بلدية مرات تحتفل بيوم العلم السعودي    هيئة الصحافيين تعزز الإعلام السياحي بالطائف بورشة متخصصة    أمير الشرقية يستقبل رئيس مجلس الأعمال السعودي الكوري وأعضاء المجلس    الاتحاد الأوروبي يرحّب بالبيان المشترك الصادر عن أوكرانيا والولايات المتحدة عقب اجتماعهما بالمملكة    ضبط وإتلاف 850 كيلوغرام من الأغذية مجهولة المصدر في محافظة البيضاء بالدمام    المفتي العام ونائبه يتسلّما تقرير فرع الشرقيه للعام 2024    نجاح عملية تثبيت كسور العمود الفقري والحوض بتقنية الروبوت    تعليم البكيرية يحتفي بيوم العلم السعودي    البرلمان العربي يشيد باستضافة المملكة محادثات أمريكية-أوكرانية    16 حاضنة وأكثر من 234 بسطة وعربة طعام متنقلة بتبوك    رابطةُ العالم الإسلامي تُثمِّن لمجلس الوزراء شُكرَهُ لعلماء مؤتمر "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية"    أبرز العادات الرمضانية في بعض الدول العربية والإسلامية..الجزائر    في إياب ثمن نهائي دوري أبطال أوروبا.. صراع مدريد يتجدد.. وأرسنال في مهمة سهلة    أساليب الوقاية ضد الجرائم الإلكترونية    دلالات عظيمة ليوم العلم    1.6 مليون مقعد في قطار الحرمين لنقل المعتمرين    نظام الفصول الدراسية الثلاثة.. الإيجابيات والسلبيات على المجتمع والاقتصاد    سوريا.. توقيف متورطين بانتهاكات "الساحل"    «الداخلية» تزين «طريق مكة» بالجائزة المرموقة    هل يوجد تلازم بين الأدب والفقر؟    اليمن.. الحوثيون يتوسعون بفرض الإتاوات    السودان.. قائد الجيش يضع شروطاً صارمة للتفاوض    بعد تغلبهما على الريان وباختاكور.. الأهلي والهلال إلى ربع نهائي النخبة الآسيوية    أشادتا في بيان مشترك بمتانة الروابط وأهمية تنمية التبادل التجاري.. السعودية وأوكرانيا تستعرضان جهود تحقيق السلام الشامل    وزير الإعلام يُكرّم الفريق المنفذ لأول عملية زراعة قلب باستخدام الروبوت في العالم    6 إستراتيجيات أمريكية ضد عصابات المخدرات في المكسيك    رمز الشموخ والعزة    الأولمبية والبارالمبية السعودية تعتمد تشكيل مجالس إدارة 24 اتحاداً ولجنة ومركز التحكيم الرياضي    مؤسسة الأميرة العنود تنظم ندوة "الأمير محمد بن فهد – المآثر والإرث" برعاية و حضور الأمير تركي بن محمد بن فهد    إفطار جماعي ومد لجسور التواصل    وزير الدفاع يستقبل وزير الدفاع التركي    الهلال يتخطى عقبة باختاكور في دوري أبطال آسيا للنخبة    محرز يسجل ثنائية في فوز الأهلي على الريان    جامعة أم القرى تنظم مأدبة إفطار رمضانية للطلاب الدوليين بالتزامن مع يوم العلم    شارع الأعشى والسير على خطى محفوظ    ثقة عالمية    السلمي والدباغ يزوران غرفة عمليات أجاويد ٣ بخميس مشيط    %338 نموا بمشتركي الصناديق الاستثمارية    بناء الجسور بين المذاهب من الحوار إلى التطبيق    العلم السعودي.. حكاية تاريخية ودلالة وطنية    وكيل محافظة الطائف يشارك أبناء جمعية اليقظة الخيرية الإفطار الرمضاني    الفعاليات الرمضانية تشعل التنافس بين حواري بيش    «كفو».. خارطة طريق لتسويق الأفلام الدرامية    انطلاق المنتدى الثقافي بأدبي حائل    صِدّ عنه وكأنك ماشفته!!    