للمملكة أهداف أنبل وغايات أكبر    السعودية تدين الهجوم الذي استهدف القصر الرئاسي في العاصمة التشادية أنجمينا    حرائق لوس أنجليس تدفع مشاهير الفن والموسيقى للفرار من منازلهم    تقارب النقاط يشعل الطائرة    القبض على 7 وافدين ظهروا بمشاجرة في عسير    10 فائزين بجائزة صيتة للتميز الاجتماعي    لقاح الإنفلونزا والغذاء الصحي.. نصائح مهمة للوقاية من نزلات البرد    الشاب "موسى النجم" يدخل "القفص الذهبي"    إحباط تهريب (136.9) كجم "حشيش" في ينبع    مدرب فريق ريال مدريد يؤكد صعوبة مواجهة الغد أمام برشلونة    رقم قياسي جديد لموسم الرياض بأكثر من 16 مليون زائر    «ضاع قلبي في جدة».. نوال الكويتية ورابح صقر يشعلان ليل العروس بحضور جماهيري كبير    تشييع الحربي صاحب ال 50 حجة في مقبرة الوجه    المنافذ الجمركية تسجل أكثر من 1900 حالة ضبط خلال أسبوع    تحديث سرعات طريق السعودية - عمان عبر الربع الخالي    فريق جامعة المؤسس يحقق بطولة السلة للجامعات    10 مليارات لتفعيل الحوافز المعيارية للصناعيين    انطلاق ملتقى " إضاءة عسير " الاثنين القادم    6 فرق تشارك في بطولة بولو الصحراء في العلا    تعددية الأعراق والألوان تتوحد معك    ولي العهد يهنئ الرئيس اللبناني ويدعوه لزيارة السعودية    الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم" لرفع الوعي لسائقي دراجات تطبيقات التوصيل    وصول الطائرة الإغاثية السعودية التاسعة لمساعدة الشعب السوري إلى مطار دمشق الدولي    وكيل "الشؤون الإسلامية" للمشروعات والصيانة: تدشين الأدلة الفنية للمساجد إنجاز نوعي برؤية شاملة ومعايير عالمية    نادي جازان الأدبي يكرم الزميلة خلود النبهان    أكثر من 300 جلسة رئيسية في النسخة الثالثة من قمة المليار متابع    طلبة منطقة "تعليم الرياض" يعودون غداً لمدارسهم لاستكمال الفصل الدراسي الثاني    «الضباب» يحوّل رحلة ليفربول إلى كابوس    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    استمرار هطول الأمطار على بعض مناطق المملكة    «طائرة كوريا».. «الأسودان» توقفا قبل 4 دقائق من التحطم !    خالد عبدالرحمن ل«عكاظ»: جمعنا أكثر من 10 قصائد وننوي طرح ألبومين سامريات    أمريكا وبريطانيا توسعان عقوبات كاسحة على صناعة النفط الروسية    ابعد عن الشر وغني له    "النقد الدولي" يتوقع استقرار النمو العالمي في 2025    البرلمان الألماني يبحث الأربعاء تفشي الحمى القلاعية في البلاد    القائد الذي ألهمنا وأعاد لنا الثقة بأنفسنا    أمين الطائف هدفنا بالأمانة الانتقال بالمشاركة المجتمعية للاحترافية    هاو لم يفقد الأمل في بقاء دوبرافكا مع نيوكاسل    رئيس مصر: بلادنا تعاني من حالة فقر مائي    ما بين الجمال والأذية.. العدار تزهر بألوانها الوردية    "لوريل ريفر"، "سييرا ليون"، و"رومانتيك واريور" مرشحون لشرف الفوز بلقب السباق الأغلى في العالم    العروبة يتعاقد مع العراقي عدنان حمد لقيادة الفريق فنيّاً    «الغذاء والدواء» تحذّر من منتج لحم بقري لتلوثه ببكتيريا اللستيريا    بالشرقية .. جمعية الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم"    خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الأحاديث الموضوعة والبدع المتعلقة بشهر رجب    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    الحمار في السياسة والرياضة؟!    سوريا بعد الحرب: سبع خطوات نحو السلام والاستقرار    أسرار الجهاز الهضمي    أفضل الوجبات الصحية في 2025    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية ال8 لمساعدة الشعب السوري    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    ولي العهد عنوان المجد    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول كتاب جابر عصفور . نقد النظرية .. من سيرة الوعي الى مراجعة الذات
نشر في الحياة يوم 19 - 09 - 1998


الكتاب: نظريات معاصرة
المؤلف: جابر عصفور
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب
الطبعة الأولى 1998 - 348 صفحة
يعد جابر عصفور واحداً من النقاد العرب الذين تميزوا بقدرة نقدية واعية تزاوج - بفهم خاص - بين المنجز النقدي والبلاغي العربي الضخم وبين الروافد الحديثة نظرياً في رؤية خاصة للتراث الابداعي النقدي العربي مدفوعة دائما بهاجس المراجعة والمساءلة التي تتوازى في شقين لا ينفصلان لديه: من حيث كونها مراجعة للذات، الهوية، الوجود، الخصوصية، وفي شقها الآخر مراجعة للنظرية، الرؤى، النقد، الآخر، انه نقد النقد، او نقد الذات النقدية الذي يسيطر على افق كتابه الاخير "نظريات معاصرة".
