إذا كانت اسرائيل قدمت 15 اعتراضاً وملاحظة على "خريطة الطريق" المطروحة كمقدمة لإيجاد تسوية سلمية نهائية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي فإن الأحرى بالفلسطينيين والعرب أن يجدوا فيها أضعافاً مضاعفة من الاعتراضات والملاحظات والاحتجاجات والمطالب والتعديلات. وعندما يطالب العرب، ليس الموافقة على الخريطة أو رفضها، بل بالتعامل معها كحقيقة واقعة والتعهد بعدم عرقلتها أو مجرد إبداء ملاحظات عليها فإن عرابها الأميركي ومعه العرابين الثانويين: أوروبا وروسيا والأممالمتحدة لم يتركوا للعرب وليس للإسرائيليين مجالاً للحوار ولإبداء الرأي وفق مبدأ: خذها أو اتركها ثم تحمل العواقب والنتائج الوخيمة ومواجهة المزيد من الوحشية الإسرائيلية واعمال القتل والتدمير وخطوات القضاء على البنى التحتية والسلطة الوطنية الفلسطينية، أو ما تبقى منها، وضرب آمال الشعب الفلسطيني بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. ولهذه الأسباب وحدها ظهرت أصوات داخل الكيان الفلسطيني وخارجه تدعو للتروي والعقلانية والتعامل مع "خريطة الطريق" كمحاولة لتلمس حل دولي ربما يشكل الفرصة الأخيرة في ظل التعنت الصهيوني وجنوح اسرائيل بحكامها الليكوديين المهووسين بغطرسة القوة والمتعطشين لمزيد من المجازر والجرائم، بالتزامن مع سيطرة اليمين الأميركي واللوبي الصهيوني على مفاصل الإدارة الأميركية ومراكز القرار. فحكمة التعامل مع الخريطة تنطلق من معطيات كثيرة تبدأ بظروف المنطقة والعالم وضرب التوازن الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتتواصل مع نتائج الحرب على العراق وتداعياتها لتصل الى ظروف القضية وأوضاع الشعب الفلسطيني بعد سنوات القهر والحصار والتدمير المنهجي المدروس والمبرمج وتفكك النظام العربي وانقسام دوله ومخاوفها من وقوع "الدور" عليها بعد العراق وأفغانستان. ولهذا لا يمكن القول إنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، ولكن يمكن القول ان الحكمة تقتضي التعامل مع الخريطة كبارقة أمل أو كمحاولة لالتقاط الأنفاس وكسب الوقت قليلاً وفق شعار "إلحق الكذاب لوراء الباب" لفضح المواقف الاسرائيلية والنيات الخبيثة التي تدفع حكومة شارون الليكودية الى الزعم بدرس الخريطة وفق الشروط التعجيزية ثم وضع العصي في الدواليب وزرع الألغام في طريقها بتقديم اعتراضات وملاحظات واقتراح تعديلات تهدف الى نسفها من أساسها وتفريغها من محتواها ومضمونها وغاياتها وأهدافها. درج العرب في الماضي على رفض أي مشروع أو مبادرة أو قرار دولي من دون ترك أي مجال للمناورة أو لدرس ردود الفعل الإسرائيلية، فيما تكذب اسرائيل وتحتال وتناور مدعية انها قابلة وراضية بكل ما يعرض عليها فيما الرفض يأتي من العرب دائماً، ومسؤولية ضياع فرص السلام تقع عليهم وليس عليها ليتاح لها أن تواصل عمليات الضم والتهويد والاحتلال والاستيطان، مع أن أي عاقل يدرك ان اسرائيل ما كانت لتقبل بأي مبادرة من بدايات قرارات تقسيم فلسطين الى يومنا هذا ولكن رفض العرب أراحها ورفع عنها المسؤولية. تنبه العرب أخيراً الى هذه الحقيقة المرة وتعاملوا بحكمة مع أي مبادرة على رغم ما فيها من مساوئ وأخطار. كما حققوا خطوات ايجابية جريئة بأخذ زمام المبادرة واقتراح مشاريع سلام كاملة كان آخرها المبادرة السعودية التي تحولت الى مبادرة عربية في قمة بيروت العام الماضي. لقد رأينا وتأكدنا من سوء النيات الصهيونية خلال مؤتمر مدريد للسلام وبعده، ثم في اتفاقات أوسلو التي أفرغتها اسرائيل من كل مضامينها حينما سادت روح الخبث والمناورة وكسب الوقت وافتعال الأزمات