الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    وزير الرياضة يوجه بتقديم مكافأة مالية للاعبي فريق الخليج لكرة اليد    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    إطلالة على الزمن القديم    أرصدة مشبوهة !    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    فعل لا رد فعل    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    العوهلي: ارتفاع نسبة توطين الإنفاق العسكري بالمملكة إلى 19.35% مقابل 4% في 2018    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الشاعرة مها العتيبي تشعل دفء الشعر في أدبي جازان    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    الصقور السعودية    «المسيار» والوجبات السريعة    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    استهلاك عدد أقل من السجائر غير كافٍ للحد من الأضرار التي يتسبب بها التدخين    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحولات قرن عربي: من خريف النهضة إلى ثورة الحداثة . النقد الأدبي شهد عصره الذهبي : رواد ومحدثون يتوزعون عبر أجيال ثلاثة 6
نشر في الحياة يوم 24 - 12 - 1999

إذا أردنا أن نستطلع المشهد الجامع للنقد الأدبي عند مفترق القرنين علينا أن نتذرع بلون من التاريخية الجديدة، التي أخذت تتشكل ضمن التيارات المحدثة في الفكر الأدبي، وتعتمد بعض المقاييس الكمية والمؤشرات النوعية، لتقيس مدى ازدهار الانتاج الثقافي عامة، والإبداعي خاصة في الحياة الأدبية، وارتباطه الجذري بعصبه الحساس المتمثل في النقد الأدبي، باعتباره البؤرة الجامعة لعدد من الدوائر المحيطة به، والمنداحة في مختلف مظاهره العقلية والإبداعية.
وربما كانت القراءة التاريخية لأعداد المتخصصين وأنماط كتاباتهم النقدية من ناحية وتصنيف موجاتهم المتداخلة وأجيالهم المتتابعة من ناحية ثانية أن تعتبر المدخل الصحيح لتشكيل هذا المشهد وتحليل خطوطه الأساسية. وقد كان لدى الباحثين انطباع عام مبهم بأن مفصل القرنين الثالث والرابع الهجريين يمثل العصر الذهبي الأول للثقافة العربية، خاصة في الانتاج الأدبي والنقدي، من دون أن يقدم دليلاً ملموساً على ذلك. وقد أتيح لي بصفة شخصية خلال الإسهام في التحضير لموسوعة أعلام العلماء العرب والمسلمين التي تعدها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أن أتبين المشهد بتفاصيله الاحصائية الدقيقة، فقد أخذت في إعداد القوائم المبدئية لعدد النقاد العرب في كل العصور حتى من رحلوا قبل نهاية القرن العشرين، وكانت أمامي ثلاث مفاجآت بارزة:
أولها: أن عدد المشتغلين بنقد الأدب ودراسته وتحليله وتقييم مستوياته أقل بكثير مما كنا نتوقع، فقد اتفقنا على أن نقتصر في المرحلة الأولى على أكبر الأعلام في النقد الأدبي والبلاغة وعلوم الأدب، بحيث لا يزيد كل فرع من هذه الأفرع الثلاثة عن مئتي اسم قد نكملهم فيما بعد بمن يليهم في الأهمية، وكانت دهشتي بالغة لأن عدد النقاد في كل العصور لم يتجاوز المئة إلا بقليل - مئة وعشرون تحديداً - مع التسامح في اعتبار بعض المؤلفين نقاداً وهم غير محسوبين في زمرة من يعتد بإنتاجهم النقدي.
وثانيها: أن 25 في المئة من هذا العدد قد تركزت تواريخ وفاتهم في القرن الرابع الهجري و25 في المئة منهم في القرن العشرين، والنصف المتبقي يتوزع على مدى ثلاثة عشر قرناً من الزمان، ومعنى ذلك من الوجهة الكمية أن هناك عصرين ذهبيين للنقد الأدبي، هما القرن الرابع الهجري والعشرون الميلادي تكثقت فيهما نسبياً أعداد النقاد وتعددت مؤلفاتهم في دراسة الأدب وظواهره المختلفة.
ثالثاً: قد يكون هناك عوامل ارتباط منتظم بين الإبداع الأدبي والكتابة النقدية، فكلتا الفترتين قد شهدت أيضاً كبار شعراء العربية وكتابها المؤثرين في حركتها الثقافية العامة، وإن كانت خارطة توزيعهم زمنياً تقدم بعض المغايرات الواضحة عن نظيرتها النقدية، لكن توهج الفكر الأدبي بجناحيه الإبداعي والتحليلي يقدم جديلة محكمة مسبوكة.
ويمكن توزيع القرن العشرين نقدياً على ثلاثة أجيال، تناوبت أداء رسالتها خلاله، وتعددت اتجاهاتها بطوله، وقدمت عطاءها عبر تحولاته الكبرى، وليس من الضروري أن يكونوا جميعاً قد ولدوا فيه أو رحلوا خلاله، بل لا بد للأول منهم أن يكون قد ولد قبله، وللأخير أن يكون مستمراً في الوجود بعده، فهذا هو منطق الأجيال الطبيعي.