انطلاقاً من همّ المساءلة الدائم يؤكد الكتاب على سمة حاسمة - في رأيه - تميز النقد الادبي المعاصر، هي عدم كفّه عن مساءلة موضوعه "عميقاً لمجرى ممارسته وتطويراً لتقنيات هذه الممارسة، بحثاً عن افق مغاير يعد بالتقدم" خصوصاً حين نضع في اعتبارنا التطور المذهل لعصر ما بعد الصناعة، وما احدثه من تراكم معرفي نوعي متزايد، وما واكبه من ثورة افرزت امكانات اتصالية حوّلت العالم الى قرية كونية صغيرة. وسواء رأينا هذا التقدم من منظور ايجابي باعتباره - بمعنى من المعاني - يمثل اشاعة للمعرفة وتيسير تداولها، او رأيناه من منظور سلبي في سياق "عولمة الهيمنة"، الا ان هذا التطور في الحالين "لا شك يؤكد انبثاق نزعة عالمية جديدة في غاياتها الحضارية، نزعة تسعى الى مجاوزة اسوار الجغرافيا السياسة بما لا يتناقض وخصوصية الثقافات الوطنية او القومية" وهو ما يستدعى - من وجهة نظر الكاتب - وعياً نوعياً مختلفاً للذات.
يتقدم الكتاب من الفرضية الاساسية السابقة الى مراجعة نظريات النقد الغربية الحديثة، ولا يفضل تبسيطها نظرياً وتقديمها للقارىء ايضاً. ويوائم الكتاب بين نوعين من الخطاب النقضي للمركزية الاوربية - في ثوابتها الفكرية والابداعية والسياسية، سواء المركزية الاوربية القديمة، او مركزية العولمة الجديدة، وهذان الخطابان يسعيان - في رأيه - الى تعرية هاتين المركزتين، وهما: خطاب محلي "خطاب التابع الذي تمرد على اوضاع تبعيته واتباعه ... واخذ في تأصيل فعل ابداعه الذاتي الذي يجاوز به مستوى الضرورة الى مستوى الحرية، ويستبدل بواقع التخلف افق التقدم". والخطاب الثاني خارجي يتمثل في الطليعة من مفكري العالم "الاول" الذين لا يكفون - من وجهة نظر الكتاب - عن مساءلة القيم المهيمنة السائدة في ثقافاتهم. وقد اثر هذان الخطابان في خلخلة تلك المركزية عبر ممارستهما النقضية لثوابتها ومسلماتها. وقد تجلت هذه الخلخلة "بدءاً من ممارسات التعددية الصاعدة في ثقافات الدول الكبرى، التي لم تكن تعترف بالتنوع الثقافي، وانتهاءً بدخول إبداعات العالم الثالث وثقافاته الى دائرة الضوء العالمي". واحس بأنه "ضوء" غير منزّه عن الغرض من بعض زوايا كشفه للصورة، اذ يعيد احد الفروض الاجرائية لمركزية "العولمة" في سياق التغير النوعي لخطاب الهيمنة، حيث ينصب هذا الضوء بالاساس على الابداعات التي تهجس بصعود قيم سلوكية واجتماعية جديدة في الواقع الاجتماعي العربي او تلك المعنية برصد ديموغرافي دقيق لحركة المجتمعات المحلية. وعلى اية حال لا يعني ذلك عدم جدية تلك الرؤى على اطلاقها.
يتناول الكتاب في سياق نقد النقد او النقد الشارح نظرية التعبير، والبنيوية التوليدية، البنيوية والشعرية، وعي النظرية، من منطلق ان "النقد الادبي لا يفارق خَدَر العرف ووخم العادة الا بفعل التنظير الذي يسائل به انجازه مستبدلا بمبدأ الواقع مبدأ الرغبة، فاتحاً الابواب المغلقة على احتمالات التقدم الذي لا حد لوعوده". والكتاب - في ذلك - يراجع النظريات ذات الاثر في ثقافاتنا الادبية والنقدية، في اطار رؤية تصل تلك النظريات بين لحظة تولدها وبين استنطاق افاقها المستقبَلَة، وتتدرج معالجتها النقدية، النقضية في تعاقب تاريخي ينتظم تتابع مواضيع الكتاب.
ويمكن ان نلمح في الكتاب مراجعة للذات النقدية، خصوصاً في الجزء الذي يقرب فيه المؤلف للبنيوية العربية، وما يخصه مرجعياً منها في البنيوية التوليدية لدى غولدمان، واطاره المرجعي في ذلك التحليل التأويلي والمساءلة القيمية تأسيساً على "الوعي النقدي للعقل الذي يضع نفسه قبل غيره موضع المساءلة، ولا يتردد في مقاومة ما تنطوي عليه النظرية من دعاوى ايديولوجية" وهو في تحقيق تلك الغاية لا ينفصل عن اهداف المجتمع المدني العربي المشحون بتناقضاته وتحولاته، انه عقل مدفوع بحلم دائم "في الانتقال بهذا الواقع من ذهنية الاتباع الى ذهنية الابتداع ... بوصفه عقلاً يواجه كل أنواع الاصولية، ويضع نفسه موضع المناقضة للنظريات التي تغترب بالنقد عن واقعه او تغترب بالواقع عن وعيه النقدي".
