منحت الأكاديمية الفرنسية الوزير اللبناني السابق والمفكر غسان سلامة جائزة الفرنكوفونية العالمية، وتقدمها له اليوم السبت في احتفال في مقرها الباريسي. إلا أن سلامة سيتغيب عن الاحتفال نظراً الى وجوده في نيويورك في مهمة ديبلوماسية، على ان تتسلم الجائزة عنه ابنته المقيمة في باريس. هنا قراءة في نتاج غسان سلامة، كاتباً بالفرنسية وباحثاً ومفكراً. جميل وغريب في آن واحد أن تُمنح جائزة الفرنكوفونية لغسّان سلامة... جميل بما في هذه الخطوة من عربون عرفان وتقدير لوزير الثقافة الذي أُنيطت به مهمة تحضير أو تنظيم القمة التاسعة لمنظمة الدول الناطقة كلياً او جزئياً باللغة الفرنسية. وهي مهمة برع فيها ذاك السياسي الآتي من عالم الجامعة ومراكز الأبحاث، والمعتاد على عقد الاجتماعات والندوات وحضورها على اختلاف اشكالها وأحجامها، عين على المضمون العلمي الدّائر فيها، وعين اخرى على "ما ورائياتها" من صراعات المصالح والنفوذ المختبئة وراء ستار الأفكار. لكنّه يبقى غريباً ان يُكرَّم غسان سلامة الإنسان والمثقف وعالم الاجتماع السياسي لفرنكوفونيته، هي التي، كما يقول هو، أتتْه من باب المصادفة الوظيفية، ومن باب الحاجة المهنيّة، كأستاذ في جامعة باريس معهد الدراسات السياسية وكمدير ابحاث المركز الوطني للأبحاث العلمية CNRS. لم يكن غسّان سلامة، وليد الأسرة الكسروانية الكفرذبيانية الكاثوليكية المتواضعة الأصول، فرنكوفوني المنشأ أو الانتماء، كما انه لم يقترب من الفرنكوفونية بمعنى اعتناق اللغة الفرنسية كلغة اولى مثل معظم تلامذة مدارس بيروت والجبل المسيحية الخاصة. الفرنسية لغة ثانية وثانوية في المدرسة الداخلية "للآباء البيض" في مدينة رياق البقاعية حيث فُتحت له فرصة التعليم، والفرنسية لغة موازية للعربية في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اليسوعية فيما بعد. والفرنسية شبه غائبة، ولطالما هي مُغيّبة "إرادياً" في اوساط النشاط السياسي في صفوف القوميين العرب، المدرسة السياسية الأولى لذلك الشاب الرّيفي النازل الى المدينة والداخل في صخبها. والفرنسية هامشية في البيئة الأخرى للنشاط الاجتماعي والسياسي الآخر، تلك التي جذبت "ابن الفلاح" الى حلقة الأب غريغوار حداد في "الحركة الاجتماعية"، وتطلّعاتها التقدمية والإصلاحية الرّامية الى مصالحة المسيحية واليسار والعروبة... وحدها الحرب، وهنا المفارقة، حملت سلامة كاملاً الى الفرنكوفونية، أو بالأحرى جلبتها إليه. الحرب، الخيبة من لبنان، العنف، واللجوء الى مناخات اكثر مواتاة للإنتاج الفكري. ثم الى باريس، حيث بداية النفي القسري الذي لن ينتهي - وهل انتهى؟! - إلا مع العودة الى لبنان وزيراً، بعد عقد على إسكات المدفع والموت. إن حصاد الإنتاج العلمي لغسّان سلامة يُبرزه كاتباً باللغات الثلاث. العربية التي يمتلكها الى حد التفنّن والاستعمال الأدبي، هو المفعم بشعر بدر شاكر السيّاب. والفرنسية والإنكليزية اللتان تدرّج على ترويضهما حتى اصبحتا أداتين طيّعتين بين يديه. وهذا التوزّع لغسّان سلامة بين اللغات الثلاث، وإن ما برَح يعتبر العربية لغته الأم أو اللغة الطبيعية، هو ايضاً نتاج الأصول غير الفرنكوفونية وغير ال"متغرّبة". لكنه بخاصة نتاج الخيار الواعي وشبه السياسي النابع من مفهوم واسع ومفتوح للثقافة والهوية. حين "التأمت" لجنة صوغ الوثيقة الرّسمية للقمة الفرنكوفونية التاسعة في بيروت والتي كان عليها ان تبلور مفهوم لبنان ل"حوار الحضارات"، بادر غسّان سلامة المجتمعين وفاجأنا قائلاً انه شخصياً، وإن كان يرى جاذبية ما في مفهوم الحوار الثقافي، إلا انه لا يرى تماماً لماذا تكون هذه المهمة الحضارية حكراً على الفرنكوفونية، كما انه صراحة، لا يفهم اعتبار الفرنكوفونية هوية، او حتى انتماء سياسياً في المجال الدولي، غير انها وسيلة