فريق الرؤية الواعية يحتفي باليوم العالمي للسكري بمبادرة توعوية لتعزيز الوعي الصحي    «الصندوق العقاري»: مليار ريال إجمالي قيمة التمويل العقاري المقدم لمستفيدي «سكني»    إطلاق 3 مشاريع لوجستية نوعية في جدة والدمام والمدينة المنورة    لاكروا: الأمم المتحدة ستعزز يونيفيل بعد التوصل لهدنة في لبنان    كوريا الجنوبية تهزم الكويت بثلاثية    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    حسابات منتخب السعودية للوصول إلى كأس العالم 2026    رسميًا.. رانييري مدربًا لسعود عبد الحميد في روما    القبض على 3 إثيوبيين في نجران لتهريبهم 29,1 كجم "حشيش"    تبرعات السعوديين للحملة السعودية لإغاثة غزة تتجاوز 701 مليون ريال    إجتماع مجلس إدارة اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    انطلاق فعاليات المؤتمر السعودي 16 لطب التخدير    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة إلى 43736 شهيدًا    وزير الإعلام يلتقي في بكين مدير مكتب الإعلام بمجلس الدولة الصيني    مركز الاتصال لشركة نجم الأفضل في تجربة العميل السعودية يستقبل أكثر من 3 مليون اتصال سنوياً    المروعي.. رئيسة للاتحاد الآسيوي لرياضات اليوغا    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في شهرين مع قوة الدولار والتركيز على البيانات الأمريكية    أمير الرياض يستقبل أمين المنطقة    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في «stc»    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرأس اجتماع الدورة الخمسين للمجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    بإشراف من وزارة الطاقة الشركة السعودية للكهرباء توقّع مذكرة تفاهم لتعزيز التكامل في مجال الطاقة المتجددة والتعاون الإقليمي في مؤتمر COP29    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    ا"هيئة الإحصاء": معدل التضخم في المملكة يصل إلى 1.9 % في أكتوبر 2024    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    رقمنة الثقافة    الوطن    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    عصابات النسَّابة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    أجواء شتوية    مقياس سميث للحسد    الذاكرة.. وحاسة الشم    تكريم الفائزين بجائزة الأمير سلطان العالمية للمياه في فيينا    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استقبال الغرب في النقد العربي الحديث . مسألة العالمية واتساع المشاركة وعلاقة المنهج بالنمو الفكري 2 من 3
نشر في الحياة يوم 01 - 12 - 2003

مفهوم "رؤية العالم" لدى غولدمان مكون أساسي في البنيوية التكوينية، أو التوليدية كما يفضل جابر عصفور أن يصفها، والتي تفرعت عن البنيوية، والبنيوية هي المثال الذي اختاره عصفور في مقالته "تسمية النظرية" لإيضاح وجهة نظره حول طبيعة النظرية. فهو يشير الى ان البنيوية كانت "ثمرة جهود فردنان دي سوسير وتلامذته في جنيف في العقد الأول من هذا القرن، وجماعة الشكليين الروس في موسكو في العقد الثاني من هذا القرن"، الى غير ذلك من مصادر لا تتعدى المحيط الأوروبي الأميركي، ليستنتج من ذلك أن "النظرية البنيوية" لا يمكن نسبتها الى شخص واحد أو الى قطر واحد أو الى قومية واحدة أو نظام سياسي، لأنها تجاوز ذلك كله من حيث هي صياغة صورية مشتركة، أحالها الجهد الجمعي في تجريدها الفكري الى أفق عالمي من آفاق العلم الإنساني، تسمية النظرية، مرجع سابق، ومع ان عصوفر يؤكد بعد ذلك ان البنيوية مثل غيرها من النظريات يمكن أن ترفض أو تقبل أو تعدل، فإن ما يظل يتحدث عن عالميتها على نحو يناقض ما يورده من أمثله. صحيح ان البنيوية لا تنتسب الى قطر أو قومية أو شخص، لكنها تنتسب الى تشكيل حضاري أو ثقافي محدد، والى سياق تاريخي محدد أيضاً، لِم لَم نقرأ حتى الآن اسهاماً يابانياً أو صينياً أو عربياً واحداً في تاريخ تطور تلك النظرية؟ أمثلة عصفور كلها من أوروبا وأميركا، أي من أفق ثقافي ومعرفي متجانس، هو الأفق الغربي، مما يجعلها تؤكد مصداقية القول بتحيز النظرية وخصوصيتها أكثر من دعوى العالمية التي يذهب اليها.