ًنظرية "التعبير" ضد الكلاسيكية الجديدة
يتتبع الكتاب في نقضه لنظرية "التعبير" جذورها لدى ويليام وردزورث الذي اعتبر الشعر "فيضاً تلقائياً لمشاعر قوية"، وعند جان جاك رسو الذي دشنه ارنست كاسيرر 1784- 1945 باعتباره "ممهداً قوياً للحركة الرومانسية بفهمه للفن على انه فيض للانفعالات والمشاعر، لا مجرد وصف او نسخ للعالم، كما افترض الكلاسيكيون الجدد". تلك الجذور الفنية لنظرية جديدة تعلي من شأن الوجدان و"الانفعال" في التجربة الابداعية، والتي اكتملت بجهود علماء الجمال الذين استطاعوا التعبير عنها وتمثيلها، في مواجهة نظرية "المحاكاة" التي دافع عنها الكلاسيكيون الجدد في القرن الثامن عشر.
لقد كانت نظرية التعبير صياغة جمالية عبرت عن المد الثوري البرجوازي ابان تحطيمه للاقطاع، ومن ثم كان يجب ان تعلي من قيمة الفرد، والروح، والقدرة الخلاقة "الكامنة" لدى الانسان، بحيث اصبح الفن "لا يعبر عن حقيقة خارجية، وانما يعبر عن حقيقة داخلية"، وما يتبع ذلك من ضرورة الحديث حول "الحافز" الذي يدفع مبدعاً "للانفعال" والذي بناء على قوته او ضعفه تتمايز الانفعالات من حيث العمق او التسطيح، وهو ما يترتب عليه القيمة الفنية للعمل الابداعي بالطبع، على اعتبار نظرية التعبير الانفعال "زاوية اكتمال التجربة". وهنا يرى جابر عصفور انه "لم يكن من قبيل المصادفة ان يربط كروتشة بين "الانفعال" و"الحدس" و"التعبير"، وحسب كروتشة، فإن الحدس هو التعبير، والانفعال هو ما يمنح الحدس وحدة ما، ومن ثم لا يكون الحدس اصيلاً ما لم يمثل انفعالاً اصيلاً.
كذلك فإن مساءلة النظرية تدفع الى مراجعة مساءل نظرية اخرى، في ظل رؤية نظرية التعبير - السابقة - للفن، من قبيل دور "الوعي" في عملية الابداع، وما الفارق بين "الوصف" و"الانفعال" و"التحليل". انه المأزق الذي جعل كروتشة ينفي "الطرق" و"الدرجات" المتفاوتة في التعبير. ويرى جابر عصفور ان التمييز بين "الوصف" باعتباره اداة العقل، وظاهري العمل، وبين "التعبير" باعتباره قرين الحدس وباطن العمل، هو ما فرض بروز معضلة الاداة في الادبيات النقدية لنظرية التعبير، اذ لم يكن فهمهم للاداة بمعزل عن رؤيتهم السابقة للفن والغاية منه، ذلك الفهم الذي دفع البعض نقاداً ومبدعين الى الصراخ انقاذاً من "عجز اللغة" احياناً عن التعبير عن انفعال المبدع "الفريد". تلك النظرية انسحبت الى "المبدع" باعتباره شخصاً مميزاً، لا يجب ان يخضع للمواصفات والتقاليد والقواعد اثناء ممارسته لفعل الابداع، بينما - وهذا تناقض واضح - يجب عليه ان يعبر عن "تفرده" هذا بلغة هي اداة ذات صفات مشتركة، لها طابع عام وقوانين ومواضعات!! وهنا يؤكد الكتاب "ان التسليم بخصوصية سابقة على تجسيد الانفعال لغة يعني التسليم بنوعين مغايرين من وجود الانفعال: وجوده الداخلي في النفس، ووجوده الخارجي في اللغة، وذلك تسليم يفصل بين اللغة والفكر في نظرية يزعم غير واحد من فلاسفتها التوحيد بينهما".