2100 طالب في خدمة المحسن الصغير    مدير عام حرس الحدود يتفقد القطاعات والوحدات البرية والبحرية بمنطقة جازان    وجبات للإفطار بمسجد القبلتين بإشراف هيئة تطوير    النواخذة لقلب الطاولة أمام دهوك    7 أهداف تدخل العميد دوامة العثرات    شوارع وميادين مناطق المملكة تتزين بالأعلام احتفاء بيوم العلم    «صم بصحة» واحصل على جودة حياة    العلم السعودي .. راية التوحيد.. رمز العز والفخر    أمير تبوك يستقبل رئيس مجلس بلدية معان بالمملكة الأردنية الهاشمية    قطاع ومستشفى سراة عبيدة يُفعّل حملة "صُم بصحة" وحملة "جود"    فخامة رئيس جمهورية أوكرانيا يغادر جدة    السعودية ترحب بدمج مؤسسات شمال شرق سوريا لتعزيز الاستقرار في البلاد    المكملات الغذائية تصطدم بالمخاطر الصحية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"بين النيل والرمل" أو القاهرة المدينة المتعددة لغات وأدياناً وجماعات . كيف كتب الأدباء المصريون بالفرنسية وهل اعتُرفَ بهم عربياً وفرنسياً ؟
نشر في الحياة يوم 19 - 03 - 2000

بدأتُ قراءة هذا الكتاب ولم أتوقف، غصتُ في الدراسات الواحدة تلو الأخرى وفي مسيرة الكتّاب واحداً تلو الآخر : ذلك أن عالماً غنياً ومعقّداً بدأ يرتسم لي، عالمٌ كنت قد قرأته في روايات لورنس دورل الأربع التي تشكّل "رباعية الإسكندرية"، ومن ثم في رواية - ملحمة الكاتب اليوناني ستراتيس تسيركاس: "مدن تجنح". إنه عالم القاهرة في الفترة ما بين العشرينيات والأربعينيات، حيث اجتمعت وتعايشت في المدينة أديان وجماعات ولغات في ما شكّل تجربة فريدة من نوعها لما يسمّى بالمجتمع الكوسموبوليتي. فلم يكن من المألوف في ذلك الوقت، ولم يعد من الممكن اليوم، أن نجد مدينة عربية تعيش فيها من دون صراع ليس فقط الأديان الثلاثة السماوية، بل الإثنيات والقوميات من أرمن ويونانيين وإيطاليين وفرنسيين وإنكليز وأتراك، الخ، وحيث تختلط أيضاً لغات هذه الجماعات القومية. وكان من الطبيعي في هذه الفترة أن تجد مصرياً يتكلّم لغات عدة غير لغته العربية الأم. هذا الوضع الإجتماعي واللغوي الإستثنائي حَمَل عدداً من المساهمين في كتاب "بين النيل والرمل" على وصف مصر والقاهرة خصوصاً بالمدينة "المضياف"، كونها استطاعت احتواء هذا التعدّد الفريد والخلاّق. وبهذا المعنى كتب إدمون جابس: "الضيافة هي تقاطع الدروب".
ومع أن هذا المجتمع المتنوّع الذي احتضنته القاهرة كان أساساً مجتمعاً أرستقراطياً أو على الأقل برجوازياً ومقرّباً أحياناً من العائلة المَلَكية وأجوائها، وكانت ثقافته وانتاجاته ذات طابع نخبوي في الغالب، فانه وعلى الرغم من هذا كله، عَكَس من خلال مثقّفيه فترة مهمة من تاريخ القاهرة خصوصاً ومصر عامةً. ويبدو من الصعب النظر إلى نتاج المصريين الثقافي في هذا العصر من دون أن نأخذ، نحن اللبنانيين بخاصة، مسألة الفرنكوفونية بعين الاعتبار، وهي المسألة المثيرة دائماً للجدل، وللكتاب في هذا الشأن رأي أو آراء معلنة وغير معلنة جديرة بالاهتمام. أهمية هذا الكتاب مزدوجة إذاً. فهو، إذ يلقي الضوء على هذه الحقبة من تاريخ مصر، يُخرج من طيّ النسيان عدداً من الكتّاب والكاتبات باللغة الفرنسية، ويقدّم معرفةً إضافية بآخرين وأخريات ممن هم أكثر "شهرة"، أمثال إدمون جابس وجويس منصور. من ناحية أخرى، يطرح الكتاب، ومن خلال الدراسات التي يقدّمها عن هؤلاء الفرنكوفونيين، مسألة العلاقة مع اللغة الفرنسية من كونها لغة الغرب الحاملة ثقافته ورؤيته للعالم.