والمشكلات وتدبير مسرحيات استقالة الحكومات واجراء انتخابات جديدة، لا فرق بين ليكود وعمل ولا يمين ويسار، فكلهم سواء في الحقد والظلم والتوسع والإرهاب وتبادل الأدوار من أجل تكريس الأمر الواقع وتمييع القضايا الرئيسية، وتنفيذ "أجندة" الصهيونية العالمية باقتلاع القضية الفلسطينية من جذورها ومحو هوية الشعب الفلسطيني، وإطفاء شعلة الأمل بالاستقلال والتحرير والعودة وتهويد القدس بالكامل، من دون أن ننسى استخدامه للحجج والذرائع الواهية للتهرب من استحقاقات السلام مثل استمرار الانتفاضة ووقوع عمليات فدائية أو استشهادية كرد فعل، بعد أن يكون مهد لها بمجازر أو اغتيالات أو اجتياح للمدن والقرى الفلسطينية الآمنة وترويع أهلها العزل من سلاح المقاومة ومجابهة آلة الحرب الاسرائيلية وأسلحة الإرهاب والدمار وجرائم الحرب التي تنفذ بلا وازع من ضمير أو التزام بقرارات الشرعية الدولية وشرعة حقوق الإنسان وقوانين الحروب. وما دامت "خريطة الطريق" هي المشروع الوحيد المتاح للتسوية فإن من المنطقي أن يتعامل معه الفلسطينيون بإيجابية لمعرفة مدى جدية طرحه والتزام اللجنة الرباعية، والولاياتالمتحدة بالذات بتنفيذ بنوده ومراحله ورعاية خطواته وازالة العوائق والألغام من طريقه، ثم لفضح الجانب الاسرائيلي ومنح الشعب الفلسطيني فسحة أمل وفسحة من الوقت لتضميد جراحه وتأمين وسائل معيشته وصموده بعد أكثر من عامين من الحصار والقهر والقصف الإجرامي والاجتياحات المتوالية. ومهما قيل عن "خريطة الطريق"، ويمكن القول فيها ما لم يقله مالك في الخمرة، فإن الشعب الفلسطيني لن يخسر شيئاً إن فتح النوافذ أمام هذه المحاولة خصوصاً أن الظروف العربية سيئة وغير مشجعة بعد حرب العراق ومتغيراتها و"الترددات" المرتقبة للزلزال التي أحدثته على أكثر من صعيد. كما أن "المعلن" من المواقف الأميركية والأوروبية إيجابي ومشجع ومصر على وضع آلية التنفيذ مهما كانت العقبات والظروف. فالحكمة تقتضي أن تحشر اسرائيل في الزاوية، من خلال التعامل بإيجابية مع المطروح، وهذا ما تنوي فعله حكومة أبو مازن الجديدة، وما تعبر عنه معظم الأطراف العربية، وتحميل اسرائيل مسؤولية الفشل بعد نزع أوراق الحجج والأعذار والذرائع من يدها عبر اتفاق الفصائل الفلسطينية على هدنة تتوقف فيها العمليات ضد المدنيين وتوحيد الموقف الفلسطيني والقرار الوطني ولو لفترة سماح تتاح فيها الفرصة لتلمس معالم الطريق. هذا لا يضير الفلسطينيين ولا يؤثر على نضالهم، فهم قادرون على اشعال فتيل انتفاضة ثالثة ورابعة وخامسة كما فعلوا في انتفاضتهم الأولى والثانية. فخريطة الطريق مكتوب عليها "الخربطة" ليس بسبب الرفض الفلسطيني أو الشروط والعقبات وإطالة مراحل التنفيذ بل لأسباب كثيرة اسرائيلية وأميركية، منها على سبيل المثال: 1 - عدم الرغبة الإسرائيلية بتنفيذ أي مرحلة من المراحل والنيات السيئة لشارون وحكومته وغرائز التوسع وغطرسة القوة لدى غالبية الإسرائيليين لا سيما بعد حرب العراق. 2 - اصرار حكومة شارون على إدخال تعديلات جذرية على الخريطة مما يؤدي الى نسفها بعد تفريغها من مضامينها كما فعلت مع مشاريع اخرى آخرها تفاهمات تنيت وميتشيل. 3 - إصرار الإسرائيليين على مواصلة استخدام العنف والإرهاب والاغتيالات لحمل الفلسطينيين على الرد والحصول على ذرائع للتملص من الالتزامات. 4 - استمرار عمليات الاستعمار الاستيطاني "الشرعي" وغير الشرعي بحسب المصطلحات الإسرائيلية والأميركية والتحايل على هذا البند بزعم أن توسيع المستوطنات لا يدخل في إطار وقف بناء المستوطنات الجديدة. 