جيل الأساتذة
وهو جيل الرواد الذين ولدوا حول العقد الأخير من القرن الماضي، حيث شهد عام 1889م على وجه التحديد مطلع معظمهم: طه حسين، عباس محمود العقاد، ميخائيل نعيمة. وقبلهم بقليل ولد عبدالرحمن شكري وأحمد أمين، ومن بعدهم جاء ابراهيم عبدالقادر المازني وزكي مبارك وأمين الخولي. وربما كان عقد العشرينات من هذا القرن هو الذي شهد انبثاق توهجهم الفكري، فقد صدر فيه كتاب الديوان للعقاد والمازني - 1921 - والغربال لميخائيل نعيمة عام 1923، وفي الشعر الجاهلي لطه حسين عام 1926، ومن قبل ذلك مقدمات شكري لدواوينه، وغيرها من الأعمال التي أسست لمنظور نقدي جديد في الأدب والثقافة، اعتمد على إعادة قراءة التراث الإبداعي في ضوء التيارات المنهجية الحديثة، ووضع المخططات الأولى لتاريخ الأدب العربي، بإبراز أقوى نماذجه وشخصياته، وارتياد آفاق الأجناس الأدبية المحدثة إبداعياً ونقدياً في القصة والرواية والمسرح، وقبل ذلك توظيف الأدب والنقد لديناميكية النهضة العربية، باعتباره حاملاً رسالة في التقدم الثقافي والاجتماعي، وصاحب دور خلاق في قيادة الفكر وتوجيه الحياة العامة بمختلف مظاهرها وفاعلياتها.
وربما جاز لنا أن نختص منهم ثلاثة أعلام بإشارات وجيزة، لأنهم يلخصون إنجاز الجيل بأكمله، على سعة الفروق الفردية بينهم، وتعدد الشواغل الدراسية والفكرية والإبداعية لكل منهم، وهم طه حسين، والعقاد ونعيمة، إذ قاموا بدور رئيسي في تطوير مفاهيم الأدب، وتنمية الفكر النقدي، وتأسيس الوعي المنهجي بالأدب تاريخاً وتحليلاً.
قدم طه حسين مفهومه الجديد للأدب باعتباره "ما يؤثر من الشعر والنثر، وما يتصل بهما لتفسيرهم، والدلالة على مواضع الجمال الفني فيهما" مقسماً الأدب الى إنشائي - إبداعي: وهو "هذه الآثار التي يحدثها صاحبها لا يريد بها إلا الجمال الفني في نفسه، لا يريد بها إلا أن يصف شعوراً أو إحساساً أحسه، أو خاطراً خطر له، في لفظ يلائمه رقة ولينا وعذوبة، أو روعة وعنفاً وخشونة، أما الأدب الوصفي فهو الذي يتناول الأدب الإنشائي مفسراً حيناً ومحللاً حيناً آخر، وربما اتفق الناس على أن يسموه نقدا، طه حسين كان يمزج إذن بين النقد وتاريخ الأدب في هذا المشهد الذي كتبه في العشرينات، لكنه لا يلبث أن يطور هذه المفاهيم في دراساته اللاحقة، وإن كان اعتماده في النقد والتحليل ظل ينصب على تشكيل مزاج وسيط، يجمع بين البحث الموضوعي والانطباع الذاتي المعتمد على الذوق الشخصي، فالعملية النقدية كما يصفها، متبعاً منهج استاذه "لا نسون" تمر بمراحل من اكتشاف النص وتحقيقه، وقراءته وتحليله، وهذه عملية إعداد تسبق القسم الفني الذي يتجلى فيه ذوق الناقد وتظهر شخصيته "فالناقد لا يستحسن قصيدة من شعر أبي نواس مثلاً إلا إذا لاءمت نفسه ووافقت عاطفته وهواه. ولم تثقل على طبعه، ولم ينفر منها مزاجه الخاص" أي أنه بعبارة أخرى محدثة لا بد له أن يتماهى مع الإبداع الذي يقدمه.
ولا يمكن لنا أن نمضي في هذا السياق المقتضب لتتبع نظرية طه حسين الأدبية، ولا قراءة تطبيقاته النقدية، ولا وصف إنجازاته الضخمة في الفكر الأدبي عامة، فقد كان استاذاً للأجيال التالية، ورمزاً للعقل النقدي الجديد.
أما العقاد فقد توزعت جهوده الخلاقة على عدة ميادين متفاوتة، أهمها الفكر الأدبي إبداعاً شعرياً عالياً، ونقداً حاداً لاذعاً، يليها الفكر الثقافي التاريخي، سواء منه ما يتصل بالإسلام أو بالثقافة الإنسانية عامة. وربما كان العقاد بكل طاقاته الخصبة المنتجة أعتى أبناء جيله، وأكثرهم حدة في نقض مخالفيه، تصدى في شبابه لهدم أمير الشعراء، وقاد أعنف حملة نقدية ثورية في مطلع القرن لتغيير مفهوم الشعر وتحويل وظائف الأدب.
لكن العقاد لم يلبث في مراحله الناضجة أن قام بتنمية منظوره عن الفردية الضرورية في الإبداع، والحرية اللازمة لتحقيق الجمال في الحياة والفن، باعتبار أن الحرية هي التي تتجسد فيها أعلى مراتب الجمال التي لا تناقض النظام، فالحرية هي أن تختار، والفوضى هي أن تفقد كل اختيار. وربما كان العقاد أكبر عقل عربي ثقافي في القرن العشرين، حيث تمثل بوعي نافذ خلاصة المعارف والنظريات والفنون والاداب، لكنه تحيز لبعضها على حساب البعض الآخر، فظل يزهو بشعره الفكري المتفلسف الذي لم يدخل في الضمير الأدبي لقراء العربية، كما ظل يترفع على الرواية باعتبارها "قنطاراً من الخشب" الذي لا يتضمن أوقية من سكر الشعر، محكوماً بتجربته المحدودة في تأليفها، ولم يكد ينتصف القرن حتى كانت دورة التطور قد وضعته على رأس محاربي التجديد الذي دعا إليه بشدة في شبابه، لكن عرامته الفكرية وقوته الجدلية قد جعلته من أبرز ممثلي الفكر النقدي في هذا القرن.