كيف كتب المصريون بالفرنسية وما كان تأثير ذلك عليهم كمبدعين، وعلى قرّاءهم في مصر وفرنسا؟ وأين يقع نتاجهم الآن، وهل من اعتراف حقيقي بهم في مصر وفي فرنسا؟ وما هي الإشكالية الفعلية لهذه الكتابة بلغة الآخر؟
يُقرّ روبير سولي الكاتب المصري المنشأ في المقدمة، أن الكتاب يتحدث عن "فترة من ماضٍ اندثر" إثر "تعريب التعليم" بعد تأميم قناة السويس، ومن ثم "طرد آلاف الفرنسيين المقيمين" في مصر، والذي تبعه نفيٌ لكنه طوعيٌّ في معظم الحالات لمعظم الفرنكوفونيين المصريين. غير أن هذا لا يمنع، حسب ما يقول سولي، من ضرورة القاء الضوء على ما يسمّيه بالمجتمع الفرنكوفوني "الأكثر دينامية وحياة على وجه الأرض".
هذا الموقف غير المباشر الذي يرى في الحقبة الناصرية، بما حملت معها من تعريب للتعليم وتأكيد على الثقافة القومية العربية والمصرية بشكل خاص، نهاية الدور المميّز الذي كانت تلعبه اللغة والثقافة الفرنسيتان، هذا الموقف غير المعلن، سنجد له أصداء كثيرة في الكتاب. مما يترك لدى القارىء شبه انطباع بأن الثورة المصرية لم تأتِ، من هذا المنظور، إلا بالسلبيات، ذلك أنها وضعت حداً لتلك التعددية الغنية وبالتالي لروح التبادل الثقافي والحضاري بين مصر وفرنسا أو الغرب.
وبينما ينطلق مارك كوبر من التأكيد على "الأفق" الذي "يتقاسمه" الفرنسيون والمصريون بفضل "اللغة - الأم المشتركة" !، تحاول ايرين فنغليو إظهار "دينامية" شاركت في انتاجها "عوامل ثلاث" هي : "المصراوية ژgyptianitژ والكوسموبوليتية واللغة الفرنسية"، وهي الدينامية التي أوجدت وضعاً خاصاً بمصر ما بين 1850 و1960، وعرفت أوجها في الفترة ما بين الحربين العالميتين.
في القسم الأول من الكتاب يحاول إذاً كلّ من مارك كوبر وايرين فنغليو ودانيال لانسون وعبدالقادر الجنابي وفوزية زواري رسم صورة أمينة لهذا الوضع الخاص بمصر من حيث هو "فضاء أدبي كوسموبوليتي"، شمل الحركة الإبداعية والصحافية، ونشاط دور النشر وتشكيل تيارات أدبية، وإقامة تظاهرات ثقافية متنوعة. ويتطرّق الباحثون إلى نقطتين جوهريتين في هذا الإطار، هما: - أسباب وعوامل تبلور الثقافة الفرنكوفونية، - خصوصية النتاج الثقافي الفرنكوفوني، والتي تجلّت أساساً في إنشاء صلة وثيقة بين الحداثة الغربية الفرنسية والمثقفين المصريين.
الثقافة الفرنكوفونية
مما لا شك فيه أن الإرساليات المسيحية الفرنسية، التي راحت تتكاثر مع بدايات القرن العشرين ويرجع ذلك إلى تغيير في سياستها أدّى إلى التأكيد على دورها التربوي أولاً وليس المحض ديني - تبشيري، لا شك إذاً أنها لعبت دوراً أولياً وجوهرياً في تعميم اللغة الفرنسية بين فئة ميسورة من مصريي المدن. أما الأسباب التي دفعت بتلك العائلات البرجوازية والأرستقراطية إلى إرسال أولادها إلى المؤسسات التعليمية الفرنسية، فهي متنوعة. ومن أهمها أن تلك المدارس كانت تتمتّع بسمعة جيدة، إن من حيث مستوى التعليم، وإن من الناحية الأخلاقية.