يولي الكتاب في مراجعته للبنيوية - بمدارسها المختلفة - اهمية لتجارب البدايات عربياً والتي اخذ الإشكال الاصطلاحي تعريفياً جزءاً من رؤاها تعريفية الطابع انذاك، حيث سبق محمود امين العالم الى اصطلاح "الهيكلية" في تقديمه البنيوية الفرنسية "للمرة الاولى في مصر" في مقاله الاسبوعي من مجلة "المصور" بعنوان "نقد جديد ام خدعة جديدة" 21/10/1966 وكان المقال نقداً مبكراً للبنيوية الشكلية، وهو ما يتفق مع مرجعية العالم وقناعاته الفكرية المنبثقة من بينوية "لوكاتش" استاذ لوسيان غولدمان، وهو الامر نفسه الذي يبرر عدم حماسة "العالِم" - فيما بعد - لأفكار غولدمان التجديدية رغم هاجس البحث - آنذاك - عن "منهج جديد للنقد الادبي"، وربما كان في اعطاء البنيوية التوليدية اهتماماً اكبر للتاريخ وحركة المجتمع عقلياًَ واجتماعياً، ما له الاثر في قناعات العالم برؤية "لوكاتش" وهجومه على البنيويين الشكليين الذين حاولوا الهروب من فكرة "حركة المجتمع". ويشير الكتاب الى البداية المتأخرة للبنيوية عربياً حيث صعدت هنا بعد انهيارها في موطنها. فقد رفع الطلاب في تظاهرات 1968 شعار "تسقط البنيوية" في حال من التمرد العام على النظم والانساق والبنية. ربما تكون استطاعت مواصلة الصعود في اميركا طوال عقد السبعينات بنجاح خصوصاً بعد نقل دريدا المعركة البنيوية الى هناك، عندما وضع البنيوية تحت مجهر المراجعة الجذرية في بحثه اللافت "البنية واللعب والعلامة في خطاب العلوم الانسانية" والذي طرح فيه نقضاً جذرياً لأفكار المدرسية الفرنسية ممثلة على الخصوص في بنيوية دي سوسير وكلود ليفير شتراوس. وسرعان ما انتبهت جامعة "ييل" الاميركية لأفكار دريدا النقضية، وتحلّق حوله اكاديميو "ييل" و"قادوا معاً ثورة مضادة على البنيوية". برز من هؤلاء الناقد البلجيكي الأصل "بول دي مان"، و"جيو فري هارتمان" و"جوزيف هيلز ميللر".
بنيوية المؤلف "التوليدية"
يرى جابر عصفور اصطلاح "البنيوية التوليدية" مرضياً لترجمة مصطلح STRUCTURALISME GENETIOVUE الفرنسي الأصل، وهو ما يشير الى اصطفاء نوعي يجدد وعيه النقدي ويمثل القناة المعرفية التي تصب فيها رؤاه النقدية، وتنبع منها في أصولها لدى لوسيان غولدمان الذي مارس سحره على المؤلف عندما نشر مقاله "علم اجتماع الادب: الوضع ومشكلات المنهج" في المجلة الدولية لعلم الاجتماع 1967، وهو تاريخ البداية الحميمة معرفياً بين المؤلف والاستاذ غولدمان الذي مثلت لرؤيته - من وجهة نظر جابر عصفور - طبيعة جدلية اكثر تخفيفاً - من حيث المنهج - لمثالية هيغل عن وحدة الذات والموضوع في الفكر. "ولم يكن هذا الفهم لموضوعية البحث في العلوم الانسانية من غير غلو في ادعاء الحيدة المطلقة او التطابق المنهجي مع العلوم الطبيعية، هو وحده الذي جذبني الى افكار غولدمان، فقلد كان هناك الايمان بالوظيفة الاجتماعية للبحث في العلوم الانسانية التي ينتسب اليها النقد الادبي". كان هذا اتجاهاً جديداً في النقد الادبي آنذاك، كأحد اهم اتجاهات ما بعد "النقد الجديد" من ناحية و"نظرية الانعكاس" من ناحية اخرى. وقد ظلت المعرفة النقدية عربياً في مراوحة بين هذين القطبين فكرياً، الى ان حدثت هزيمة 1967 ففرضت ضرورة إعادة النظر في الرؤى والافكار، كذلك طرحت اهمية مساءلة الذات والنظر الى الغايات بفهم جديد. من هنا اعتبر "النقد الجديد" معبراً عن ليبرالية العالم الرأسمالي، و"نظرية الانعكاس" معبرة عن المعسكر الآخر، الاشتراكي، ومن ثم تم نقضهما باعتبارهما النظريتين اللتين كانتا تعبيراً عن الاستقطاب الاوسع في العالم آنذاك.
غولدمان: العالم كأنطولوجيا
يتداخل الكتاب فكرياً مع رؤية العالم عند لوسيان غولدمان مراجعاً اياه في ارتكاز رؤيته تلك للعالم باعتباره كياناً وجودياً انطولوجياً، من حيث فهم معرفي أساسي "للعلاقة بين الاجزاء والكل داخل بنية من منجزات الانتاج الثقافي بما فيها الادب من ناحية، وفهم العلاقة بين أبنية الانتاج الثقافي ببعضها البعض من ناحية اخرى". وقد سبق جيمسون الى تأكيد تلك العلاقة الجدلية بين الذات والموضوع "في البحث المنهجي" وهو ما يعطي للأوضاع التاريخية للمجموعة الاجتماعية او الطبقة. وهو ما يفتح مفهوم "البنية" على التاريخ من ناحية اخيرة. ويلتقي المنحى السابق في البحث المنهجي مع مفهوم لوكاتش حول "الكلية الاجتماعية" حيث يعتبر العالم "بنية شاملة تهدف بنسقها المتلاحم الى تطويع الموقف الذي تعانيه الطبقة او المجموعة" وهو ما يعني لدى غولدمان "خط متلاحم من المشاكل والاجابات". وحسب المعنى السابق فلا يمكن رؤية الادب باعتباره "مجموعة من الأعمال المتناثرة ذات عناصر تراكمية او متجاورة فقط" بقدر ما يجب رؤيته غير منعزل عن الابنية التي تنتظم كل عمل ادبي على حدة، من بنية - اوسع - من العناصر المتلاحمة. وهو ما يبدو معه الادب او الفن شأنه شأن اي إبداع آخر، عملاً فردياً وجماعياً في ان واحد: جماعي من زاوية الوعي الجمعي الذي تنطوي عليه مكونات رؤية العالم، وفردي من زاوية ان الاصالة الادبية تكمن في القدرة على التعامل مع هذه المكونات الخاصة للوعي الجمعي، وتنظمها في عمل ينطوي على أقصى درجة من التلاحم والوحدة.