ومع أن ميخائيل نعيمة ينتمي الى هذا الجيل الأول من رواد الأدب والنقد، إلا أنه تفرد بتربيته المخالفة لهم، فقد تخرج في دار المعلمين الروسية في الناصرة، وسافر خمس سنوات الى روسيا القيصرية في العقد الأول من هذا القرن قبل أن يستوطن المهجر الأميركي. وظل هذا التكوين الغريب عميق الأثر في وعيه فناناً مبدعاً ومفكراً متأملاً، ولأنه جمع بين الإبداع والنقد - مثل أبناء هذا الجيل كله - فقد مارس الشعر والترجمة والقص والتأمل، ووضع إطاراً نظرياً للأدب محكوماً بتجربته ومزاجه الشخصي. وروحه المثالية المستوفرة، كان يرى أن "للأدب مقاييس ثابتة تتجاوز الزمان والمكان، ولا تعبث بها أمواج الحياة المتقلبة، وأذواق العالم المتضاربة وأزياء البشر المتبدلة. وهي تمثل ما هو مشترك بين كل الأفراد والأمم في جميع العصور والأمكنة". ويوجزها في أربع حاجات أساسية:
- الحاجة الى الافصاح عما ينتابنا من العوامل النفسية والانفعالات والتأثيرات.
- الحاجة الى الحقيقة.
- الحاجة الى الجمال المطلق.
- الحاجة الى الموسيقى.
ولعل هذا التراتب هو ما باعد بين فهم نعيمة وشعراء المهجر ونقاده عامة وفهم مدرسة الديوان لجوهر الشعرية العربية، حيث لم يرض العقاد وفي مقدمته للغربال عن اعتبار المعايير الموضوعية الفنية واللغوية من آخر ما يستحق الانتباه، مع أنه تبنى بقية آرائه الأدبية قائلاً: "لو لم يكتب قلم نعيمة هذه الآراء التي تتمثل للقارئ في هذه الصفحات لوجب أن أكتبها أنا".
نقاد الأدب
تلك هي التسمية التي نرتضيها لأبناء الجيل الوسيط، الذي يدور تاريخ ميلاد معظم أبنائه في نهاية العقد الأول وطوال العقد الثاني من هذا القرن، بحيث يصلون الى نضجهم الفكري في الخمسينات والستينات. وربما جاز لي أن أعتبر محمد مندور 1907 - 1965 حامل لواء هذا الجيل من نقاد الأدب الذي يشمل أيضاً لويس عوض وحسين مروة وأنور المعداوي ونازك الملائكة وعلي الراعي، ويتضمن عدداً من أبرز الاساتذة المشتغلين بتاريخ الأدب والنقد أمثال شوقي ضيف وسهير القلماوي وعلي جواد الطاهر وإحسان عباس ومحمد يوسف نجم ورشاد رشدي ومحمد النديهي وغنيمي هلال وعبدالقادر القط وتوفيق بكار وشكري عياد وعدد كبير من الاساتذة الآخرين.
وربما تمثلت أبرز مسؤوليات هذا الجيل في فصل النقد واستقلاله عن البحوث والدراسات الأدبية، والدخول به أحياناً في حلبة الصراعات المنهجية التي لم تخل من الحرارة الأيديولوجية اللاهبة، والإصرار على توظيف الأدب غالباً لخدمة حركة المجتمع في تطلعها الى التنمية العادلة. ومتابعة الانتاج الحيّ للمبدعين من الأجيال الجديدة واحتضان بعضهم وتقديمهم للقراء، والوعي العميق بطبيعة تشكيل المدارس والاتجاهات الأدبية في الشرق والغرب. مع الإسهام الفعال في تطوير الذائقة الأدبية، وتنمية المجالات المعرفية المتصلة بالأدب والنقد. وقد تميز هذا الجيل بقدر وافر من مراعاة التخصص، فليس منهم من اشتغل بالتاريخ الاسلامي، باستثناء سيد قطب الذي بدأ ناقداً أدبياً ثم لم يلبث أن وظف طاقاته الفنية لخدمة الدعوة الدينية، وليس فيهم من غلب عليه الطابع الإبداعي واعتد به دون سواه في الشعر أو القص، بل أصبح مركز اهتمامهم هو الفكر الأدبي نقداً وبحثاً في الدرجة الأولى، كما أن درجة اشتغالهم بالعمل السياسي المباشر قد خفت الى حد كبير، خاصة بعد قيام ثورة 1952 في مصر واحتكار المؤسسة العسكرية للسلطة ومناوراتها المحبطة مع المثقفين. وإذا كان الطابع السائد لدى النقاد المحترفين في الصحافة وأجهزة الإعلام هو التيار اليساري بكل ألوان الطيف فيه، فإن السمة المميزة لمجموعة الأساتذة الجامعيين هي المحافظة على استقلالهم الفكري والبعد عن النشاط التنظيمي الذي كان خطره فادحاً في تلك العقود العسيرة من منتصف القرن، مع محاولاتهم الدائبة والشجية في كثير من الأحيان لكسر الطوق الجامعي والتفاعل الخصب مع تيارات الحياة العامة، بقدر ما تتيحه لهم حركة النشر والإعلام ومناورات السلطة المستقطبة من هوامش محدودة، وإذا كانت حرائق السياسة غالبا هي التي صنعت نجوم الثقافة في جيل الاساتذة الرواد فإنها قد حاصرت أبناء هذا الجيل الثاني من نقاد الأدب فلم يتحولوا الى قادة يعرف الآخرون عظمتهم وجهدهم الخلاق، مع أنهم من أبرز ثوار القرن العشرين.
