في شباط فبراير العام 1997 - أي في منتصف الفترة تقريباً بين حرب الخليج التي أدت إلى الوجود العسكري الأميركي المكثف في المنطقة وبين أحداث أيلول سبتمبر 2001 التي هزت المجتمع الأميركي بعنف ودفعت الإدارة الأميركية إلى اتباع سياسة تتسم بإبراز قوتها العسكرية الفائقة - نشر الملحق الديبلوماسي لجريدة "لوموند" الفرنسية مقالاً لأغناسيو رامونيه في عنوان "الإمبراطورية الأميركية" يشير فيه إلى أنه بقدوم العام 1991 وتفكك الاتحاد السوفياتي انفردت الولاياتالمتحدة بالهيمنة على أقدار العالم. ولم يعد مفهوم الإمبراطورية في العصر الحديث يرتبط باتساع الامتداد الجغرافي من طريق احتلال الأرض بقدر ما يرتبط بالقدرة على التحكم في اقتصاديات العالم وتوافر السيولة النقدية والتقدم العلمي والتكنولوجي والسيطرة على التجارة العالمية وبعض الجوانب المدنية الأخرى المرئية واللامرئية. وهي كلها مزايا تتوافر لأميركا أكثر مما تتوافر لأية دولة من الدول الكبرى الأخرى. وأميركا تدرك ذلك تماماً وتعرف كيف توجه هذه القدرات المتعاظمة لتحقيق مصالحها بصرف النظر عن مصالح الآخرين. كما تعرف كيف تستغل جوانب الضعف والنقص في غيرها من الدول لكي تبسط نفوذها، بحيث تتحول هذه الدول إلى توابع تدور في فلكها وتقتدي بسياستها وتنفذ أوامرها. ووصل الأمر بالقوة الأميركية إلى الحد الذي تستطيع معه توقيع العقوبات الاقتصادية على الدول الأخرى المارقة التي ترفض الانصياع لسياستها كما هو الشأن بالنسبة إلى بعض دول شرق آسيا وليبيا وإيران، وأن تتحدى قرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم حين تتعارض هذه القرارات مع مصالحها من دون أن تبدي أي اهتمام بالرأي العام العالمي. وساعدتها الظروف والأوضاع المضطربة على أن تتدخل في كثير من مناطق العالم برغبة من أهلها في الغالب وبدعوة منهم للمساعدة في الحفاظ على أمنهم وكيانهم. وبذلك أفلحت في أن ترسي - ولو ظاهرياً - قواعد الديموقراطية في عدد من الدول التي كانت تعاني من الحكم الديكتاتوري وتسهم في تسوية النزاعات السياسية والإقليمية، سواء أكان ذلك بنية خالصة وصافية منها أم لتحقيق مصالحها الخاصة أو مصالح الطرف الأكثر خضوعاً لها وتعاوناً معها. وتعمل على إحلال ما أصبح يعرف باسم السلام الأميركي أسوة بالتعبير القديم السلام الروماني. وأدت التغيرات العالمية في مجال السياسة والعلاقات الدولية والبحث العلمي والتقدم التكنولوجي إلى أن يصبح مفهوم الإمبراطورية مفهوماً أيديولوجياً له أبعاد جديدة تختلف عن مجرد الوجود العسكري وإخضاع الشعوب بطريق مباشر واستغلال مواردها الاقتصادية لمصلحة القوة المهيمنة. وهو يعتمد على الإنجازات العلمية الهائلة، خصوصاً في تكنولوجيا الاتصال لنشر الأفكار والثقافة والتحكم في عقول الناس. وهذه كلها خصائص تتوافر لأميركا وتسوغ لها أن تصبح الامبراطورية القوية الوحيدة. لكن هذا التحول يدفع الكثير من المفكرين الأميركيين أنفسهم إلى الشك في ما إذا كانت هذه الهيمنة في مصلحة أميركا والإنسان الأميركي الذي يؤمن بالنظام الجمهوري ويعتز بالديموقراطية والعدالة وكرامة الفرد وحريته. فالنظام الإمبراطوري يتعارض