ان التركيز على "الوحدة" و"التلاحم" في رؤية العالم لدى مفكر مثل غولدمان، قد يكون أحد التناقضات التي وجهها اليه معارضوه. ويرى جابر عصفور "أن غولدمان الذي يزعم انه جدلي، يتخلى عن الجدل في ادراك الحقيقة الجمالية" اذ الوحدة والتلاحم - في رأيه - يلغيان الصراع الذي تنطوي عليه تلك الحقيقة، ومن ثم تبقى "الوحدة" لدى غولدمان وحيدة الجانب، ويبدو "التلاحم" ايضاً "نوعاً من التمسك ببنية ساكنة تقوم على مركز او مراكز ثابتة" وهو ما يلغي "التعارض" في سبيل "التلاحم" مما يعبر عن نزعة "دوغماطية" تؤثر التوحيد. وبعد مداخلة نقضية عميقة تراجع البنيوية لدى غولدمان على الاخص فإن جابر عصفور يرى ان غولدمان قد اقترب في بعض اقواله الاخيرة من "ادراك طبيعة الحقيقة الجمالية بوصفها مجاوزة" لقطبي التنوع والوفرة الحسية من ناحية، والوحدة التي تنتظم هذا التنوع في كل متلاحم من ناحية اخرى".
لقد حاول غولدمان تجنّب مزلق النزعة النسقية المغالية، فكتب عن ضرورة "ان يكشف الناقد في كل عمل فني عظيم عن القيم المرفوضة التي تقمع الرؤية التي تصنع وحدة العمل"، وهو بذلك يبرز اهمية التنوع، القطب الثاني الموازي للوحدة او "التلاحم"، بحيث ينهار "اي معنى للاطلاق" في هذا التعدد. لكنه لم يُسعَف - من العمر - ليمضي مع هذه النتيجة حتى نهايتها المنهجية، فتركها شاهداً على نوع من المراجعة الذاتية، التي تعد في جانب منها استجابة موجبة للنقد الموجه له من ممثلي الجناح الضدي في النقد الماركسي. انها ذات المسؤولية الفكرية التي فرضت نفسها على أفق كتاب جابر عصفور أيضاً، بحيث يمكن اعتباره في محصلته النهائية نوعاً من نقد النقد، أو مراجعة الذات النقدية، فيما يشبه رصداً واعياً وحميماً لسيرة وعيه النقدي النظري، الذي لم تمنعه موضوعيته من نقد منهجي لأصوله المرجعية في أحد أهم مصادرها.
الكتاب: نظريات معاصرة
المؤلف: جابر عصفور
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب
الطبعة الأولى 1998 - 348 صفحة
يعد جابر عصفور واحداً من النقاد العرب الذين تميزوا بقدرة نقدية واعية تزاوج - بفهم خاص - بين المنجز النقدي والبلاغي العربي الضخم وبين الروافد الحديثة نظرياً في رؤية خاصة للتراث الابداعي النقدي العربي مدفوعة دائما بهاجس المراجعة والمساءلة التي تتوازى في شقين لا ينفصلان لديه: من حيث كونها مراجعة للذات، الهوية، الوجود، الخصوصية، وفي شقها الآخر مراجعة للنظرية، الرؤى، النقد، الآخر، انه نقد النقد، او نقد الذات النقدية الذي يسيطر على افق كتابه الاخير "نظريات معاصرة".
انطلاقاً من همّ المساءلة الدائم يؤكد الكتاب على سمة حاسمة - في رأيه - تميز النقد الادبي المعاصر، هي عدم كفّه عن مساءلة موضوعه "عميقاً لمجرى ممارسته وتطويراً لتقنيات هذه الممارسة، بحثاً عن افق مغاير يعد بالتقدم" خصوصاً حين نضع في اعتبارنا التطور المذهل لعصر ما بعد الصناعة، وما احدثه من تراكم معرفي نوعي متزايد، وما واكبه من ثورة افرزت امكانات اتصالية حوّلت العالم الى قرية كونية صغيرة. وسواء رأينا هذا التقدم من منظور ايجابي باعتباره - بمعنى من المعاني - يمثل اشاعة للمعرفة وتيسير تداولها، او رأيناه من منظور سلبي في سياق "عولمة الهيمنة"، الا ان هذا التطور في الحالين "لا شك يؤكد انبثاق نزعة عالمية جديدة في غاياتها الحضارية، نزعة تسعى الى مجاوزة اسوار الجغرافيا السياسة بما لا يتناقض وخصوصية الثقافات الوطنية او القومية" وهو ما يستدعى - من وجهة نظر الكاتب - وعياً نوعياً مختلفاً للذات.