وربما كان من الطريف أن نشهد طليعة هذا الجيل، محمد مندور، وهو يراجع في كتابه الأول "في الميزان الجديد" مصير الجيل السابق عليه، ليستنفذ من يده راية النقد. وهكذا لم يعد النشاط النقدي عند مندور عملاً ثانوياً يأتي على هامش الانتاج الإبداعي في مجرد تعليقات عارضة تحتمي بالتاريخ، بل أصبح يمثل النصف الموازي له والذي لا يقل كفاءة عنه ولا جدارة بلقب الخلق. وهو نشاط له طابعه الإنساني الجمالي قبل أن يتخذ له منظوراً اجتماعياً واضحاً في المرحلة التالية من فكر مندور، حيث أخذ يدعو لما يسميه "المنهج الايديولوجي في النقد" لمناصرة عدة قضايا أدبية وفنية كبيرة، مثل قضية الفن للحياة وقضية الالتزام في الأدب والفن، وتفضيل الأدب والفن القائد على الأدب والفن الصدى، بحيث تصبح وظائف النقد في تقديره كما يلي:
- أولاً: تفسير الأعمال الأدبية والفنية وتحليلها لمساعدة عامة القراء على فهمها وإدراك مراميها القريبة والبعيدة، وفي هذه الوظيفة يعتبر النقد عملية خلاقة قد تضيف الى العمل الأدبي أو الفني قيماً جديدة، ربما لم تخطر للمؤلف على بال، وإن لم تكن مقحمة عليه.
- ثانياً: تقييم العمل الأدبي والفني في مستوياته المختلفة، أي في مضمونه وشكله الفني، ووسائل العلاج كاللغة في الأدب، والتكوين والتلوين وتوزيع الضوء والظلال في التصوير مثلاً، وذلك وفقاً لأصول كل فن مع مراعاة تطور تلك الأصول عبر القرون.
- ثالثاً: توجيه الأدباء والفنانين في غير تعسف ولا إملاء، ولكن في حدود التبصير بقيم العصر وحاجات البشر وما ينتظرونه من الأدباء والفنانين.
وقد اشتدت المعارك بين مندور ومعارضيه في هذا الاتجاه الايديولوجي، خاصة بينه وبين رشاد رشدي الذي كان يمثل دعاة الفن للفن في ظاهر الأمر، بينما كان يعمل على ربط عجلة النقد بالسلطة، والفن بالحكومة في مقابل النقاد الفرسان المدافعين عن الحرية والإبداع والمسؤولية الثقافية عن توجهات المجتمع. كما كانت هناك معارك بين فصائل الواقعيين أنفسهم باتجاهاتهم المختلفة، كما حدث مع لويس عوض ومحمود أمين العالم وحسين مروة، لكن فريق الاساتذة البعيدين عن الصحافة كانوا يميلون الى الصمت والتأمل في حركة النقد، وكانوا أشد ميلاً الى إثراء حقل الدراسات الأدبية والأدب المكان وتاريخ النظريات الأدبية بالبحوث والكتب المنهجية المطولة، وإعادة طرح قضايا الفكر الأدبي في ضوء المتغيرات العالمية. بينما شغل النقاد الممارسون في الصحافة على وجه العموم بطرق تشكيل الموجات الجديدة من المبدعين، وما يتراءى في أعمالهم من ملامح متميزة تنبئ عن وجه المستقبل الأدبي، كانوا يقومون بدور قضائي تبشيري في الآن ذاته، مما جعلهم يشتبكون في معارك طاحنة مع جيل الأساتذة الذي ضاق قليلاً بهم، وفزع من محاولاتهم الدائبة إزاحته عن مصدر الصدارة، وربما كان نموذج كتاب محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس عن "الثقافة المصرية" مؤشراً لأقصى نقطة وصل إليها هذا الصراع الأيديولوجي الساخن على قيادة الفكر الأدبي الجديد.
وربما كان النموذج الثاني بعد مندور من ممثلي هذا الجيل المناضل هو حسين مروة الذي ولد في نهاية العقد الأول من القرن، واغتيل في نهاية الثمانينات، وأخذ يتجاوب بقوة مع توهج الحركة النقدية في منتصف القرن، متطلعاً الى أن يعمق الدور اللبناني المبدع في ريادتها وتنميتها، وقد كان شديد الاهتمام بفكرة المنهج حيث يقول في مقدمة كتابه المهم "دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي" العام 1965 أنه يعني النقد المنهجي، وهو ما يكون مؤسسا على نظرية نقدية تعتمد أصولاً معينة في فهم الأدب، وفي اكتشاف القيم الجمالية والنفسية والفكرية والاجتماعية في العمل الأدبي. واعتماد هذه الأصول يقتضي من الناقد أن يتجهز كذلك بقدر من المعرفة بشؤون النفس الانسانية في ضوء هذه المعرفة، بالاضافة الى الإلمام - ضرورة - بأهم قضايا العصر التي تساعد معرفتها الناقد على تحديد موقف العمل الأدبي تجاه هذه القضايا فكرية كانت أم اجتماعية أم سياسية أم فنية.
