى حزب البعث العربي الاشتراكي، هل هناك ضرورة لوجود قيادة قومية يحق لها تنحية القيادة القطرية في دولة عربية يكون فيها الحزب مرخصا بشكل رسمي ونظامي وقد يكون منهم وزراء في حكومة هذا البلد، ام من المناسب ان تتحول الى مكتب علاقات خارجية للتواصل مع الاحزاب العربية؟ وهل تنقل القيادة القطرية صلاحياتها الى جيل جديد كما حصل في الصين؟ هل تصدر وثيقة "علاقة الحزب بالسلطة" بشكل يعبر عن حقيقة التطوير المنشود في سورية؟ هل من المناسب تشكيل لجنة لتطوير المنطلقات النظرية للبعث للتوافق مع المستجدات الدولية بحيث تضم رفاقاً من القدامى الذين لديهم خبرة في الاحزاب الدولية وحتى المستقلين في سورية؟". وعلى رغم جرأة هذه الاسئلة ودقتها في هذه المرحلة اكد عبدالنور ل"الحياة" انها "لا تعكس الموقف الرسمي بل هي مبادرة شخصية باعتبارنا جميعاً شركاء وكلنا أم الصبي". واضاف متسائلا: "هل يربط الاختيار للمناصب الرئيسية بأن يكون عضو قيادة قطرية في البعث؟ هل ستدمج بعض الوزارات وتخلق وزارات جديدة؟ … من سيدرس قانون الاحزاب؟ هل سيسمح بانشاء احزاب ذات صبغة او توجه ديني؟ هل يستعاض عنها بجمعيات سياسية؟ بعد سنتين من مناقشة تطوير ميثاق الجبهة الى اين وصلنا؟"، مناشدا الجميع المشاركة في النقاشات "البعيدة عن الرجوع الى الماضي" باستثناء "قضية حزب البعث المفتوحة للنقاش فقط للرفاق الحزبيين وضمن الاجتماعات الرسمية او بمذكرات خطية". ويدل ذلك على رغبة في اعادة تفعيل قرارات مؤتمر "البعث" الاخير ليكون البيئة الاساسية للتطوير السياسي في المرحلة المستقبلية. مع العلم ان الصحف الرسمية كانت حرصت على تمييز "البعث" السوري عن نظيره العراقي بعد احتلال العراق وسقوط بغداد، اذ كتب رئيس تحرير صحيفة "البعث" مهدي دخل الله مقالا قبل اسابيع بعنوان "دفاعا عن البعث" ان "أي اتصال او علاقة او حتى اعتراف متبادل لم يقم منذ العام 1966 بين البعث والتنظيم الاخر الذي تدثر باسمه" بحيث ان دمشق تتعرض للضغوط الاميركية لانها "احتضنت البعث الحقيقي".