تواصل كما سواها من اللغات، وبخاصة في جزء مهم من المعمورة، الافريقية منها على وجه التحديد والخصوص... وبالفعل، إن الانفتاح الدّائم على مجريات العالم الواسع، وكذلك مواكبة تغيّراته ونبضاته، وفهمها لترجمتها لغة سياسية تحليلية، هي بالذات سمات نتاج غسّان سلامة وكتاباته الموزعة على طول العقود الثلاثة التي لم يتوقف عن الإنتاج خلالها. الكتابات كثيرة وغزيرة حقاً، مُبعثرة بين الكتب، وكذلك المقالات الدراسية الطويلة المنشورة كفصول في كتب جماعية أو في مجلاّت فصلية، والمقالات الصحافية القصيرة المنشورة في صحف أو مجلات العالمين العربي والغربي، والمقالات والتعليقات الصوتية في إذاعات أوروبا والعالم العربي. البعض منها نال شهرة وسمعة، البعض تُرجم الى لغات اخرى، فيما البعض الآخر بقي "مستوراً" في ادراج المكتبات الجامعية، لا يعرفها سوى الزملاء والطلاب والاختصاصيين. هذا هو قانون لعبة الكتابة الأكاديمية والجامعية، وقد أتقنها سلامة تماماً، معوّضاً عن ذلك التستّر الذي تفرضه بعض الاطلالاّت الإعلامية التي اعتاد على "نجوميتها"! اما السمة الأخرى لنتاج الأعوام الثلاثين، فيمكن وضعها في خانة الشجاعة الفكرية، حيث انها بحث دائم عن الآفاق الجديدة للإشكاليات المطروحة والتي غالباً ما قيل فيها كل ما يمكن ان يقال، كما انها تختزن بحثاً عن ضرورة - إن لم يكن إمكان - قلب الأفكار والمفاهيم السائدة والمرسّخة حول تلك الإشكاليات. ولطالما امتزجت، في خضم جفاف هذه الأدبيات، القدرة التحليلية الذهنية مع الدعوة الى البحث عن "المخرج"، كما لو ان الناشط السياسي لا يزال مختبئاً وراء الأستاذ الجامعي. من هنا امكان اعتبار غسان سلامة "مراقباً ملتزماً" لعصره، كما كان يحلو لريمون آرون ان يقدّم نفسه: مواكباً للحدث من دون إغفال كونه جزءاً من حراك أشمل وأعمّ ومن دون التردد في "استباق" المفارق الأساسية التي سيطبعها الحدث الصغير على متغيرات العالم المعاصر الكبيرة. كانت عودة غسان سلامة الى لبنان من باب الثقافة و"سياساتها" العامة. وكذلك، ويا لها من مصادفة، كانت الانطلاقة الفكرية من الثقافة ايضاً، في بعدها السياسي. الكتاب الأول، وهو رسالة الماجستير في الأدب، حمل عنوان "المسرح السياسي في لبنان" Le Thژatre politique au Liban، وكان الهم فيه تأريخ أو تحليل تلك الظاهرة التي طبعت لبنان الستينات والسبعينات، كما طبعت الكثير من المجتمعات التي عاشت صخب ما بعد ايار مايو 1968، وما واكبه من تزاوج الفن والالتزام السياسي، وإدخال خشبه المسرح الى مسرح السياسة والتغيير. كان رولان بارت ومدرسة البنيوية Structurialisme في حينه بمثابة، النّظارة التي حملها غسان سلامة في عمله. ولم ينفكّ منذ ذلك الحين عن حملها الى مسارح اخرى، ومنها الى مسرح الأنظمة السياسية والعلاقات الدولية. وفي العمل الثاني، استعان سلامة، إضافة الى بارت، بنظارات الأب الروحي لعلم الاجتماع العربي، ابن خلدون، لتحليل "العامل العائلي في رسم السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية"، في أطروحة لنيل الدكتوراه في العلوم السياسية تحت إشراف مارسيل ميرل الذي يبقى معروفاً كمؤسس مدرسة سوسيولوجيا العلاقات الدولية في فرنسا. وتُرجمت هذه الأطروحة الى العربية لدى "دار الإنماء العربي"، فاتحة لمؤلفها باب الشهرة كواحد من الخبراء النادرين في منطقة الخليج العربي المفتقرة الى معرفة وخبرات تحليلية اكاديمية. منذ تلك الكتابات التأسيسية لمسار الأستاذ والباحث، راحت الكتابات تتوزع على محاور عدة، اهمها ثلاثة: المنطقة العربية و"نظامها"، العلاقات الدولية والنظام العالمي، لبنان وهوياته المتصارعة ومحنته الطويلة... في المجال العربي، جاء العمل الأول كجزء من سلسلة كتب هي نتاج برنامج بحث اطلقه وأشرف عليه "مركز دراسات الوحدة العربية" حول