كما يرى مروة أن أول ما ينبغي ان يكون واضحاً من أمر المنهجية النقدية انها لا تستحق هذه الصفة إذا هي قامت على أسس أو مقاييس ثابتة متجمدة، وانما تستحقها حين تكون الأسس والمعايير ثابتة من حيث الجوهر، متحركة متطورة متجددة متنوعة من حيث التطبيق ومراعاة الخصائص الذاتية القائمة في كل خلق أدبي بخصوصه، الى جانب الخصائص العامة المتكسبة من قوانين الحركة الشاملة المرافقة لكل عمل ذي قيمة فنية ما. وفيما يتعلق بوظيفة النقد يرى حسين مروة انها تتمثل في تثقيف القارئ بإعانته على تفهم الأعمال الأدبية وكشف المغلق من مضامينها، وإدخاله الى مواطن أسرارها الجمالية، وإرهاف ذوقه وحسّه الجمالي واغناء وجدانه ووعيه بالقدرة على استبطان التجارب والأفكار والدلالات الاجتماعية والمواقف التي يقفها الشاعر أو الكاتب خلال العمل الفني تجاه قضايا عصره أو وطنه أو مجتمعه، معنى ذلك في تقديره هو أن النقد الموضوعي المنهجي يقوم بوظيفة مزدوجة تؤدي هي بدورها الى تطوير حركة النقد وحركة الأدب وحركة الثقافة الوطنية جميعاً. وعلى الرغم من أنه كان يرفع شعار الواقعية في أوج حرارتها غير أن إصراره على إبراز المعامل الجمالي والخواص النوعية للأعمال الفنية، وعمقه في التحليل التطبيقي جعله من قادة الفكر الأدبي البارزين في هذا الجيل الوسيط.
المشاركة والتجليات
وإذا كانت حركة النقد قد امتدت عند منتصف القرن لتشمل عواصم عربية عديدة اصبحت مراكز جديدة يشتعل فيها لهيب الإبداع وتتعدد المؤسسات الجامعية والأدبية التي تغذي الفكر، فإنه لم تلبث أن أخذت مشاركة المرأة تبرز بشكل لافت بعد مضي قرابة نصف قرن على تحررها، وكان الشعر بطبيعة الحال - والنقد بعد ذلك - من أوضح تجليات هذه المشاركة. وربما كان نموذج نازك الملائكة بليغ الدلالة في هذا السياق، فقد ولدت عام 1923، مما يجعل انضمامها المتأخر أن ابناء هذا الجيل الوسيط مصاحباً للموجة الأخيرة منه، إذ وفد معها في العام ذاته عبدالعظيم أنيس ومحمود العالم قبلهما بعام واحد - وصحبت السياب والبياتي بالمعلمين في بغداد، والتهبت مشاعرها أولاً في عشق القمر ورومانسية الليل، لكن عقلها وعي بيقظة حادة متغيرات الفترة، فكانت من السابقات الى إطلاق دعوة الشعر الحر إبداعاً والمنظرات له نقداً.
لكن الإشكالية التي تقع فيها نازك الملائكة منذ البداية هي هذا الوعي المنقوص بطبيعة العلاقة بالآخر، إذ ترى ان النقد العربي "يسير على غير هدى، وسيضيع جهوداً كثيرة حتى يهتدي الى الأسس التي ستوجهه وتحكمه، حتى تنشأ فيه النظريات والمذاهب والمدارس التي تستند الى أدبنا المحلي دون ارتكاز الى نظريات النقد الأوروبية" ويبدو أنها كانت تعبر حينئذ عن لون آخر من الوعي الذاتي الرومانسي المواكب لانطلاقتها الشعرية العفوية. فهي ترى النقد فناً دون ان تستحضر المراحل المعرفية التي قطعها، وتحكم عليه بتجربتها الشخصية المحدودة في تأملاتها محاذرة من خطورة الاستيعاب الفكري للتيارات والمذاهب العالمية التي تستشعر غربتها عنها، وكانت أكثر من ذلك تدور في فلك الخطاب الأدبي العراقي البعيد نسبياً عن تيارات النقد العاتية الناضجة التي اجتازتها الثقافة العربية منذ مطلع القرن في العواصم الأخرى.
ولعل هذه الهشاشة في المنطلق هي التي لم تمكن نازك الملائكة من القيام بالدور الطليعي الصائب المرشحة له، وإذ سرعان ما انتكست فكرياً وانتقلت الى شيخوخة نقدية مبكرة.