مسألة العالمية من المسائل التي تثار كثيراً في الثقافة العربية عموماً وفي النقد العربي الحديث ضمن تلك الثقافة في ما يتصل بالنظريات والمناهج الغربية، وهي، مثل مسألة "العلم" أو "العلموية"، مسألة فقدت الكثير من صدقيتها في الفكر النقدي المعاصر، سواء لدى الغربيين أو لدى بعض الباحثين غير الغربيين من عرب وغيرهم، نتيجة لعوامل عدة، منها ما وجه اليها من نقد على أساس انها تقوم على تمركز أوروبي/ غربي لم يعد بالقوة التي كان يتمتع بها أثناء فترات السيطرة الاستعمارية الغربية، ومنها ظهور اسهامات من المناطق التي سبق استعمارها استطاعت أن تزيح ذلك التمركز بإثارة قضايا تمس العالم غير الغربي. وقد أشار جابر عصفور، ضمن آخرين من النقاد العرب، الى هذا التحول. فهو يؤكد محقاً في احدى مقالاته "اتساع دوائر المشاركة النقدية على امتداد العالم كله، ودخول المزيد من نقاد العالم الثالث في علاقات انتاج النقد الأدبي، ومن ثم عمليات توزيعه واستقباله في مداها العام. وذلك على النحو الذي أحال المشهد العالمي للنقد الأدبي الى مشهد مزاح المركز بأكثر من معنى. "جابر عصفور"، "الحياة" الاثنين 6 تموز/ يوليو 1998، غير ان السؤال هنا: هل كان ما وجه من نقد وما تطور من حركت نقدية عالمثالثية في توجهها، أو في مصدرها، مثل النقد ما بعد الكولونيالي أو ما بعد الاستعماري، كافياً بالفعل لزحزحة التمركز الغربي الى الحد الذي يجعل المشهد النقدي المعاصر عالمياً بحق.
ما حدث في المشهد النقدي هو اتساع دائرة المشاركة فعلاً، ولكن على مستوى الاستهلاك واعادة الانتاج أكثر منه على مستوى الانتاج الخلاق أو المستوعب للاختلاف الثقافي. ولم يكن ذلك في العالم العربي فحسب، كما يلاحظ جابر عصفور، حين ينتقد "ممارساتنا النقدية العربية" من حيث هي لا تظهر سوى "نقل المفاهيم والنظريات، وعرضها عرضاً يغلب عليه الانبهار الذي لا يعدو أن يكون نوعاً من أنواع المباهاة بمسايرة أحدث صراعات العصر وصيحاته. فالنقد، بل النشاط الثقافي بمجمله، في كثير من دول العالم، وحتى بين أولئك الذين يقصدهم عصفور بوصفهم نقاداً من العالم الثالث استطاعوا زحزحة التمركز الغربي، ظل غارقاً الى حد كبير في النموذج الثقافي الغربي بمفاهيمه واستراتيجياته، متحيزاً بتعبير آخر ومغترباً عن ذاته الممكنة.
يقول الكاتب الياباني كنزابورو أوي، الحاصل على جائزة نوبل للأدب سنة 1994، ان المشهد الفكري والنقدي في اليابان ما يزال منذ عقود أسير الطروحات الغربية التي تأخذ شكل الموضات السريعة في القدوم والزوال. ولم يكن ذلك في قراءة الثقافات الأخرى فحسب، وانما أيضاً في قراءة الثقافة الثقافة اليابانية نفسها. ففي اشارته الى مدرسة الكتّاب اليابانيين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية يصل أوي الى ان "منهجهم في الغوص في الفكر والثقافة اليابانية التقليدية كان أيضاً أوروبياً..." Kenzaburo Oe, Japan, the Ambiguous, and Myself Tokyo: Kodansha International، وكان من نتائج ذلك انه "باستثناءات قليلة، لم يستطع اليابانيون أن يؤسسوا نظرية ثقافية خاصة بهم، وعلى رغم ما أثارته النظريات المستوردة من الخارج من حماسة، فإنها لم تكن ذات صلة باليابان، على النحو الذي يتضح من حقيقة أنها تبدو الآن بنفس القدر من البعد والغرابة التي بدت بها عندما جاءت في البدء". المرجع السابق.