النظام العربي وبناه السياسية والمجتمعية، من المغرب الى الخليج. فكانت مساهمة سلامة عبر كتاب "المجتمع والدولة في المشرق العربي". وشاءت السخرية ان يعرف هذا الكتاب، الذي كان الأول والوحيد بأهميته في اللغة العربية، مصير المنع على يد الرقابة، في الكثير من "الأقطار" المشرقية التي عرّى فيها سلامة العيوب، لا سيّما منها الدور المتعاظم للعسكر في السياسة، والصفقة التي عقدتها الأنظمة البيروقراطية - البوليسية مع بقايا البورجوازيات لتأمين ديمومة الطرفين على حساب شعارات التحرر والتنمية. كانت حقبة الثمانينات، التي أعقبت هذه المحاولة الأولى لاستشراف معالم "السياسي" في الشرق الأوسط، شهدت في العالم الغربي اهتماماً متجدداً ومتزايداً تجاه مفهوم الدولة بمعناها "الفيبيري" Max Weber، اي اهتماماً بظروف نشأتها السوسيولوجية وبشروط استمراريتها وملاءمتها التغيرات الاقتصاية والدولية. وكما درجت سلسلة من الأبحاث الأنغلو - ساكسونية بعد كتاب The dascockpol على "دعوة الدولة مجدداً الى البحث" Briuging the state beck in، كذلك أطلق سلامة مع مجموعة من الباحثين الغربيين عملاً مماثلاً، مضيفاً إليه، بمساعدة زميله وصديقه الاقتصادي الإيطالي جياكومو لوسياني اهمية عامل الريع النفطي. فكانت الحصيلة ما يمكن اعتباره حتى اليوم موسوعة "الدولة العربية" G.Luciani & G.Salame, The Arabe state. إذاً، انه السعي دائماً لمماشاة الاتجاهات البحثية العالمية، وفتح باب المجتمعات العربية على النظرة الأكاديمية الغربية من اجل المقاربة والمقارنة. وفي اواخر الثمانينات كانت رياح التغيير وانهيار الأنظمة التوتاليتارية تهزّ اميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، منذرة بتغييرات في منظومة العالم الثالث بأسره، فابتكرت العلوم الاجتماعية والسياسية مفهوم "الانتقال" Political Transition، وأشرف غسان سلامة في حينه، مع نخبة من الباحثين في الغرب، على عمل جماعي يبقى حتى اليوم مرجعاً في هذه الإشكالية، تحت عنوان "ديموقراطية من دون ديموقراطيين" Democraties sans Democrates. التسعينات كانت ولا تزال عقد "العولمة" وتفشّي النظريات حولها، منها المفعم بالتفاؤل حول مكاسبها، ومنها المندد بمآسيها. وكان لغسان سلامة ان يعود حينئذ الى حقل اختصاصه الأول، العلاقات الدولية وفهم ماكينة النظام العالمي. وكالمعتاد، اعتمدت النظرة الى العالم المتغيّر موقع "العالم الآخر"، الذي يستقبل العولمة ويتحمّل تبعاتها، بعدما عانى طوال الحرب الباردة من انقسام العالم بين الجبارين. فجاء الكتاب - الأطروحة Appel dصempire بمثابة استفزاز فكري، تحققت من ثم معظم ركائزه، بالزعم ان العولمة ستؤدي بمجتمعات الدول الضعيفة أو "المفلسة" Failed States الى مناداة من كانوا قبل نصف قرن او اقل أسيادها كي تحميها من آثار العولمة المؤلمة وتفكيكها لمنظومة الدولة الهشّة. هل كان يقين سلامة في حينه يجعله يتخيّل انه سيصبح يوماً شبه ضحية لتلك المرئيات في عراق ما بعد صدام حسين؟... ام انها حساسية اللبناني الذي عرف، قبل سواه طعم التمزقات الداخلية في مجتمعات كالتي وصفها، في ورقة لمركز الدراسات اللبنانية في اوكسفورد، بأنها تحوي "هويات جريحة". بالفعل لم يكتب غسان سلامة كثيراً عن لبنان. لا بل اكثر من ذلك، اراد الابتعاد عن الكتابة فيه وعنه. وحين يتناول هذا الوطن الذي نفاه، ثم كرّمه، لينفيه مجدّداً، يأتيه من موقع لا تخفى عنه لهجة النقد الحاملة احباطاً وأسى. كأن لبنان لا يزال "في الجلد"، قريباً الى حد منع المقاربة الموضوعية، او كأنه بدل ان يصبح - كغيره من الأشياء - موضوع بحث وتحليل، اضحى دائماً وأبداً اداة البحث ونظارته. كأن سلامة محكوم بأن ينطبق عليه المثل الفرنسي الشهير: "لا احدَ نبيٌّ في وطنه"؟ * باحث وأستاذ جامعي لبناني.