نقاد الحداثة
ونعني بهم هذا الجيل الثالث من نقاد القرن العشرين، وقد ولد معظمهم حول الاربعينات، وبدأ عطاؤهم في السبعينات، حتى بلغوا ذروة نضجهم المنهجي الآن عند ملتقى القرنين، وربما كان معظمهم من نقاد البنيوية وما بعدها، بتجلياتها المختلفة من توليدية وشكلانية وأسلوبية وتفكيك وسيميولوجيا وقراءة تأويل، بالاضافة الى عدد من النقاد والأساتذة الذين يقعون على الحواف الواصلة بين الجيلين من ناحية، والمازجة بين الاتجاهات الحداثية وما قبلها من ناحية أخرى. وأبرز ما يلفت النظر في أبناء هذا الجيل أنهم يتوزعون مكانياً بين مراكز الانتاج النقدي القديمة في مصر والشام، وبين مراكز أخرى تشكلت ونشطت في هذا النصف الثاني من القرن وأسهمت بقوة في حركة الثقافة العربية في الشمال الافريقي الى الخليج العربي والمهاجر الغربية الجديدة. كما يتوزعون زمانياً على ثلاثة عقود مركزة من القصف النقدي لم تشهد لها الحياة العربية نظيراً من قبل كماً ولا كيفاً، بحساب عدد المشاركين وكمية الكتب المنشورة ومستواها الرفيع في مختلف أشكال التنظير والتطبيق والترجمة، حتى ليمكن رصده موجات عدة متلاحقة ومتداخلة بين أبناء هذا الجيل، لم يدخل أحد منهم في قوائم الموسوعة لأنهم ما زالوا على قيد الحياة في نهاية القرن، كما يلاحظ من ناحية أخرى أنهم قد استوعبوا بقايا المعطيات الأيديولوجية والمنهجية السابقة عليهم، وطوروا خطاباً نقدياً عربياً حديثاً، يعتمد على التركيب بين المتجانس من التيارات المختلفة والنمذجة المؤلفة بين المناهج المتعددة، والانجاز المتميز في صلب الثقافة العربية.
وربما كان الأفق العالي الذي اخترقه من كتب منهم بلغات أوروبية مثل إداور سعيد وايهاب حسن ومصطفى صفوان مؤشراً واضحاً على بلوغ الكثيرين منهم لهذا المستوى العالمي لو ترجمت أعمالهم الى اللغات الأخرى.
ومن الطريف ملاحظة المفارقة البارزة بين عنف الصدمة التي أحدثوها في قطيعتهم المتفاوتة الدرجات مع تيارات النقد القديم، مع جدة مصطلحاتهم ورهافة أساليبهم النقدية وبين الأثر القوي الذي أحدثوه على الرافضين لهم خصوصاً، بحيث اذا حللنا خطاب هؤلاء الذين أسرفوا في دفع تيارات الحداثة النقدية وإدانتها بالتبعية، سنجده مفعماً بشظاياها ومصطلحاتها، مع عجزه بطبيعة الحال عن تمثل سياقها المعرفي وتوظيف تقنياتها التحليلية. وربما كانت أطرف آلية دفاعية استخدمها أنصار التقليد في تبرير هذا العجز هي سرعة الاعلان عن موت هذه المناهج النقدية في الثقافة العالمية، كي يستريحوا من عناء التواصل معها، متجاهلين منطق النقد العربي ذاته - في جميع عصور ازدهاره - من التثاقف الخلاق مع المعرفة العالمية، وقدرته الفائقة على الاضافة الحقيقية اليها، لا بالاستبدال والتناقض، وإنما بالتنمية والمزج والتركيب.
وإذا اعتمدنا شهادة الناقد اللغوي الحصيف "عبدالسلام المسدي" على "اللائحة" الشاملة لهؤلاء البنيويين، والنماذج النصية التي أوردها لهم، وجدنا أنه يسجل في كتابه "قضية البنيوية" خمسة وثلاثين نصاً، تتوزع على ثلاث درجات من: التأسيس، والجدل، والتجاوز. فإذا قمنا باستخلاص أسماء نقاد الأدب منهم على وجه التحديد مستبعدين المشتغلين بالفلسفة والعلوم اللغوية البحتة لأمكننا أن نورد طبقاً لترتيبه من المؤسسين لهذه التيارات: صلاح فضل وجابر عصفور ونبيلة ابراهيم وكمال أبو ديب وشكري عياد ومحمد بنيس وحسين الواد، ومن المعترضين في حركة الجدل نجيب العوفي وحمادي صمود ومحيي الدين صبحي وجمال باروت ومحمد مصطفى بدوي وعزالدين اسماعيل ومحمود طرشونة، وعبدالله الغذامي، ومن المتجاوزين جمال شحيد وعبدالفتاح كيليطو ومحمد الهادي الطرابلسي ويمنى العيد ومحمد مفتاح وتوفيق بكار.
وربما غابت عن هذه اللائحة بعض الاسماء المهمة من مختلف ارجاء الوطن العربي من أبناء هذا الجيل النقدي مثل محمد برادة ومحمود الربيعي ومحمد عبدالمطلب وعبدالمنعم تليمة وسيزا قاسم وصبري حافظ وخالدة سعيد وعبدالملك مرتاض، ودخل فيها من لا يعتبر ممثلاً للبنيوية أو ما بعدها مثل شكري عياد ونجيب العوفي ومحيي الدين صبحي ومحمد مصطفى بدوي، كما نلاحظ ان قصر بعض اسماء على مرحلة التأسيس يعني تجاهل تواصل عطائهم حتى التجاوز مع التباين الشديد بين مواقعهم ومواقفهم، فعزالدين اسماعيل مثلاً مع تقدمه في العمر على ابناء هذا الجيل قد أسهم بقوة في تأسيس هذه التيارات بكتاباته المبكرة ودوره الرائد في مجلة "فصول" وترجماته المهمة في مجالات القراءة والتأويل، فضلاً عن انجازه المتميز في نقد الشعر والمسرح، كما ان مصطفى ناصف قد نضم إليه بكتاباته الخلاقة في التأويل.