نقد لما بعد الحداثة
شهادة أخرى تأتي من الناقد الهندي اعجاز أحمد في كتابه الشهير في النظرية أو من الناحية النظرية، حيث يوجه نقداً صارماً للتوجهات ما بعد الحداثية وما بعد البنيوية، لا سيما حين يتبناها نقاد ينتمون الى آسيا أو افريقيا ويعملون في الغرب. فهو يتهم أولئك بالانطلاق من منطلقات غربية في أسسها ليتحدثوا باسم مناطق من العالم ما تزال بعيدة عن اطروحات فوكو وديريدا ولاكان وغيرهم من أساطين الفكر الغربي المعاصر وممن يتظلل بهم أولئك النقاد في مشاريع غير مستوعبة للواقع السياسي والاقتصادي والثقافي للمناطق والثقافات التي كثيراً ما يتحدثون باسمها، ومن الذين ينتقدهم أحمد بشدة ادوارد سعيد والهندي الأصل هومي بهابها الذين يشاركون في تشكيل ما عرف ب"النظرية" النقدية في الغرب حيث يمثل أولئك حضوراً بارزاً ومؤثراً لا سيما في مجال نقد الاستعمار والخطاب ما بعد الاستعماري. يقول أحمد ان كتابه "يبرز انكساراً في التشكيل النظري القائم من الناحيتين المنهجية والامبيريقية"، كما انه يطرح "طرائق بديلة في التحقيب التاريخي لالتقاء النظرية الأدبية بغيرها من أنواع النظريات وبالعالم الذي تقدم تلك النظريات معرفته". Aljaz Ahmad, In Theory: Classes, Nations, Literatures - London; Verso, 1992، يتخذ أحمد، بتعبير آخر، موقعاً خارج التشكيل النظري الغربي لينقده ويقيس مدى ابتعاد بعض من يعملون من خلاله ممن ينتمون على نحو ما إلى العالم غير الغربي عن الواقع الثقافي والفكري لذلك العالم المعروف بالثالث. على ان هذا التموضع خارج السياق الغربي ليس تاماً، كما تنبغي الإشارة، فأحمد ناقد ماركسي في نهاية الأمر، اي منضو تحت لواء آخر من ألوية الفكر الغربي، وما يزعجه في نهاية المطاف، ضمن اشياء اخرى طبعاً، هي الكيفية التي تُتناول من خلالها الماركسية في سياق المجتمعات الرأسمالية الغربية.
