قامت الملحقية الثقافية السعودية في باريس مؤخراً بتنظيم محاضرة (الفرانكفونية واللغة العربية: تحديات العولمة) تحت رعاية سفير خادم الحرمين الشريفين في فرنسا، وقد ألقى هذه المحاضرة أستاذ اللسانيات في جامعة روان الفرنسية الدكتور فؤاد العروسي، معرفاً في بدايتها بمصطلح الفرانكفونية في ظل مفهوم التعددية اللغوية والعولمة، وموضحاً الخطوات السياسية والتعليمية التي اتخذتها فرنسا في سبيل نشر وتوسيع رقعة الهيمنة اللغوية للغة الفرنسية سواء كانت هذه الخطوات تعليمية أو ثقافية أو تعاونية. وذكر العروسي أنّ التعددية اللغوية تجعلنا نقف مباشرة أمام مسألة الآخر الذي يحمل لغة وهوية وثقافة أخرى وأنّه لا يمكن تناول موضوع التعددية اللغوية دون الأخذ بعين الاعتبار المثلث النظري الذي يجمع الهوية والثقافة واللغة، وأنّه يُمكن تجاوز معضلة رفض الآخر بعملية الترجمة بين اللغات وتشجيع التعليم، بما في ذلك بين الأقليات لأنّ ذلك سيمحو الاحتكاكات الثقافية والعرقية في البلد الواحد أو بين الدول، مؤكداً في الوقت ذاته أنّ لغة واحدة تستطيع أن تُعبر عن انتماءات ثقافية عديدة كاللغة الفرنسية في أفريقيا وكندا وفرنسا، والعكس صحيح أيضاً إذ تستطيع ثقافة واحدة أن تنطق بعدة لغات. وعرج المحاضر حول مشكلات اللغة العربية من حيث مدى انتشارها في العالم وعدم التوسع في مجال تدريسها في العالم عامة وفي فرنسا خاصة مشيراً إلى أنّ الغرب وفي كل مراحل تاريخه كان قد تناسى الفائدة الكبرى التي أحدثتها هذه اللغة خصوصاً والثقافة العربية عامة في تاريخ وعلوم العالم وفرنسا على وجه التحديد؛ كونها بلدا استعارت من اللغة العربية الكثير من كلماتها المتداولة يومياً. ومن جانب آخر أوضح العروسي أنّ المهاجرين العرب الموجودين في فرنسا يعانون من مشكلة عدم وجود مكان لهم ضمن البناء اللغوي والثقافي الفرنسي ويصفون أنفسهم ويتحدثون بما يشبه ردة الفعل على هذه المنظومة التي لا ترصد لهم مكاناً فالهوية على رأي المحاضر لا تبنى في ظل رفض الآخر وإنّما تحت مظلة الاختلاف الذي يثري السمات الثقافية واللغوية لكل أفراد البلد الواحد، إذ لا يمكن التحدث عن ازدواجية في الهوية لأنّها وحدة عضوية لا تتجزأ فهي تتكون من عدّة مؤثرات ومكونات نتيجة تعايشها في وسط ثقافي ولغوي أو أكثر. وعن الفرانكفونية واللغة العربية قال العروسي أنّ اللغتين قد عاشا تاريخاً مشتركاً وأنّ الأولى لا يجب أن تكون نفياً للأخرى إذ طالما استفادت اللغة الفرنسية من العربية؛ مستدلاً أنّ الكثير من علماء العرب كانوا قد تحدثوا عم مفهوم الفرانكفونية العربية وهذا يُعبر وبشكل واضح عن إمكانية ونجاح هذا التعايش كما حدث في دول المغرب العربي من جهة وعن إمكانية فتح باب الحوار والتبادل العلمي والثقافي بين اللغتين من جهة أخرى. ومذكراً بأدوار اللغة العربية التي تم تجاهلها في الوسط الثقافي الفرنسي بقصد أو بغير قصد على يد هذا أو ذاك من العلماء المختصين، كعدم اعتراف اللغة الفرنسية باستعارتها الكثير من الكلمات العربية وإدخالها نظامها القاموسي واللغوي، واستشهد المحاضر على ذلك ببلزاك الذي يذكر في مقدمة الكوميديا الإنسانية العديد من الحضارات الهندية والرومانية واليونانية دون الإشارة إلى الحضارة العربية الإسلامية رغم أنّه يتداول في كتاباته الكثير من الكلمات ذات الأصل العربي. ويرى العروسي أنّه يجب أولاً مراجعة التاريخ وتقصي الحقائق فيه وإعطاء كل ذي حق حقه، فالكل يعلم كم كانت إسهامات الحضارة الإسلامية العربية وثقافتها في شتى مضامين العلم والحياة، والغريب أنّ الكثير من الأدبيات العلمية لا تذكر هذا الدور وعلينا من أجل التقدم وتحقيق المساواة العلمية والثقافية التي هي من أركان الهوية أن نقوم بمراجعة التاريخ واستقرائه بشكل يصبو إلى ما هو صحيح وعلمي دون عصبية أو محو إيديولوجي أو سياسي، مؤكداً أنّ ذلك فقط يحقق لكل دولة استقرار ومساواة بين الفئات الثقافية