الألسنية والشعرية
وإذا حاولنا ايجاز الوظائف النقدية التي استهدفها أبناء هذا الجيل وجدنا من أبرزها إحداث نقلة معرفية حاسمة في النقد الأدبي، باعتماده على الأسس الألسنية من ناحية، وتجليات الشعرية من ناحية أخرى، بحيث أخذ يتقلص الدور الأيديولوجي الى أقل مستوياته بعد أن كان طاغياً على الخطاب النقدي السابق، والاعتماد على التنظيم المنهجي الدقيق لمقاربة النصوص بطريقة علمية، تجعل القراءة النقدية منبثقة من اكتشاف الأبنية الجزئية المتعالقة في النصوص الأدبية وصولاً الى بنيتها الكلية الدالة. وربما كانت أسعد حالات هذا النقد تتجلى عندما يتم تذويب الجهاز الاصطلاحي في الكتابة النقدية بطريقة فعالة في لون من الممارسة الإبداعية الموازية للنصوص الأصلية، مما يخفف من غربة القارئ ويلطف من درجة التخصص العالية في التحليل النقدي، ويتخفف من الجداول الاحصائية والرسوم البيانية التي تنبو عن الذوق الأدبي الشائع. وبالرغم من ذلك فإن علينا ان نعترف بأن شرخاً كبيراً قد أحدثته هذه التيارات في جملتها بين القارئ العادي والنقد الأدبي، بحيث أخذ الناقد الحداثي غالباً يفقد قدرته على التواصل الجمالي الممتع مع متلقيه كلما أمعن في تنمية تقنيات التحليل المرهفة للدقائق النصية، ولم يستطع أن يربط بينها وبين السياقات الخارجية الملموسة بطريقة جذابة ومدهشة، ولا يكاد ينجو من هذا الشرك سوى عدد قليل جداً من نقاد الحداثة الذين ظلوا يمارسون النقد باعتباره رسالة مهما كانت ذات صبغة علمية إلا أن عليها دائماً ان تثير طاقات الحس الجمالي والانساني عند القراء.
ولكي لا نخل بالنسق الثلاثي الذي ارتضيناه في رسم هذا المشهد النقدي يتعين علينا أن نختار ثلاثة ممثلين لتوجهات الحداثة العربية، ومع أن المعاصرة حجاب كما كان يقول الاقدمون، وأي اختيار لا بد أن يثير اعتراضات فأقف بطريقة عفوية عند الرفاق كمال ابو ديب وجابر عصفور وعبدالسلام المسدي لاستمرار عطائهم من ناحية. وتنوع مذاقهم وأساليبهم في الكتابة النقدية من ناحية ثانية.
ولأن التاريخية الجديدة التي نستلهمها في وضع هذا الإطار تعني بما تسميه "السجلات الثقافية" لكشف دراما التاريخ الفكري المكتوب، فإن كتاب كمال أبو ديب "جدلية الخفاء والتجلي" الذي صدر العام 1979 كان باكورة الدراسات التطبيقية قد أعقب كتابي "نظرية البنائية في النقد الأدبي" الذي صدر العام 1978، وصب فيه أبو ديب عصارة لغته الشعرية وتدفقه التحليلي ومزجه الممتع بين التيارات المتناغمة، ولم يلبث أن طور مشروعه النقدي التحليلي لإضاءة الشعر العربي القديم والمعاصر بمنهج متفرد يحمل طابعه الشخصي وتركيبته الخاصة في عدد من الأعمال اللاحقة، ومع عزوفه الواضح عن التوثيق المنهجي النظري وولعه الشديد بانتاج خطاب يطرح شبكته الذهبية البليغة على النصوص الإبداعية مباشرة فإنه قد أفاد بطريقة خلاقة من حصاد التيارات البنيوية والتفكيكية لإقامة جهاز قارئ متميز وديناميكي، وقد كان منذ البداية واعياً أبعاد هذا المشروع الجنيني وحريصاً على تنميته.
مع أن هذا التصور يخلط البنيوية التي كانت قد انبثقت في الثقافة العربية بأصولها المنهجية ومحدداتها المعرفية ببقايا الفكر الجدلي الماركسي الذي كان سائداً من قبل، فإن لهجة التبشير والثورة واليقين القاطع بأهمية الكشف الجديد تضفي حرارة مشعة على هذا الخطاب المتوهج. وتغفر له نزقه الطموح عندما يعلن بعد ذلك أنه سيتعامل مع بنية القصيدة - في المنظور الذي يحاول تنميته - بحيث لا تختلف جوهرياً عن بنية مشروع اقتصادي يراد تنفيذه، أو مشروع وحدة سياسية بين قطرين عربيين أو مشروع قاموس لغوي.
ومن حسن حظ النقد العربي أن الفارق كان شاسعاً بين ما أعلنه كمال أبو ديب بلهجة الزعماء، وما أنجزه بعد ذلك بحس العلماء من أعمال فائقة اضاءت شعرية النصوص الأدبية العربية بروح نقدي ومعرفي عميق.