تماماً مع نظام الحكم الجمهوري الذي يؤلف عنصراً أساسياً في الفكر الأميركي منذ حروب الاستقلال. لذا فإن قيام إمبراطورية أميركية تضطلع بالمهمات التي يتصورها ساسة أميركا في الوقت الحالي قد يحمل بين ثناياه بذور انهيار أميركا ذاتها كدولة جمهورية ومجتمع ديموقراطي. لكن فكرة الإمبراطورية الأميركية الكبرى والوحيدة تلقى في الوقت ذاته، كثيراً من القبول والرضا لدى قطاعات كبيرة من المجتمع الأميركي الذي تبهره مظاهر العظمة والقوة ويشعر بالفخر والكبرياء إزاء المكانة التي تتمتع بها أميركا الآن، ولا يرى ما يمنع من أن تصبح أميركا امبراطورية - بل إنها امبراطورية فعلاً - ما دام لديها كل مسوغات النظام الامبراطوري من حيث القوة العسكرية والهيمنة السياسية والسيطرة الاقتصادية والتقدم العلمي والتفوق التكنولوجي. وزادت من قوة هذا الاتجاه أحداث أيلول وما شعر به الأميركيون من مهانة لن يمحوها سوى الالتجاء إلى القوة للتغلب على المخاوف الداخلية والسيطرة على العالم كله، وليس فقط على قوى الإرهاب. فمطلب القوة والعظمة هو رد فعل طبيعي ضد الشعور بالمهانة، وبعض المفكرين الأميركيين الذين يناصرون فكرة الإمبراطورية الأميركية يرون أنها ستكون نوعاً مختلفاً من الامبراطوريات بحكم الظروف القائمة الآن فعلاً، وأنها ستقوم أيضاً على أسس ومفاهيم مختلفة تتناقض تماماً مع كل الأسس والمفاهيم التي كان يعتنقها النظام الإمبراطوري القديم، لدرجة أن أحد كتاب مجلة "ناشيونال ريفيو" الأميركية، وهو فيكتور ديفيز هانسون، يكتب مقالاً طريفاً يوم 27/11/2002 في عنوان "إمبراطورية من نوع مضحك" يقارن فيه بين مقومات الإمبراطورية الرومانية باعتبارها المثال الأعلى الفذ للنظام الإمبراطوري وبين الأسس التي تقوم عليها الإمبراطورية الأميركية المأمولة. والمقال يتضمن معلومات وآراء ووجهة نظر تتعارض تماماً مع العنوان، وفيه كثير من الإشادة والفخر بما تقدمه أميركا وستقدمه للعالم. ويحاول هانسون أن يدافع عن الشعب الأميركي بأنه شعب لا يعاني من طموحات أو تطلعات إمبريالية وأن الأوضاع في أميركا تختلف اختلافاً جذرياً عما كان سائداً في الإمبراطورية الرومانية، لأن اتجاهات الدولة السياسية وتوجهاتها الفكرية وتاريخها ونظرتها إلى الحياة كلها أمور لا تؤهلها على رغم التفوق العلمي والتكنولوجي والحربي لأن تقوم بالدور الذي كانت تقوم به أي من الامبراطوريات الكبرى المعروفة في التاريخ سواء أكانت هي أثينا أم الامبراطورية الرومانية أم الامبراطورية العثمانية أم أخيراً الامبراطورية البريطانية. ولذا فليس ثمة وجه للمقارنة التي يعقدها بعض الأوروبيين بين الرئيس بوش ويوليوس قيصر أو وصف الرؤساء والعسكريين الأميركيين الحاليين بالصفات التي كانت روما تصف بها رجالها. وعلى رغم الهيمنة الأميركية التي يسلم الجميع بها، فلم يكن لأميركا أبداً ممثلون مقيمون أو قناصل بالمعنى الروماني القديم والذين كانوا يحكمون المستعمرات باسم القيصر ويفرضون على السكان المستعبدين الضرائب الفادحة لترسل إلى روما، وإنما كانت أميركا ولا تزال تقيم قواعدها العسكرية في الدول الحليفة والصديقة بمقتضى اتفاقات وشروط