وكان لهذا العامل الأخير بالذات تأثير بالغ الإيجابية، إذ شجّع العائلات الإسلامية الميسورة على إرسال بناتهن للتعلّم في هذه المدارس، خاصة عند الراهبات حيث حُصر الجهاز التعليمي والطالبي بالإناث. هكذا ظهرت بعد مدة على الساحة الثقافية والإبداعية وجوه نسائية تتلمذت في تلك المدارس. وعلاوة على ذلك فلم يكن هناك من احتمالات كثيرة أخرى أمام هذه الفئة من المصريين التي أرادت إعطاء أبنائها فرصة لاكتساب مهارات تمكّنهم لاحقاً من تبوّء مناصب عليا في المؤسسات العامة والخاصة. عدا عن أن العائلات المسيحية وحتى اليهودية وجدت من الطبيعي تعليم أبنائها في تلك المؤسسات الدينية الطابع. وهكذا ساهمت، هذه المدارس الفرنسية وبشكل أساسي في نشوء أجيال من المصريين المنتمين إلى الطبقات الغنية خاصة تلك التي تملك ألاراضي تتعامل مع الفرنسية على أنها لغة العلم والثقافة، بل لغة نخبة مُدُنية مثقفة باتت تلتقي في الصالونات والقصور والأندية حيث أصبحت الفرنسية هي لغة الحديث. ومن أكثر الصالونات الأدبية شهرة في ذلك الوقت صالون نيللي فوشيه - زنانيري وزوجها، وصالون ماري كافاديا وزوجها الوزير ممدوح رياز.
ومن أبرز ما قامت به هذه النخبة المثقّفة، وغالباً بالتعاون مع مؤسسات وبعثات فرنسية، هو إنشاء عشرات الجمعيات، في العشرينيات والثلاثينيات، التي كان لها اهتمامات متنوعة، أدبية وفنية ورياضية واجتماعية، الخ. وكان أن أوجدت تلك الجمعيات، ومن خلال اللقاءات والنشاطات التي كانت تنظّمها، مساحة خاصة إجتمع حولها كل من كان يعتبر نفسه صديقاً لفرنسا، للغتها وثقافتها. ونذكر من هذه الجمعيات، وعلى سبيل المثال، "جمعية أصدقاء الثقافة الفرنسية في مصر" وكانت سكرتيرتها الشاعرة نيللي فوشيه - زنانيري .
غير أن ما أَطلق فعلياً الحركة الثقافية الفرنكوفونية هو إصدار عدد كبير من الصحف والمجلات الأسبوعية والشهرية، معظمها أدبية، وصارت تقوم بدورها في تنظيم تظاهرات ثقافية في شكل دائم، وخاصة على الساحة القاهرية، من مهرجانات للشعر، وتوزيع جوائز، ومحاضرات شارك فيها كتاب فرنسيون بارزون مثل جان كوكتو و هنري ميشو و أندريه جيد.
ولقد أدخل الكثير من الكتّاب المصريين الحيّز الإبداعي في هذه الدينامية الناشئة، إذ راح عددٌ لا بأس به من هذه النخبة يكتب باللغة الفرنسية، وبداية في المجلات التي أنشأوها أو ساهموا فيها، قبل أن تتشكّل حركة نشر بالمعنى الفعلي. وما يجدر ذكره أن كثيرين من الناشطين في هذا المجال الفرنكوفوني كانوا من أصول يونانية وإيطالية، ومن المسيحيين أو اليهود المصريين.