غير ان من الضروري ان نعترف بأن النقد الذي يوجهه إعجاز احمد يظل في النهاية اكثر تركيبية وتجاوزاً لما نحن مضطرون للانشغال به في عالمنا العربي، فنحن مشغولون، كما هو واضح من هذه المناقشة، بمسائل اساسية، بما اذا كان هناك اختلاف ثقافي يبرر الاختلاف المنهجي والحاجة من ثم الى قدر من الاستقلال المعرفي والفكري. إننا نتحاور في مرحلة اختراع العجلة او ما بعدها بقليل، لأن ما يزال بيننا من يظن ان هناك ثقافة انسانية صالحة لكل زمان ومكان، وأن هناك علماً كونياً او عالمياً وأن ما يسمى العلوم الإنسانية هي بالفعل علوم بالمعنى الحرفي، اي مجالات بحث منضبطة تمام الانضباط ولا محل فيها للاختلاف بين عربي وأعجمي، وأنها من ثم ليست بحاجة الى اي جهد لكي تقترب من ذلك النموذج حتى وإن طال الزمن. يقول صلاح قنصوه، وهو مختص بعلم الاجتماع، انه قد يمر زمن طويل "حتى تصل العلوم الإنسانية الى ما ينبغي ان تبلغه من موضوعية ودقة"/ الموضوعية في العلوم الإنسانية - بيروت: دار التنوير، 1984. بتعبير آخر، يغيب عن اولئك ان العلم ابن الثقافة التي يولد فيها، وأنه على رغم وجود ثوابت ووقائع في العلم لا شبهة في صحتها وأن تلك الثوابت والوقائع الصحيحة من المشتركات الكثيرة على مستوى المعرفة الإنسانية في كل مكان، فإن هناك الكثير مما ليس مشتركاً وكونياً، وليس كل ما يسمى "علماً" يتسم بدقة العمليات الحسابية وانضباطها. يقول عالم الكيمياء البلجيكي/ الروسي الشهير إليا بريغوجين، الذي فاز بجائزة نوبل للكيمياء سنة 1977، في كتابه التحالف الجديد 1979: "أضحى من الملح على العلم ان يعتبر نفسه جزءاً لا يتجزأ من الثقافة التي تطور بين احضانها". Ilya Prigogine, La nouvelle Alliance. Paris: Gallimard, 1979 انظر: المهدي المنجرة: "الالتحام بين العلم والثقافة مفتاح القرن الحادي والعشرين"، الثقافة والمثقف في الوطن العربي - بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة "كتب المستقبل العربي 1993. اما المفكر والعالم الفرنسي ميشيل فيعبّر بحدة اكبر عن ضيقه من تجاهل العلم لسياقه الثقافي فيقول: "لتنسلخ المعرفة العلمية من غطرستها، ولتسلخ رداء عظمتها الكنسي المزين، ولتدع عدوانيتها الحربية، وادعائها الحاقد بأنها دائماً على صواب..." المرجع السابق.
في مقابل ذلك نجد الناقد العربي ما يزال مسكوناً بهاجس العالمية في المعرفة والممارسة النقدية، من ناحية، وبانتماء تلك المعرفة الى العلم المنضبط والموضوعي، من ناحية اخرى. وفي ما يلي بعض الأمثلة، التي سأعلق عليها:
1- يقول صلاح فضل في رده على تهمة التبعية: "عندما يتم تمثلنا لحركة التطور العلمي والمنهجي العالمية، وليست الغربية فحسب، بمثل هذا العمق والاستكمال وممارستنا التطبيقية تأخذ هذه الروح اي النهج الإبداعي لا الاتباعي، تصبح فكرة التبعية غير واردة على الإطلاق، لأن التبعية تعني ان تأخذ نموذجاً وتحتذيه بطريقة ذليلة، عاجزة وتقصره على الواقع من دون ان تكيفه معه. وكما قلت من قبل لا أظن ناقداً واحداً يعتد به لا يأخذ هذا الموقف مجلة القاهرة - آذار/ مارس 1996.
2- يقول كمال أبو ديب في مقدمة كتابه "في الشعرية"، متحدثاً عن الغوغائية الإيديولوجية والشعاراتية التي تطغى على الثقافة العربية: في هذه اللجة ينتصب الآن الفكر الملتزم بعمق بقضايا هذه الثقافة والمجتمع ومصيرهما، الباحث بجهد لا يني وبجدية لا تهادن، منطلقاً من تأسيس منهجي وعلمي صارم من رؤية تنصهر فيها قيم الحرية الفكرية المطلقة والبحث الدائب بوعي عميق للطبيعة الجدلية للعلاقة بين المكونات الأساسية للبنى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولكن هذه العلاقة دائماً اكثر خفاء وحاجة لمنهج نقدي قادر على الغور والتقصي اكثر مما تفترضه العقائدية الفجة او الشخصانية المتلذذة".
سأعود الى ما يقوله كمال ابو ديب بعد ان اقف عند كلمات صلاح فضل.