أما جابر عصفور فقد انتقل من الماركسية الى البنيوية بحيوية بالغة، فاهتم أولاً بالجانب التوليدي عند جولدمان ووجد فيه حلقة الوصل الرشيقة بين التيارين، ثم اشترك مع عزالدين اسماعيل وكاتب هذه السطور في إطلاق مجلة "فصول" - رافعة لواء الحداثة النقدية منذ العام 1980 في أدق المراحل الثقافية المعضلية - ولم يلبث أن وجد في الترجمة أولاً وفي الكتابة النظرية ثانياً سبيلاً الى التعمق في المناحي العديدة للفكر البنيوي، وكان جهده الدؤوب في تحقيق الأفكار وصياغة المصطلحات وتهيئة المنطلقات أساسياً في هذه المرحلة، لكنه لم يلبث أن انطلق بطاقاته التنظيرية والتطبيقية كي يستوعب مراحل ما بعد البنيوية، ويستل منها ذكاء التفكيك ودهاء القراءة وقوة التأويل ليضيفها الى جهازه المعرفي المركب المنتج في كتاباته اللاحقة، ولعل مقدمته لكتاب "عصر البنيوية" المنشور العام 1985 أن تكون مؤشراً على هذا الموقف إذ يقول فيها: "لا شك في أن البنيوية قد فرضت نفسها على الفكر العربي المعاصر بطريقة او بأخرى في السنوات الأخيرة، وأصبح لها خصومها وأنصارها وآثارها اللافتة في مجال العلوم الانسانية المختلفة. ولكن رغم الحماس الذي يصل بين أنصار البنيوية وخصومها في الوطن العربي، ورغم كثرة ما كتب أو ترجم عنها، بل رغم تحول البنيوية نفسها الى موضة تذكر بما كانت عليه الوجودية في الخمسينات، فليس هناك كتاب شامل يعرض البنيوية منذ انطلاقها في منتصف الخمسينات في فرنسا، إلى أفولها في موطنها نفسه مع مطالع السبعينات وقبل أن يصبح موضة بين مثقفينا ثم يأخذ في تعداد المستويات البنيوية من النموذج القصوري الى الحركة الفكرية والاجتماعية، منتهياً الى أنها قد أدت الى انتاج وعي مستقل يجعل منها نوعاً من الأيديولوجيا. ومع أن جابر عصفور كان حريصاً دائماً بهذه الطريقة على التباعد النسبي، وإنكار تماهيه التام مع تيارات البنيوية - وما بعدها - لغلبة الحس التاريخي عليه وقوة الموقف النقدي له فإنه لم ير فيها سوى أيديولوجيا جديدة تزاحم القديمة، لكن ذلك لم يحل بينه وبين الاستثمار الخلاق لكل معطياتها والتجاوز الدائم لها، لأن استراتيجيته في الكتابة النقدية ظلت مرتبطة دائماً بوظيفة مهمة هي اتخاذ الفكر الأدبي منطلقاً لتحقيق رسالة التقدم والتنوير وتحديث العقل والمجتمع، وهي الوظيفة التي لا تتسق مع طبيعة الشكلانية وتنحو الى تفجيرها واختراق عالمها النصي المحدود.
ولعل النموذج الثالث والأخير من نقاد الحداثة عبدالسلام المسدّي أن يقدم الوضعية الجديدة للباحث اللغوي الذي يحرك من منطلقاته المعرفية مياه النقد الأدبي، فقد كان طموحه عند اصدار كتابه الرائد "الأسلوبية والأسلوب" أن يجعل هذا التيار بديلاً لغوياً للنقد الأدبي، لكنه لم يلبث ان أدرك اقتصار الأسلوبية على تمثيل إحدى التجليات النقدية، فأخذ يراوح بين البحوث الألسنية المعمقة والدراسات النقدية التقنية التطبيقية، وقام بدور المؤرخ البيليوجرافي لما أنجزته البنيوية وما بعدها في حقول المعرفة الألسنية والأدبية، ملاحظاً أن "أول ما حصل في هذا المضمار هو أن البنيوية قد تجرأت على النص، فأزاحت ما كان يحيط بالأدب من هالة قداسية كثيراً ما كانت تقوم عائقاً دون الرؤية الموضوعية المتأنية. بل يمكن أن نتتبع مدارج تناول النصر لنرى أن سلم التعامل النقدي مع النص ينطلق مع الوصف، وهو مستوى الحوار مع اللغة في بنيتها التركيبية، ويمر الى التفسير وفيه يقع البحث على القرائن المتحكمة في نسيج اللغة عند تحولها الى حدث أسلوبي. ثم يصل الى ترسم الأبعاد الدلالية في مسالك متنوعة من احتمالات الفهم وفرضيات التأويل، وكل هذه المراتب إنما تمثل ما قد نصطلح عليه بالاستنطاق النقدي للنص الأدبي".
وبمقدار ما تكثفت الدراسات الأسلوبية في مصر وتونس أوغل تيار البلاغة المحدثة في المغرب العربي وأسفر عن تفجير طاقة هائلة في التنظير والتأويل والإمعان في إعادة قراءة التراث. ولعبت المراكز الجديدة في دول الخليج العربي أدواراً خطيرة في تنمية الفكر النقدي الحداثي وتوظيفه لتخليق خطاب أدبي جديد يتذرع بالنقد ليجر مركبة الحياة، ويقوم بتحليل الأبنية الإبداعية ليطور الأبنية الثقافية ويكسبها مرونة جديدة تسمح لها باستشراف أفق مستقبلي واعد.
هل يحق لنا نتيجة لكل ذلك أن نعتبر هذا القرن الذي نودعه القرن الذهبي الثاني للنقد العربي؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.