برزت، في ذلك الحين، مجلات فرنسية واللافت أن معظمها يحمل إسم مصر مثل "المصرية" L'Egyptienne التي أنشأت عام 1925 واستمرّت حتى عام 1940 تنشر نصوص الكتّاب الفرنكوفونيين، و"الأسبوع المصري" La semaine ژgyptienne التي صدرت عام 1926 وكانت تغطّي كل الأحداث الثقافية في مصر، وقد أصدرت نداءً نشرته عام 1928، وكان من بين من وقّعوا عليه الشاعر بالفرنسية أحمد راسم، يدعو إلى "تسهيل التفاهم المتبادل بين الشعوب" و"إنشاء صلة معنوية صلبة بين الشرق والغرب". أما مجلّة "مصر الجديدة" L'Egypte nouvelle فقد ساهمت في تقديم بعض الحركات الثقافية الطليعية في الغرب إلى الجمهور المصري كالبيان السوريالي، من دون أن تتخلى عن انتمائها لمصر : هكذا كتب فيها اليان فانبر مدافعاً عن الإنتماء المصري للكتّاب الفرنكوفونيين، والذي كان هو واحداً منهم، ومطالباً الشعراء منهم بالتغنّي أكثر ب"الأرض المصرية"، ذلك أن "الشعر يعبّر عن حقيقة الوطن". كما كان لحركة النشر دورها الأساسي في تسليط الضوء على النتاج الإبداعي الفرنكوفوني. وقد شهدت القاهرة نشوء عدد مهم من دور النشر المتخصصة بالكتب الفرنسية، من أهمها "هورس" و"ماس" الجماهير التي أسّسها جورج حنين وإقبال العلايلي، إبنة أحمد شوقي، وأيضاً "لا بار دو سابل" حيّز الرمل التي كانت الدار السوريالية بامتياز.
خصوصية النتاج الفرنكوفوني
عنصران أساسيان ميّزا النتاج الفرنكوفوني في مصر : أولاً انفتاحه على الحداثة الغربية، وثانياً تأرجح هويته الثقافية بين فرنسا ومصر. وبالإمكان القول أن العنصر الثاني أتى أساساً كنتيجة للعنصر الأول، إذ أدّى تأثّر المبدعين الفرنكوفونيين بالحركات الطليعية الغربية إلى نشوء هوّة بين نتاجهم والقارىء المصري، الذي لم يكن أساساً ليقرأ هذا النتاج المكتوب بالفرنسية. بهذا المعنى أشار الكثيرون من المساهمين في كتاب "بين النيل والرمل" على الطابع النخبوي للنتاج الفرنكوفوني، ذلك أنه كان يصدر بلغة غير تلك التي يعرفها الناس، ولم تكن تقرأه غالباً إلا القلّة المثقّفة، أو يُنشر ويُقرأ في فرنسا. ولا شك أن الهوّة ظهرت جليةً مع بداية تبلور الفكر القومي العربي، وتُرجم ذلك صراعات دفعت تدريجياً بالفرنكوفونيين إلى مغادرة مصر، على الرغم من أن هؤلاء كانوا وظلّوا، حتى في "المنفى"، يعتبرون أنفسهم مصريين أولاً وآخراً.
ربما جسّدت مجموعة "فن وحرية" السوريالية، التي كرّس لها الشاعر عبدالقادر الجنابي مقالته، ربما جسّدت، وعلى نحو عميق ورمزيّ، العلاقة الإشكالية مع الغرب. أنشأ جورج حنين هذه الحركة مع بعض أصدقائه أمثال الكاتب رمسيس يونان والفنانان كامل التلمساني وفؤاد كامل. وكان جورج حنين أوّل من أدخل السوريالية إلى مصر عام 1937، غير أن مجموعة "فن وحرية" لم تقدّم نفسها على أنها سوريالية بالمعنى الضيّق للكلمة، بل أراد أعضاؤها المؤسسون "التأكيد على الحريات الثقافية والفنية". هكذا عبّروا، ومن خلال مواقفهم التي قد تبدو متناقضة، عن التزامهم الأول والأخير بحرية التعبير والإبداع.
وقفت المجموعة مواقفَ ايديولوجية منتقدةً البرجوازية ومساندةً الحركات العمّالية في مصر شارك أعضاؤها مثلاً في الإضرابات، ثم عادت وانتقدت المادية التاريخية والماركسية كما الأشكال التروتسكية التقليدية في النضال، ذلك أنها رأت، وحسب ما كتب رمسيس يونان، "عجز المادية التاريخية العلمي عن وصف كل ما يقع ما وراء الحياة المنظّمة والمحدّدة تاريخياً". وتابعت المجموعة مسيرتها الفريدة والمستقلّة حتى عن السوريالية كما نظّر لها ومن ثم كما سيّرها أندريه بروتون. فانتقد جورج حنين الخط المتطرّف لمؤسّس الحركة السوريالية، مؤكداً على رفض مجموعة "فن وحرية" الجذري لكل أشكال الامتثالية أو التقيّد بالأعراف المقررة.