والتزامات تكلف الخزانة الأميركية أموالاً طائلة تذهب لمصلحة الدول المضيفة. وبينما كان الأثينيون والرومان والعثمانيون والبريطانيون يحتلون الأرض وينهبون ثرواتها، لم تحاول أميركا أن تضم أراضي أي دولة بعد أن انتهت الحروب الأميركية - الإسبانية التي لا يزال الكثيرون يعتبرونها وصمة عار في جبين أميركا بدلاً من أسبانيا. وبينما كانت الامبراطوريات الأخرى تصدر الأوامر لكي تطاع، فإن الأميركيين يكفلون للأتراك مثلاً ضمانات استراتيجية ومساندة سياسية ومالية تمثل عبئاً ثقيلاً على المواطن الأميركي العادي. ويصل الأمر بالألمان الذين حررتهم أميركا أثناء الحرب العالمية الثانية من الحكم الديكتاتوري إلى اتهام الأميركيين بالاستعلاء والغطرسة لا لشيء إلا لأن بوش وجه بعض الانتقادات الى شرودر أثناء حديث هاتفي بينهما. وكانت للرومان ألقاب تشريف يسبغونها على كبار القادة والساسة وحكام الأقاليم مثل "ماغنوس" و"أفريكانوس"، كما كان البريطانيون يمنحون الأوسمة وألقاب النبل للديبلوماسيين والعسكريين المتقاعدين مثل لقب سير أو لورد وما إليهما. أما في أميركا فإن رجل السياسة أو الديبلوماسية أو الاستخبارات فيعتبر نفسه سعيد الحظ إذا أمكنه بعد التقاعد أن يذوب في المجتمع كفرد عادي لا يتعرض لمتابعة وسائل الإعلام للكشف عن خبايا حياته الخاصة وعلاقاته الحميمة بحيث تفضحه تماماً أمام الرأي العام إن لم ترسل به إلى السجن. كل هذا يدفع فيكتور هانسون إلى أن يقول إنه إذا حدث أن قامت امبراطورية أميركية بهذه المواصفات فإنها ستكون امبراطورية مضحكة وهزلية بين سائر الامبراطوريات، لافتقارها الى كل العناصر والمقومات اللازمة لقيام كيان امبراطوري بالمعنى الدقيق للكلمة. فأميركا تعطي أكثر مما تأخذ، ولا تسلم في الوقت نفسه ليس من انتقادات الآخرين بل أيضاً من معارضة مفكريها وأدبائها للسياسة التي تنتهجها في التعامل مع الغير. وبينما كان أدباء الامبراطوريات الأخرى وشعراؤها يشيدون بإنجازاتها ويمجدون زعماءها ويعملون على تخليد ذكراهم، يجد مفكرو أميركا لذة في السخرية من الزعماء الأميركيين. وما يذكره هانسون وغيره من الكتاب الذين يدافعون عن مكانة أميركا ورسالتها الإنسانية السامية يدفع الأميركيين إلى إثارة السؤال التقليدي: لماذا يكرهوننا؟ وإلى الرد على ذلك بالإجابة التقليدية: لأنهم يحقدون على أميركا لتفوقها في كل المجالات على رغم أنها تقدم لهم الخير. وهو نفسه ما يحدث على مستوى الأشخاص، إذ ينقم الضعيف على القوي لقوته وإن كان يشمله بالرعاية. ويذهب هؤلاء الكتاب إلى أنه ربما تكون أميركا ارتكبت بعض الأخطاء الفظيعة كما هو الشأن بالنسبة إلى فيتنام، لكن هذه الأخطاء لا تقارن بالفظائع التي ارتكبتها بريطانيا في الهند ومناطق الزولو والخرطوم وغيرها. وينسى هؤلاء الكتاب ما فعلته أميركا بقبائل الهنود الحمر وكان لبعضها ثقافات عالية. كما أنها تحاول أن تخفي حقيقة مواقفها العدوانية وراء الدعوى بأن عليها التزاماً أخلاقياً بإقرار السلام في العالم، وإن اضطرت لاستخدام القوة لتحقيق هذا الالتزام. وهو منطق القوة الذي يتهاوى أمامه أي منطق إنساني أو أخلاقي آخر. انثروبولوجي مصري