يتقدم الكتاب من الفرضية الاساسية السابقة الى مراجعة نظريات النقد الغربية الحديثة، ولا يفضل تبسيطها نظرياً وتقديمها للقارىء ايضاً. ويوائم الكتاب بين نوعين من الخطاب النقضي للمركزية الاوربية - في ثوابتها الفكرية والابداعية والسياسية، سواء المركزية الاوربية القديمة، او مركزية العولمة الجديدة، وهذان الخطابان يسعيان - في رأيه - الى تعرية هاتين المركزتين، وهما: خطاب محلي "خطاب التابع الذي تمرد على اوضاع تبعيته واتباعه ... واخذ في تأصيل فعل ابداعه الذاتي الذي يجاوز به مستوى الضرورة الى مستوى الحرية، ويستبدل بواقع التخلف افق التقدم". والخطاب الثاني خارجي يتمثل في الطليعة من مفكري العالم "الاول" الذين لا يكفون - من وجهة نظر الكتاب - عن مساءلة القيم المهيمنة السائدة في ثقافاتهم. وقد اثر هذان الخطابان في خلخلة تلك المركزية عبر ممارستهما النقضية لثوابتها ومسلماتها. وقد تجلت هذه الخلخلة "بدءاً من ممارسات التعددية الصاعدة في ثقافات الدول الكبرى، التي لم تكن تعترف بالتنوع الثقافي، وانتهاءً بدخول إبداعات العالم الثالث وثقافاته الى دائرة الضوء العالمي". واحس بأنه "ضوء" غير منزّه عن الغرض من بعض زوايا كشفه للصورة، اذ يعيد احد الفروض الاجرائية لمركزية "العولمة" في سياق التغير النوعي لخطاب الهيمنة، حيث ينصب هذا الضوء بالاساس على الابداعات التي تهجس بصعود قيم سلوكية واجتماعية جديدة في الواقع الاجتماعي العربي او تلك المعنية برصد ديموغرافي دقيق لحركة المجتمعات المحلية. وعلى اية حال لا يعني ذلك عدم جدية تلك الرؤى على اطلاقها.
يتناول الكتاب في سياق نقد النقد او النقد الشارح نظرية التعبير، والبنيوية التوليدية، البنيوية والشعرية، وعي النظرية، من منطلق ان "النقد الادبي لا يفارق خَدَر العرف ووخم العادة الا بفعل التنظير الذي يسائل به انجازه مستبدلا بمبدأ الواقع مبدأ الرغبة، فاتحاً الابواب المغلقة على احتمالات التقدم الذي لا حد لوعوده". والكتاب - في ذلك - يراجع النظريات ذات الاثر في ثقافاتنا الادبية والنقدية، في اطار رؤية تصل تلك النظريات بين لحظة تولدها وبين استنطاق افاقها المستقبَلَة، وتتدرج معالجتها النقدية، النقضية في تعاقب تاريخي ينتظم تتابع مواضيع الكتاب.
ويمكن ان نلمح في الكتاب مراجعة للذات النقدية، خصوصاً في الجزء الذي يقرب فيه المؤلف للبنيوية العربية، وما يخصه مرجعياً منها في البنيوية التوليدية لدى غولدمان، واطاره المرجعي في ذلك التحليل التأويلي والمساءلة القيمية تأسيساً على "الوعي النقدي للعقل الذي يضع نفسه قبل غيره موضع المساءلة، ولا يتردد في مقاومة ما تنطوي عليه النظرية من دعاوى ايديولوجية" وهو في تحقيق تلك الغاية لا ينفصل عن اهداف المجتمع المدني العربي المشحون بتناقضاته وتحولاته، انه عقل مدفوع بحلم دائم "في الانتقال بهذا الواقع من ذهنية الاتباع الى ذهنية الابتداع ... بوصفه عقلاً يواجه كل أنواع الاصولية، ويضع نفسه موضع المناقضة للنظريات التي تغترب بالنقد عن واقعه او تغترب بالواقع عن وعيه النقدي".
ًنظرية "التعبير" ضد الكلاسيكية الجديدة
يتتبع الكتاب في نقضه لنظرية "التعبير" جذورها لدى ويليام وردزورث الذي اعتبر الشعر "فيضاً تلقائياً لمشاعر قوية"، وعند جان جاك رسو الذي دشنه ارنست كاسيرر 1784- 1945 باعتباره "ممهداً قوياً للحركة الرومانسية بفهمه للفن على انه فيض للانفعالات والمشاعر، لا مجرد وصف او نسخ للعالم، كما افترض الكلاسيكيون الجدد". تلك الجذور الفنية لنظرية جديدة تعلي من شأن الوجدان و"الانفعال" في التجربة الابداعية، والتي اكتملت بجهود علماء الجمال الذين استطاعوا التعبير عنها وتمثيلها، في مواجهة نظرية "المحاكاة" التي دافع عنها الكلاسيكيون الجدد في القرن الثامن عشر.