مايقوله فضل يقوم على تصور يكون فيه الناقد عميقاً ومستكملاً لمنهجه وأدواته، وبعيداً عن احتذاء النموذج "بطريقة ذليلة"، ولكي يثبت صحة ما يذهب إليه يلجأ فضل الى ما يلجأ إليه جابر عصفور، كما رأينا من قبل، اي الى مقولة ان الناقد الحقيقي، او الذي يعتد به، وهو ناقد افتراضي ومثالي بالطبع، لا يقع في ورطة الاحتذاء او البلبلة المنهجية، "لا أظن ان ناقداً واحداً يعتد به لا يأخذ هذا الموقف" ويذكر امثلة من طه حسين ولويس عوض ومحمد مندور وعلي الراعي بوصفهم نقاداً "كانت لهم قدرتهم على الاستيعاب والتشكيل والتكوين، ولهم اضافتهم الحقيقية". والحق ان هؤلاء حققوا الكثير من الاستيعاب المنهجي والاستقلالية الفكرية في تعاملهم مع الغرب وغير العرب، لكن المسألة ليست هنا، إنها في ما اذا كانوا حقاً قد تجاوزوا كل المعضلات وحققوا الصورة المثالية التي يرسمها صلاح فضل، فهو يتحدث عن ناقد متجاوز لإشكاليات المثقافة، قادر على تحقيق قدر غير مسبوق وغير واقعي اصلاً من الاستقلالية. ويكفي ان نتذكر ما يقوله ج. هلس ملر عن تجربته النقدية وعن رؤيته لإشكاليات المثاقفة، مما جاء ذكره ضمن هذه المناقشة.
حيرة الناقد العربي
اهم من ذلك، تمكن العودة الى ما سجله بعض النقاد الذين يستشهد بهم فضل. فقد كانت البلبلة او الحيرة النقدية جزءاً من تجربة لويس عوض في تطوره النقدي كما رأينا في بداية مناقشتنا هذه، وليس من الواضح انه قد تخلص من كل تلك الحيرة التي لاحقت كثيرين غيره. اما بشأن النقاد الآخرين فهم جميعاً، باستثناء علي الراعي، ممن يتناولهم هذا الكتاب ويبرز ما اعترى تجاربهم النقدية من مشكلات. ولعل من الطريف ان صلاح فضل نفسه قد توقف امام بعض المشكلات الأساسية التي تواجه النقاد العرب في العصر الحديث، وفي طليعتها مشكلة المناهج او المذاهب الغربية الحديثة، فرأى رؤية مغايرة تماماً لما ذكره هنا، ففي معرض حديثه عن المذاهب المشار إليها وجد فضل اننا عندما اخذنا في التعرف على هذه المذاهب النقدية، وخضع بعضنا لتأثيرها، فقدت اهم سمتين لها، وهما تجذرها في الواقع الحضاري المباشر، استجابة لتطوره الداخلي ومعطيات ذاكرته التاريخية، كما فقدت عنصر التعاقب في خط زمني مستقيم، فعلقت امشاجها بنا دفعة واحدة، وتحولت من مذاهب تعتمد على مرتكزات فلسفية متكاملة ومبادئ نظرية متنامية الى بعض الاختراقات الفردية، والنزعات المحددودة الأثر، وعملت كلها متزامنة على إعادة ترتيب مجالنا الأدبي وتوجيه انتاجنا. "اشكالية المنهج" في النقد الحديث - المحاضرات/ جدة: النادي الأدبي الثقافي، 1988.
هنا يلتقي فضل مع الأميركي ملر وإدوارد سعيد في تحديد طبيعة المشكلة التي تواجه الناقد مثلما تواجه المنتجات الثقافية كالمناهج والنظريات في سعيها للعبور من منطقة الى اخرى، غير ان الفارق هو في ان كلام فضل يظل في حدود العموميات وبعيداً من التجارب الشخصية او المعينة لا سيما البعد المستقى من تجربة الناقد نفسه، كما عند الناقد الأميركي.
