Noel Mamژre & Patrick Farbiaz. Dangereuse Amژrique. أميركا الخطرة. Ramsay, Paris. 2003. 302 Pages. قد لا يكون التفكير بالمماثلة Par Analogie مقبولاً في العلوم الدقيقة، لكنه يبقى منتجاً إلى حد لا يستهان به في علوم السياسية والإنسان والمجتمع. نقطة انطلاق مؤلفي "أميركا الخطرة" - وهما من الأسماء اللامعة في حركة البيئويين الفرنسيين - هي مماثلة الرئيس الأميركي الحالي في استراتيجيته الحربية المعلنة والمطبقة - بالأمس في أفغانستان واليوم في العراق، وربما غداً في سورية أو إيران أو كوريا - بكبير جنرالات الحرب الذي كانه في حينه نابليون. المماثلة بينهما لا من منظور العبقرية العسكرية: فبوش محروم منها تماماً، هذا إن لم يكن محروماً من كل عبقرية. ولكن من منظور تبني الخيار الحربي بوصفه المفتاح السحري لجميع مشكلات السياسة. فبوش التكساسي، مثله مثل الجنرال الكورسيكي، رجل حرب من رأسه إلى أخمص قدميه. والفريق الذي يعمل معه، والذي يقدم له منظار الرؤية لكل ما يجري على ساحة العالم الخارجي الذي كان يجهل عنه كل شيء حتى يوم انتخابه، هو فريق حرب. وصحيح أن فريق حرب بوش يتألف، لا من ماريشالات كما في المثال النابوليوني، ولكن من مدنيين، لكنهم جميعاً، بمن فيهم المرأة التي معهم، يفكرون كما لو أنهم يرتدون بزات عسكرية. والمفارقة أن العسكري الوحيد بينهم - وهو الجنرال باول - كان حتى الأمس القريب، وقبل أن يغلَب على أمره، أقلهم اندفاعاً نحو اختيار الحل الحربي. لكن ماذا يستطيع عسكري واحد أن يفعل في مواجهة مدنيين مصممين على أن يتعسكروا، وعلى أن يعسكروا السياسة؟ فلئن يكن كلاوزفتز قد عرّف الحرب بأنها استمرار للسياسة ولكن بشكل مختلف، فإن لسان حال فريق بوش يقول: إن السياسة استمرار للحرب، وبشكل غير مختلف. أبوش إذاً بونابرت آخر؟ الواقع أن منهج المماثلة الذي اعتمده مؤلفا "أميركا الخطرة" يقود إلى ما هو أبعد وما هو أخطر من ذلك. فالمفهوم/ المفتاح الذي يقترحانه لقراءة أميركا البوشية ليس مداره حول الشخص، بل حول الظاهرة بما هي كذلك: أي ما لا يترددان في أن يسمياه ب"البونابرتية الأميركية". فأميركا البوشية لا يصدق، أو لم يعد يصدق، عليها الوصف بأنها دولة امبريالية. فلا شك أنها اليوم القوة العظمى، والوحيدة، في العالم. لكن هذه القوة العظمى لا تسعى، نظير الامبرياليات التقليدية، إلى التوسع عن طريق السيطرة على أوسع مساحات ممكنة من الفضاء الكوكبي. فديناميتها التوسعية تتمثل في فتح حدود جديدة باستمرار بحيث يكون العالم بجملته هو حدها النهائي، وبحيث تتطابق مصالحها القومية الخاصة مع مصالح العالم بجملته. ولا شك أن الجيش الأميركي هو اليوم أقوى جيش في العالم، لكن ما يميز قوة الجيش الأميركي عن القوة التقليدية لأي جيش كبير آخر في الكون هو القدرة على الحضور وعلى الانتشار وعلى العمل في أي مكان من العالم، فهو ليس جيشاً أحادي المركز، نظير ما كان عليه الجيش السوفياتي أو الجيش النازي من قبله، بل هو جيش متعدد المراكز، وقادر على العمل في أية دائرة من دوائر العالم. والاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الأميركي، كما صاغتها إدارة الرئيس بوش، تكرر في أكثر من بند من بنودها أن العالم بأسره قد غدا مسرح عمليات هذا الجيش ابتداء من 11 أيلول سبتمبر 2001 على أقل تقدير. ومؤلفا "أميركا الخطرة" يصران على عبارة "على أقل تقدير" هذه. ففي اعتقادهما أن أحداث 11/9 كانت الذريعة، ولم تكن السبب، لتفعيل الخيار الحربي للبونابرتية الأميركية. فتماماً كما أن الجيش النابوليوني الكبير كان خرج في مطلع القرن التاسع عشر لغزو القارة الأوروبية بأسرها لتصدير مبادى الثورة الفرنسية في "الحرية والمساواة والاخاء" إليها، ولو بقوة المدافع، كذلك فإن الإدارة البوشية وجدت في عملية 11/9 في مطلع القرن الحادي والعشرين، الفرصة الذهبية للخروج إلى العالم ولتصدير الديموقراطية