لقد كانت نظرية التعبير صياغة جمالية عبرت عن المد الثوري البرجوازي ابان تحطيمه للاقطاع، ومن ثم كان يجب ان تعلي من قيمة الفرد، والروح، والقدرة الخلاقة "الكامنة" لدى الانسان، بحيث اصبح الفن "لا يعبر عن حقيقة خارجية، وانما يعبر عن حقيقة داخلية"، وما يتبع ذلك من ضرورة الحديث حول "الحافز" الذي يدفع مبدعاً "للانفعال" والذي بناء على قوته او ضعفه تتمايز الانفعالات من حيث العمق او التسطيح، وهو ما يترتب عليه القيمة الفنية للعمل الابداعي بالطبع، على اعتبار نظرية التعبير الانفعال "زاوية اكتمال التجربة". وهنا يرى جابر عصفور انه "لم يكن من قبيل المصادفة ان يربط كروتشة بين "الانفعال" و"الحدس" و"التعبير"، وحسب كروتشة، فإن الحدس هو التعبير، والانفعال هو ما يمنح الحدس وحدة ما، ومن ثم لا يكون الحدس اصيلاً ما لم يمثل انفعالاً اصيلاً.
كذلك فإن مساءلة النظرية تدفع الى مراجعة مساءل نظرية اخرى، في ظل رؤية نظرية التعبير - السابقة - للفن، من قبيل دور "الوعي" في عملية الابداع، وما الفارق بين "الوصف" و"الانفعال" و"التحليل". انه المأزق الذي جعل كروتشة ينفي "الطرق" و"الدرجات" المتفاوتة في التعبير. ويرى جابر عصفور ان التمييز بين "الوصف" باعتباره اداة العقل، وظاهري العمل، وبين "التعبير" باعتباره قرين الحدس وباطن العمل، هو ما فرض بروز معضلة الاداة في الادبيات النقدية لنظرية التعبير، اذ لم يكن فهمهم للاداة بمعزل عن رؤيتهم السابقة للفن والغاية منه، ذلك الفهم الذي دفع البعض نقاداً ومبدعين الى الصراخ انقاذاً من "عجز اللغة" احياناً عن التعبير عن انفعال المبدع "الفريد". تلك النظرية انسحبت الى "المبدع" باعتباره شخصاً مميزاً، لا يجب ان يخضع للمواصفات والتقاليد والقواعد اثناء ممارسته لفعل الابداع، بينما - وهذا تناقض واضح - يجب عليه ان يعبر عن "تفرده" هذا بلغة هي اداة ذات صفات مشتركة، لها طابع عام وقوانين ومواضعات!! وهنا يؤكد الكتاب "ان التسليم بخصوصية سابقة على تجسيد الانفعال لغة يعني التسليم بنوعين مغايرين من وجود الانفعال: وجوده الداخلي في النفس، ووجوده الخارجي في اللغة، وذلك تسليم يفصل بين اللغة والفكر في نظرية يزعم غير واحد من فلاسفتها التوحيد بينهما".
يولي الكتاب في مراجعته للبنيوية - بمدارسها المختلفة - اهمية لتجارب البدايات عربياً والتي اخذ الإشكال الاصطلاحي تعريفياً جزءاً من رؤاها تعريفية الطابع انذاك، حيث سبق محمود امين العالم الى اصطلاح "الهيكلية" في تقديمه البنيوية الفرنسية "للمرة الاولى في مصر" في مقاله الاسبوعي من مجلة "المصور" بعنوان "نقد جديد ام خدعة جديدة" 21/10/1966 وكان المقال نقداً مبكراً للبنيوية الشكلية، وهو ما يتفق مع مرجعية العالم وقناعاته الفكرية المنبثقة من بينوية "لوكاتش" استاذ لوسيان غولدمان، وهو الامر نفسه الذي يبرر عدم حماسة "العالِم" - فيما بعد - لأفكار غولدمان التجديدية رغم هاجس البحث - آنذاك - عن "منهج جديد للنقد الادبي"، وربما كان في اعطاء البنيوية التوليدية اهتماماً اكبر للتاريخ وحركة المجتمع عقلياًَ واجتماعياً، ما له الاثر في قناعات العالم برؤية "لوكاتش" وهجومه على البنيويين الشكليين الذين حاولوا الهروب من فكرة "حركة المجتمع". ويشير الكتاب الى البداية المتأخرة للبنيوية عربياً حيث صعدت هنا بعد انهيارها في موطنها. فقد رفع الطلاب في تظاهرات 1968 شعار "تسقط البنيوية" في حال من التمرد العام على النظم والانساق والبنية. ربما تكون استطاعت مواصلة الصعود في اميركا طوال عقد السبعينات بنجاح خصوصاً بعد نقل دريدا المعركة البنيوية الى هناك، عندما وضع البنيوية تحت مجهر المراجعة الجذرية في بحثه اللافت "البنية واللعب والعلامة في خطاب العلوم الانسانية" والذي طرح فيه نقضاً جذرياً لأفكار المدرسية الفرنسية ممثلة على الخصوص في بنيوية دي سوسير وكلود ليفير شتراوس. وسرعان ما انتبهت جامعة "ييل" الاميركية لأفكار دريدا النقضية، وتحلّق حوله اكاديميو "ييل" و"قادوا معاً ثورة مضادة على البنيوية". برز من هؤلاء الناقد البلجيكي الأصل "بول دي مان"، و"جيو فري هارتمان" و"جوزيف هيلز ميللر".