ان المشكلات التي تواجه الناقد العربي، وغير العربي، في محاولته الإفادة من النقد الغربي ليست محصورة بالطبع في المناهج، وإنما هي مواجهة متعددة الجبهات، وهي في كل مظاهرها، سواء اتخذت مظهر الحيرة المنهجية او التوظيف غير الدقيق للمصطلحات او سوء فهم ما يسعى الناقد الى توظيفه من منهج او مصطلح او غيره، لا تعني بالضرورة او في كل الحالات ضعفاً لدى الناقد، بل هي في بعض الأحيان جزء طبيعي من عملية النمو الفكري والوصول الى قدر اكبر من النضج. وإذا كان ذلك القدر الأكبر من النضج لا يصل الى الوضع المثالي من الكمال الذي يتصوره صلاح فضل في مقولته الأولى المشار إليها، فإنه في الوقت نفسه لا يلغي نقاط الضعف والمآزق التي مر بها الناقد او المفكر في تاريخ تطوره مما يصير جزءاً من تاريخ الثقافة وسماتها في مرحلة معينة، على النحو الذي يشير إليه فضل مرة اخرى في مقولته الثانية. وإذا كان بعض النقاد والمفكرين العرب رأوا ان من الأهمية ان يقفوا بأنفسهم وقفة علنية عند ما اعتور عملهم من مشكلات او ضعف، كما رأينا عند لويس عوض، فإن ذلك دليل آخر على تميز اولئك بالصدق والسعي الجاد الى مزيد من النضج، على عكس من غفلوا عنها او كابروا فرفضوا وقوعهم فيها حين اشار إليهم غيرهم. وفي تاريخنا الثقافي العربي المعاصر الكثير من الأمثلة من هذين الفريقين.
من الأمثلة الأخرى البارزة في هذا السياق زكي نجيب محمود الذي عرف في الشطر الأكبر من نشاطه الفكري والنقدي بوصفه مفكراً يعرّف بالفلسفة الوضعية الغربية شارحة ومحللاً ومترجماً، مثلما عرف بنشاطه النقدي الأدبي. وفي تقديمه لكتاب تجديد الفكر العربي 1971 وقف محمود وقفة مراجعة جذرية إزاء نشاطه الفكري والنقدي ورأى انه قد ابتعد كثيراً من الطريق التي كان يفترض ان يسير فيها. فدراسته وتدريسه للفكر الأوروبي أعواماً طوالاً كما يقول جعلته جاهلاً بالتراث العربي: "الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، والفكر الأوروبي تدريسه وهو أستاذ، والفكر الأوروبي مسلاته كلما اراد التسلية في اوقات الفراغ، وكانت اسماء الأعلام والمذاهب في التراث العربي لا تجيئه إلا أصداء مفككة متناثرة، كالأشباح..." ثم كان بعد ذلك ان "اخذته في اعوامه الأخيرة صحوة قلقة، فقد فوجئ في انضج سنيه، بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة، ليست هي: كم اخذنا من ثقافات الغرب وكم ينبغي لنا ان نزيد، اذ لو كان الأمر كذلك لهان، فما علينا عنذئذ إلا ان نضاعف من سرعة المطابع، ونزيد من عدد المترجمين..." المشكلة، كما اتضح لمحمود بعد تلك السنين هي "كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا او نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا او نفلت منها؟" تجديد الفكر العربي - بيروت: دار الشروق، 1973 - انظر ايضاً اسامة الموسى في كتابه المفارقات المنهجية في فكر زكي نجيب محمود - جامعة الكويت 1997.
هنا - وبغض النظر عن الموقف الذي قد نتخذه إزاء ما يقوله الكاتب عن نفسه او ازاء عطائه الفكري والنقدي بشكل عام - نحن امام موقف يدعو الى الإعجاب لما فيه من صراحة والتقدير لما تعبر عنه تلك الصراحة من صدق وبحث عن الحقيقة على نحو يذكر بالمواقف الاعترافية المبثوثة سواء في تراثنا العربي الإسلامي، كما لدى ابي حامد الغزالي، او في التراث الغربي، كما لدى ديكارت او روسو في بحثهم عن الحقيقة، لكن المحصلة النهائية هي تواري الصورة الواثقة التي تلمع في أحاديث بعض النقاد العرب عن بلوغ الثقافة العربية مرحلة لا يأتيها القلق من بين يديها ولا من خلفها.
* كاتب سعودي أستاذ في جامعة الملك سعود. والنص مقدمة لكتاب جديد له في عنوان "استقبال الآخر: الغرب في النقد العربي الحديث" يصدر قريباً عن المركز الثقافي العربي في بيروت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.