يقدم كتاب "دليل الناقد الأدبي" للباحثين السعوديين ميجان الرويلي وسعد البازعي المركز الثقافي العربي 2002 أنموذجاً متميزاً للمكتبة العربية. يظهر ذلك من خلال التلخيص والتعريف بما يزيد على خمسين مصطلحاً عالمياً في فضاء الأدب ومدارسه النقديّة. إنّ علاقة الأدب بالنقد علاقة جدليّة. فلولا النقد، مهما كان المنهج المتبع، لا يتطور الأدب، ولا يرتقي الى مطاف المعاصرة، لكي يوظف في خدمة الحياة. فأصبح الإنسان، في الحقبة الراهنة، جزءاً من عالم واسع محكوم بتقنيّة التواصل الكوني. لذلك، إن حركة الناقد متلاصقة بالفضاء الكوني، كما هي حركة الأديب. فالأدب والعلم لا يعرفان الحدود السياسيّة ولا يلتزمان بها لأن حركة الذهن الإنسانيّ لا يمكن أن تحصر أو تطوق في الأطر القانونية - السياسيّة. فالكوكب يقترب أكثر وأكثر لأن يكون قريةً كونيّة واحدة. لذلك، ان التفاعل الثقافي بين البشر كان ولا يزال أقنوماً يحكم تطور العقل في أطره الوطنية والقومية والإنسانية. في ضوء ما تقدم يطرح المؤلفان موضوع التفاعل العربيّ مع النقد الغربيّ المعاصر بمناهجه المختلفة. لذلك، نلاحظ اختيار الاتجاه الشكلاني والاتجاه الاجتماعي الواقعي يتحكمان بمضمون الكتاب. وفي هذا السياق يستحضران المنهج البنيوي بفرعيه الشكلاني والتكويني، أو التوليدي الذي يمثّل امتداداً للاتجاهين المشار اليهما. ولا بد من الإشارة الى تداخل معظم الاتجاهات النقديّة لأنهُ من الصعوبة بمكان أن يتمّ عزل الناقد ذهنياً ونفسياً عن مؤثرات الاتجاهات النقديّة في كيفية احياء النص وتحليله وتفكيكه. فالواقعية مثلاً تتناسل مع الواقعية الاشتراكية، ومع النقد الاجتماعي وبالتالي مع النقد العقائدي الايديولوجي. وتصحيحاً لمفهوم النقد يشير الكتاب الى أن بعض النقاد فهموا حركة النقد في ضوء الصراع بين القديم والجديد، أو بين الكلاسيكية والحداثة. إنَّ هذا التقسيم يتقارب مع التقسيم العقائدي - السجالي الذي يخدم تقويم أحد الفريقين لذاته وللآخر. ويشير الكتاب إلى أنّ بداية التفاعل العربي مع النقد الغربي كانت في منتصف القرن التاسع عشر. فالحركة النقديّة العربية، كما يراها المؤلفان، آنذاك، هي سليلة ثقافتها التي لم تكن منعزلة عن المؤثرات الغربيّة النهضويّة. لذلك يستحضران التراث العربي الإسلامي المتفاعل مع الثقافة الغربية. إنّ طرح التأريخ وحصره مع الإشارة الى تفاعل التراث العربي مع الغرب من دون العودة الى آراء ابن جني في الخصائص، أو الى الجاحظ يترك فراغاً موضوعيّاً نتوخى تجنبهُ في طبعة جديدة أكثر تفصيلاً، وأكثر أصالة. هذا لا يعني أنّ الأصالة يجب ان تكون معزولة عن سياقها المتفاعل مع الفكر العالمي. ولا أحد ينكر أنّ هذا التفاعل أنتج فكراً نهضوياً معاصراً انطلاقاً من النصف الثاني للقرن التاسع عشر. ومن المعلوم أنه منذ نهايات هذا القرن بات الاهتمام الإحيائي بالدراسات الأدبيّة مظهراً طبيعياً. ومنذ ذلك الحين، بدأت تظهر الدراسات البلاغية الى جانب الدراسات في النقد والأدب. ويمكن استحضار أبرز الأعمال في هذا المجال مثال "الوسيلة الأدبية الى العلوم العربيَّة" 1897 لحسين المرصفي، و"فلسفة البلاغة" 1899 لجبر شموط، و"منهل الروّاد" 1907 لقسطاكي الحمصي، و"تاريخ علم الأدب" 1904 لروحي الخالدي. ورأى الناقد "محمود أمين العالم" أنّ هذه الكتب تتضمن ثلاث سمات: تجديد العلاقة بالتراث من خلال الإحياء، وبروز الأنا - الذاتي الاجتماعي الوطني والقومي، والاهتمام بالوجدان حيث أصبح هذا البند أساساً لمدرستي "الديوان" و"أبولو" الشعريتين. أمّا النقد العربي المتأثر بالوافدِ الينا، والمتفاعل معه، فقد تأسس من خلال مراحل عدّة أبرزها: مرحلة النقد الأكاديمي التي بدأت مع "أحمد ضيف" الذي يعدُّ بحق مؤسس فكرة التقابل بين التراث العربيّ "القديم" والثقافة الأوروبية "الحديثة". والمرحلة الثانية هي مرحلة الاتجاه الرومنطيقي الذي تمثل بمدرسة الديوان مع عباس محمود العقاد وإبراهيم المازني وعبدالرحمن شكري. وتأتي مرحلة الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين الأكثر تطوراً من سابقاتها. فبرزت أسماء جديدة في فضاء النقد العربي أمثال "سيد قطب" قبل انصرافه الى التأليف الإسلاموي بعد 1848، ثم "محمد مندور" الذي لا يزال حضوره النقديّ ماثلاً أمام دارسي الأدب. أمّا مرحلة الستينات حتى يومنا هذا فاتخذت اتجاه الترجمة والتعريب عن النقاد الأميركيين أمثال ستانلي هايمن، دايفيد ديتشز، كولينجوود، بعض كتب فرويد ذات الصلة، وما ترجمه روجيه غارودي عن ماركس في نظرياته المادية التاريخية. عرفت هذه الحقبة تزايد الاهتمام بالتمذهب النقدي وبالمنهجية الى حدٍ لم يعرفه النقد العربيّ من قبل. وفي الاتجاه الواقعي - الاجتماعي النقد الماركسي تبرز أسماء محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس وحسين مروة وغيرهم. ولا يفوت المؤلفان ذكر اتجهات مثل "الشكلانيَّة" رشاد رشدي، و"البنيويّة"، و"البنيوية الشكلانية" و"البنيوية التكوينية"، والمنهجية التفكيكية. ولا بدّ من التنويه بقيمة الكتاب وأهميته وبالجهود المبذولة حتى وصلنا الى ما هو عليه. لكن لا بدّ من الدعوة الى تضافر جهود الحركة النقديّة العربية المشتتة بين مصر والمغرب والمشرق العربي لتظهير الحركة النقدية العربية في حلة جديدة تأخذ في الاعتبار اشكالية الأصالة والحداثة الغربيّة الوافدة. ألم يحنْ الوقت، بعد، لانجاز مقاربةٍ لنظرية نقدية عربيّة انطلاقاً من المخزون الثقافي الكبير في ضوء التفاعل مع المدارس النقدية الغربية؟ ان مؤتمراً ثقافياً قومياً قادرٌ على إحداث حفرةٍ في العقل العربيّ لوضع الحجر الأساس لهذا المشروع.