المكونة لها مما يجنب بعض الصراعات العرقية أو الثقافية أو اللغوية أو غيرها. فهذه المراجعات على رأي العروسي يُمكن بها خلق فضاء التعايش من جديد من خلال الحاضر واستقبال المستقبل بشكل أفضل. وكان قد حضر هذه المحاضرة التي عُقدت بقاعة المحاضرات والندوات في مقر الملحقية الثقافية السعودية، عدد من المختصين والباحثين والمثقفين العرب والفرنسيين من المهتمين بالفرانكفونية واللغة العربية، وكان قد افتتحها الملحق الثقافي السعودي الدكتور عبدالله بن علي الخطيب، وأيد الحضور ما ذهب إليه في مسألة التعايش اللغوي والثقافي تحديداً، إلاّ أن الأستاذ الدكتور بنوا ديلاند المتخصص في اللغة العربية لدى وزارة التعليم العالي الفرنسية كان له رأي مختلف تجاه أن "فرنسا لا تتعامل بشكل متكافئ مع اللغات الإقليمية بالصورة التي ذكرها المحاضر" مضيفاً أن التعليم الفرنسي أدخل في السنوات الأخيرة برامج تعليم اللغة العربية سواء كان ذلك في المدارس الثانوية المتمركزة في المدن أو مثيلتها المنتشرة في الأحياء التي تضمّ أبناء المهاجرين، وأن هذا البرنامج "ما زال فتيا مقارنة باللغات الأجنبية الأخرى إلاّ أنه قابل للتطور والترشيح". وقد أشاد السيد ديلاند بدور الترجمة وقال "إن الكُتّاب العرب الذين اشتهروا في الغرب عبروا من خلال نافذة الترجمة كنجيب محفوظ مثلاً الذي قُرئ في الغرب أكثر مما قُرئ في البلدان العربية لأن العرب لا يقرؤون الروايات إلاّ قليلا". وفي مداخلة أخرى لأستاذ النقد في جامعة الملك سعود والزائر في جامعة السوربون الدكتور معجب قال "إنّ قضية الفرانكفونية تشير دائماً إلى العلاقة مع الآخر ويؤكد ذلك اعتقاد الناس بأنّها مرتبطة بالسياسة الخارجية وعلاقة فرنسا مع العالم، مما يعني ضعف مستواها كحركة عملية ثقافية. مضيفاً الزهراني "أن الفرانكفونية غدت بمثابة خطاب ما بعد استعماري يشبه خطاب العولمة الأمريكية، إذ يبدوا أن المثقفين بقوا على هامش هذه الحركة بدلاً من أن يلعبوا دوراً كبيراً"، وقد خص الدكتور معجب المحاضر بالشكر لقاء تناوله هذا الموضوع الحساس بجرأة علمية ودقة ومنهجية. وقال تييري روا الباحث والمهتم بهذا الشأن "أنّ إشكالية تعدد اللهجات في اللغة العربية يمثل عقبة أمام مسألة تعلم الفصحى. وعلى ذلك أجاب المحاضر العروسي أن الاختيار سهل، فإمّا دراسة اللغة العربية الحديثة المعمول بها في القنوات العربية التلفزيونية كالجزيرة، والعربية أو اختيار لهجة ما... وأضاف أنّ دراسة لغة أجنبية كالانجليزية والألمانية تمكن من التحدث مع الناطقين بها سريعاً، أمّا اللغة العربية الفصحى فتظل لغة كتاب وقراءة وليست لغة تواصل مع الناطقين بها. ومن جانبها ذكرت الباحثة الفرنسية سندي، المحللة السياسية في مجال الدبلوماسية والعلاقات الدولية، "أنّ الفرانكفونية فعلت خطوات أكيدة في مجال نشر لغتها وثقافتها سواء كان ذلك كافياً أم لا، مثيرة تساؤلها للحضور: ما الذي يفعله العالم العربي في سبيل نشر لغتها؟" وكان قد أكد الملحق الثقافي السعودي الدكتور عبدالله الخطيب أنّ هذه المحاضرة تُعد أولى الأنشطة المنبرية للملحقية الثقافية السعودية في باريس نحو بنية ثقافية هدفها الحوار وخلق الفضاء الواسع لمفهوم المثاقفة مع الآخر، وعن اختيار عنوان هذه المحاضرة لتكون بداية هذا النشاط، ذكر الخطيب أنّ اللغتين العربية والفرنسية تتجاذبها تواريخ وحضارتان هامتان على مستوى العالم ومتعددة الأوجه والسمات، مما يجعل من هاتين اللغتين مطية هامة لهذا الحوار بين العربي والفرنسي، وبحكم تمثيل الملحقية الثقافية للملكة العربية السعودية فقد كان من المناسب اختيار هذا العنوان ليكون فاتحة التبادل المنبري فضلاً عن العديد من الأنشطة الثقافية التي تعمل الملحقية على إنجازها سواء كان من خلال المشاركة في فعاليات ومهرجانات فرنسية أو من خلال دور الكتاب والترجمة التي تُعد أهمّ وسائل توثيق العلاقة بين اللغتين الفرنسية والعربية.