5 - حتى ولو وافق شارون على الخريطة كما هي فإنه سيجابه بحرب شعواء ضده من اليمين المتحالف معه، أو لنقل مسرحية تبادل أدوار يرضخ بعدها للضغوط أو يصر على موقفه فتتجدد ملهاة اسقاطه والدعوة لانتخابات مبكرة، أو يتحايل فيدعو لاستفتاء عام على بنود الخريطة والتزاماتها. 6 - اصرار الإسرائيليين على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم على رفض أي بند يشير الى حق العودة للاجئين الفلسطينيين، واعلان شارون عن عملية ابتزاز يقايض فيها الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة بإعلان الفلسطينيين التخلي عن هذا الحق الشرعي المكفول بقرارات دولية كثيرة. 7 - ان عامل الوقت لا يتيح أي مجال لتنفيذ بنود الخطة ولو في مراحلها الأولى لأن معركة انتخابات الرئاسة الأميركية فتحت منذ اليوم... والرئيس جورج بوش لن يضحي بطموحه للتجديد لولاية ثانية من أجل هذه الخريطة أو من أجل سواد عيون الفلسطينيين، خصوصاً أن اللوبي الصهيوني مدعوماً بصقور اليمين في الإدارة الأميركية بدأوا معركتهم المضادة لابتزاز الرئيس والضغط عليه للتخلي عن الخريطة أو تعديلها بحسب "المقاسات" الإسرائيلية الشارونية أو مواجهة استحقاقات معركة غير مضمونة بالتخلي عن دعمه في ظل أوضاع اقتصادية صعبة قد تزداد تفاقماً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في العام 2004. 8 - ان افرازات الحرب على العراق ومن قبلها الحرب على ما يسمى الإرهاب وتداعياتهما زادت من اختلال التوازنات بين العرب واسرائيل وأعطت المتطرفين الصهاينة زخماً إضافياً يدفعهم للتعنت والتشدد وفرض شروط تعجيزية. 9 - ان هذه الحرب أدت الى إحداث شرخ بين دول التحالف الغربي لا سيما بين فرنساوالولاياتالمتحدة ما أضعف الموقف الفلسطيني وأدى الى صعوبة التفاهم والتنسيق الأوروبي - الأميركي، وزاد في تهميش دور الأممالمتحدة وبالتالي تراجع دور أوروبا في الضغط من أجل تنفيذ خريطة الطريق، على رغم دعم بريطانيا لها، ما يعني ان شركاء الخريطة في اللجنة الرباعية لن يتمكنوا من أداء التزاماتهم لانعدام سبل التفاهم في ما بينهم، وبينهم وبين الأطراف المعنية، لا سيما اسرائيل "المرتاحة" جداً لهذا لوضع الانقسامي. هذه الأرقام وغيرها يضاف اليها قنابل موقوتة لا بد أن تنفجر في "الطريق" خلال مراحل تنفيذ الخريطة، إذا تم تجاوز العقبات الأولية بسبب استبعاد القضايا الخلافية الرئيسية وتأجيل بحثها الى مراحل لاحقة وهو الخطأ نفسه الذي ارتكب عند وضع اتفاقات أوسلو. من بين هذه القنابل الموقوتة نشير الى قضايا جوهرية مثل القدس وعودة اللاجئين والاستيطان والحدود والمياه والسيادة في الدولة المستقلة. والمؤسف ان الولاياتالمتحدة تصر على السير في طريق خاطئ عندما تعمد الى الضغط على الفلسطينيين للقبول بما هو معروض عليهم على رغم علله الكثيرة والغبن اللاحق بحقوقهم، وعلى العرب الموافقة على بياض وتسهيل تمرير الخريطة وعدم معارضتها أو حتى انتقادها سياسياً وإعلامياً بدلاً من أن توجه ضغطها الى اسرائيل لحملها على وقف جرائمها والرضوخ لمطالب الشرعية الدولية وقبول الخريطة كما هي من دون أي تعديل وإزالة الألغام التي تزرعها في طريقها. فطريق الحل واضح وجلي ولن يتحقق بهز العصا في وجه سورية ولبنان والفلسطينيين وكل العرب بل بتوجيهها الى اسرائيل مباشرة، وأميركا قادرة على ذلك على رغم كل ما يشاع ويقال. وأي تهرب من هذا الواقع سيؤدي الى الضياع في غياهب أزقة وشوارع فرعية ومتاهات لن يدخل فيها العرب لوحدهم بل ستسبقهم اليها اسرائيل والولاياتالمتحدة ومصالحها الحيوية في المنطقة. ولنا عودة قريبة لخريطة الطريق وقراءة متأنية لبنودها ومطباتها. * كاتب وصحافي عربي.