غير أن تجربة هذه المجموعة المتميّزة لم تترك الأثر المتوقَّع. وبرأي عبدالقادر الجنابي، فإن ذلك عائد إلى مسألة اللغة : هكذا كان يجب، حسب قوله، التعبير عن كل هذه الأفكار الطليعية باللغة العربية، ولقد فسّر الباحث عدم اكتمال نضال هذه المجموعة، بالمعنى التاريخي، في كونه مُورِس في بلد تغلُب فيه الأمية ويحتاج فيه الشعب أولاً وأساساً إلى التعليم. ولكن يؤكد الجنابي على أن أي تغيير في توجّه هذه الحركات الفرنكوفونية الطليعية كان سيؤدي بهم إلى حالة من الشيزوفرينيا.
هذه المسألة، أي إشكالية الشرخ الموجود بين الأفكار الغربية الطليعية التي حملتها النخبة الفرنكوفونية، وواقع المجتمع المصري العربي، هي من الإشكاليات الرئيسية - إن لم تكن الإشكالية الرئيسية - في كتاب "بين النيل والرمل" ، ويتطرق إليها، بشكل مباشر أو غير مباشر، كل الباحثين الذين استعرضوا الوجوه البارزة لكتّاب مصر بالفرنسية.
هل كان ذلك لأن هذه الإشكالية تفسّر غياب هؤلاء الكتاب، اليوم، عن الساحة الثقافية المصرية؟
وجوه أدبية
القسم الثاني من الكتاب عبارة عن مجموعة دراسات تستعرض وتقيّم مسار سبعة وجوه أدبية مصرية بارزة ممن كتبوا باللغة الفرنسية، هم : جورج قطاوي، ألبير قصري، جورج حنين، إدمون جابس، جويس منصور وقوت القلوب.واللافت، كما ذكر روبير سوليه في المقدّمة، أنه تّم اختيار الكتّاب الذين بدأوا مسيرتهم الأدبية في مصر، وإسْتُثنيَ آخرون، مثل الكاتبة أندريه شديد باعتبار أنها بدأت تكتب في فرنسا. وبالامكان طرح تساؤل حول هذا المعيار، إذ نتج عنه، اختيار الكتّاب الذين، وإن بدأوا نشاطهم في مصر، غادروها في معظمهم مع تبلور الحركة القومية. وكأنما أراد واضعو الكتاب التأكيد ليس فقط على تلك الفترة الذهبية للفرنكوفونية، ولكن أيضاً على أسباب اضمحلالها. بمعنى آخر، فأن ربط الفرنكوفونية المصرية بممارستها في مصر، لم يطغ عليها فقط طابع تاريخي سياسي ليس من الممكن انكاره، بل جعل من هذا الطابع عاملاً وشرطاً في تحديد أُطُرِها.
ونلاحظ، ضمن هذا "الإطار"، أن ما يجمع بين أكثر هذه الوجوه التي عرض لها الكتاب عدا كونها كتبت بالفرنسية، انتماؤها، من ناحية، إلى العائلات المصرية الميسورة، إن لم نقل الأرستقراطية، ومن ناحية ثانية إلى العائلات المسيحية واليهودية المصرية. والعنصر الآخر المشترك هو، كما أشرنا، أن أكثرية هؤلاء الكتّاب غادروا مصر في الأربعينيات والخمسينيات وتابعوا نشاطهم في أوروبا، وغالباً في فرنسا. أخيراً، فان الكثير من كُتب هؤلاء المبدعين نشرت أولاً أو حصرياً في فرنسا. غير أن من اللافت، أيضاً، حضور مصر كأرض وشعب وتاريخ وهوية في كل أعمال هؤلاء الكتّاب الفرنكوفونيين الذين ظلّوا متمسّكين بانتمائهم المصري على رغم كتابتهم بالفرنسية، وعلى رغم وجودهم بعيداً عن مصر.