إليه، ولو بقوة الصواريخ. فأميركا البوشية، مثلها مثل فرنسا النابوليونية، تريد أن تقولب العالم على صورتها، بحيث يغدو العالم أميركا كبيرة، مثلما أن أميركا هي نفسها عالم صغير. وبديهي أن المشروع البوشي، مثله مثل المشروع النابوليوني، تقف في خلفيته العمقية، لا لاعتبارات مبدئية مثالية، بل لاعتبارات المصلحة القومية. لكن حاجة الإدارة البوشية إلى قناع الديموقراطية أشد حتى من حاجة القيادة النابوليونية إلى قناع الثورة الفرنسية. فنابليون كان يعتقد بكيفية أو بأخرى ان مبادئ الثورة الفرنسية تصلح فعلاً لأن تكون مبادىء كونية لأوروبا بأسرها. أما بوش فيعتقد أن مصالح أميركا، وليس فقط مبادئها، تصلح وينبغي أن تكون مبادئ للعالم بأسره. ولهذا، ومهما فاحت من حرب بوش العراقية رائحة النفط، فإنها تظل تنتقش مبدئياً، بل لاهوتياً بتعبير أدق، في صراع الخير ضد محور الشر. ولئن يكن المشروع النابليوني قد انتهى إلى الإعلان عن قيام امبراطورية، فإن المشروع البوشي قد انطلق في الواقع من امبراطورية قائمة سلفاً ولا يعوزها من الوجود الامبراطوري سوى الاسم. فنابليون قد خلق الامبراطورية ليكون تاجها، أما الامبراطورية الأميركية فقد خلقت بوش لتتوج نفسها. ومرة أخرى ينبغي أن نقول إن عملية 11/9 هي التي قدمت الكاتدرائية السيكولوجية - إن جاز التعبير - لعملية التتويج. فقبل 11/9 كان بوش يتبدى، مثله مثل نابليون، وكأنه مغتصب للسلطة. فقد فاز في انتخابات الرئاسة بفارق 537 صوتاً في ولاية فلوريدا التي يحكمها - ويا للمصادفة! - أخوه جب، مع أن منافسه الديموقراطي آل غور كان متقدماً عليه بنحو نصف مليون صوت في سائر الولايات. وغداة تسنمه سدة الرئاسة سجلت استطلاعات الرأي انخفاضاً في درجة شعبيته إلى أقل من 40 في المئة، وهو أدنى مستوى من الشعبية سجله قط رئيس أميركي منتخب حديثاً. لكن على حين فجأة تضاعفت شعبيته إلى 80 في المئة من أصوات الأميركيين غداة 11/9. وتماماً كما أن سلفه النابوليوني كان سعى إلى تعضيد شعبيته لدى الفرنسيين من خلال فتوحاته الأوروبية، كذلك فإن بوش سيسعى إلى الحفاظ على المستوى المستجد لشعبيته من خلال الانتصارات العسكرية في حرب أفغانستان الخاطفة، ومن خلال الانتصارات العسكرية المأمولة لحرب العراق المخطط لها أن تكون هي الأخرى خاطفة. والواقع أن صدمة 11/9 قد خلقت عصاب حرب حقيقياً لدى غالبية كبيرة من الأميركيين الذين صار نهمهم إلى الانتصارات العسكرية من قبيل التعويض النفسي لا يقل عن نهم عامة روما إليها في عهد الامبراطورية الرومانية، ولكن مع هذا الفارق: فأكاليل الغار التي كان يُستقبل بها الفاتحون والقادة الرومانيون المنتصرون أخلت مكانها لبيانات استطلاعات الرأي ومؤشرات تقدم الشعبية. وليس من قبيل الصدفة من هذا المنظور أن نسبة المؤيدين من عامة الأميركيين للسياسة البونابرتية البوشية قد زادت بعد بدء العمليات العسكرية، في العراق كما كانت عليه قبلها، وهذا على رغم الموقف النقدي الذي أخذته شرائح واسعة من النخبة الأميركية ضد هذه الحرب المبرمجة سلفاً. ويبقى هناك سؤال: ألا يتناقض هذا التصور عن "البونابرتية الأميركية" المندفعة حربياً نحو الخارج مع ما هو مأثور تقليدياً عن أميركا من نزعة إلى الانعزال داخل حدودها؟ مؤلفا "أميركا الخطرة" لا يترددان في الإجابة بالسلب. فما بين البونابرتية والانعزالية استمرار، لا قطيعة. فما دام العالم بأسره قد غدا حدود أميركا، فإن النزعة التدخلية تغدو مرادفة أو متممة للنزعة الانعزالية. فأميركا إذ تخرج إلى العالم فكأنما لم تفارق بيتها. وهذا بالضبط ما يجعل من أميركا الأمة الأكثر قومية في العالم اليوم والأمة الأكثر ميلاً إلى التوسع الكوني في آن معاً. ولئن انعزلت أميركا عن العالم في الماضي لتحمي نفسها من شروره، فإنها تخرج اليه اليوم لتعمم عليه خيرها. فأن يتأمرك العالم، أو أن تتعولم أميركا، فإن الأمر من الآن فصاعداً سيان.