وختاماً يجدر التوقف عند المسألة التي حاولنا إبرازها في معرض تطرّقنا لكتاب "بين النيل والرمل"، وهي المسألة المتعلقة بالفرنكوفونية. فمن اللافت عند معظم الفرنسيين الذين يبحثون في أعمال الكتّاب الفرنكوفونيين، وهو ما لاحظناه أيضاً في هذا الكتاب، ميلهم الشبه دائم إلى مقارنة أديب فرنكوفوني بأديب فرنسي، أو الحديث عن تأثّر الكتابات الفرنكوفونية بكتابات أدبية فرنسية، أو حتى تقليد هذا الكاتب أو ذاك أنماط كتابة أدباء فرنسيين. وهذا ما يفعله الباحثون الفرنسيون بدرجة أقل حينما يتعلق الأمر بدراسة كتّاب فرنسيين. ويتكوّن لدى قارىء "بين النيل والرمل" انطباع، هو حتماً صحيح في جزء منه، بأن معظم هؤلاء الكتّاب المصريين الفرنكوفونيين إنما كتبوا انطلاقاً مما قرأوه بالفرنسية للكتّاب الفرنسيين، فلم يتأثروا بهذه الأعمال فقط، بل حاولوا كتابة أعمال مثلها، على الأقل في بداياتهم الأدبية.
لا نسعى هنا إلى إنكار دور الأدب الفرنسي أو دور أي أدب في التأثير على أدباء العالم، ولا سيما الذين يقرأون ويكتبون بالفرنسية. وليست المسألة، فقط، مسألة نزعة وطنية أو قومية. إنما السؤال الجوهري هو : لماذا كتب هؤلاء بالفرنسية؟ وهل أن فرنكوفونيتهم هي مجرّد كتابة فرنسية ذات لون أو صبغة محلية؟ وهل لأنها كذلك لم تستطع، في الغالب، إيجاد مكانة واعتراف لها، لا في فرنسا حيث يظل الكاتب الفرنكوفوني كاتباً عربياً أو إفريقياً، الخ، أي كاتباً قومياً، يكتب بالفرنسية، ولا يُنظر إليه على أنه كاتب فرنسي ولا في بلده حيث لا يقرأه إلا قلة ممن يملكون اللغة والثقافة الفرنسيتين؟ وهل الكتابة الفرنكوفونية هي، بهذا المعنى، كتابة هجينة؟
لن نعود إلى الأسباب التاريخية التي دفعت ببعض كتّاب مصر، والتي ما زالت تدفع بآخرين، كبعض اللبنانيين، إلى الكتابة بالفرنسية. ولكن لنقل أن المسألة هذه تتعدّى، برأينا، حدود مفهوم الفرنكوفونية السياسي - التاريخي، وهو المفهوم الذي، إن عدنا إليه، قد يجيب على عدد من أسئلتنا الآنفة. إنما نود طرح الإشكالية من منظور مختلف يرى على أن الكتابة بالفرنسية هي في الأساس كتابة بلغة الآخر ولو أن الموضوع يسمح بذلك، لكنا تحدثنا عن حالات أخرى من الكتابة بلغة الآخر.
ففي نظرنا أن الكتابة بلغة غير "اللغة الأم" ولهذا التعبير دلالات كثيرة هي، في أساس ديناميتها، وعند بعض الذين مارسوها، خروج من الذات من حيث هي ذات عائلية، وطنية ، قومية، جغرافية، لغوية، وحتى جنسية أحياناً، أي هي خروج من الذات المغلقة على ذاتيتها. فهذه الكتابة بلغة الآخر تفسح المجال أمام الآخر لكي يخترق الذات التي، بدورها، تخترقه. واللغة هي من أكثر الأمكنة التي تحتمل مثل هذا الاختراق المتبادل. وما تاريخ اللغات إلا تاريخ يحمل أثر هذه الاختراقات المتبادلة. فمن يكتب بالفرنسية ليس بالضرورة مفتتناً بفرنسا كدولة وتاريخ، وإنما هو ربما مفتتن باللغة وباحتمالات اختراقها لذاته، واختراق ذاته لها. وبهذا المعنى، أيضاً، كتب المصريون، من أمثال أحمد راسم وألبير قصري، كتبوا ذاتهم بالفرنسية.
الكتاب : "بين النيل والرمل. كتّاب مصر بالفرنسية 1920-1960".
إشراف: مارك كوبر وإيرين فنغليو ودانيال لانسون تقديم: روبير سولي
منشورات المركز الوطني للتوثيق التربوي، باريس 1999


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.