بنيوية المؤلف "التوليدية"
يرى جابر عصفور اصطلاح "البنيوية التوليدية" مرضياً لترجمة مصطلح STRUCTURALISME GENETIOVUE الفرنسي الأصل، وهو ما يشير الى اصطفاء نوعي يجدد وعيه النقدي ويمثل القناة المعرفية التي تصب فيها رؤاه النقدية، وتنبع منها في أصولها لدى لوسيان غولدمان الذي مارس سحره على المؤلف عندما نشر مقاله "علم اجتماع الادب: الوضع ومشكلات المنهج" في المجلة الدولية لعلم الاجتماع 1967، وهو تاريخ البداية الحميمة معرفياً بين المؤلف والاستاذ غولدمان الذي مثلت لرؤيته - من وجهة نظر جابر عصفور - طبيعة جدلية اكثر تخفيفاً - من حيث المنهج - لمثالية هيغل عن وحدة الذات والموضوع في الفكر. "ولم يكن هذا الفهم لموضوعية البحث في العلوم الانسانية من غير غلو في ادعاء الحيدة المطلقة او التطابق المنهجي مع العلوم الطبيعية، هو وحده الذي جذبني الى افكار غولدمان، فقلد كان هناك الايمان بالوظيفة الاجتماعية للبحث في العلوم الانسانية التي ينتسب اليها النقد الادبي". كان هذا اتجاهاً جديداً في النقد الادبي آنذاك، كأحد اهم اتجاهات ما بعد "النقد الجديد" من ناحية و"نظرية الانعكاس" من ناحية اخرى. وقد ظلت المعرفة النقدية عربياً في مراوحة بين هذين القطبين فكرياً، الى ان حدثت هزيمة 1967 ففرضت ضرورة إعادة النظر في الرؤى والافكار، كذلك طرحت اهمية مساءلة الذات والنظر الى الغايات بفهم جديد. من هنا اعتبر "النقد الجديد" معبراً عن ليبرالية العالم الرأسمالي، و"نظرية الانعكاس" معبرة عن المعسكر الآخر، الاشتراكي، ومن ثم تم نقضهما باعتبارهما النظريتين اللتين كانتا تعبيراً عن الاستقطاب الاوسع في العالم آنذاك.
غولدمان: العالم كأنطولوجيا
يتداخل الكتاب فكرياً مع رؤية العالم عند لوسيان غولدمان مراجعاً اياه في ارتكاز رؤيته تلك للعالم باعتباره كياناً وجودياً انطولوجياً، من حيث فهم معرفي أساسي "للعلاقة بين الاجزاء والكل داخل بنية من منجزات الانتاج الثقافي بما فيها الادب من ناحية، وفهم العلاقة بين أبنية الانتاج الثقافي ببعضها البعض من ناحية اخرى". وقد سبق جيمسون الى تأكيد تلك العلاقة الجدلية بين الذات والموضوع "في البحث المنهجي" وهو ما يعطي للأوضاع التاريخية للمجموعة الاجتماعية او الطبقة. وهو ما يفتح مفهوم "البنية" على التاريخ من ناحية اخيرة. ويلتقي المنحى السابق في البحث المنهجي مع مفهوم لوكاتش حول "الكلية الاجتماعية" حيث يعتبر العالم "بنية شاملة تهدف بنسقها المتلاحم الى تطويع الموقف الذي تعانيه الطبقة او المجموعة" وهو ما يعني لدى غولدمان "خط متلاحم من المشاكل والاجابات". وحسب المعنى السابق فلا يمكن رؤية الادب باعتباره "مجموعة من الأعمال المتناثرة ذات عناصر تراكمية او متجاورة فقط" بقدر ما يجب رؤيته غير منعزل عن الابنية التي تنتظم كل عمل ادبي على حدة، من بنية - اوسع - من العناصر المتلاحمة. وهو ما يبدو معه الادب او الفن شأنه شأن اي إبداع آخر، عملاً فردياً وجماعياً في ان واحد: جماعي من زاوية الوعي الجمعي الذي تنطوي عليه مكونات رؤية العالم، وفردي من زاوية ان الاصالة الادبية تكمن في القدرة على التعامل مع هذه المكونات الخاصة للوعي الجمعي، وتنظمها في عمل ينطوي على أقصى درجة من التلاحم والوحدة.
ان التركيز على "الوحدة" و"التلاحم" في رؤية العالم لدى مفكر مثل غولدمان، قد يكون أحد التناقضات التي وجهها اليه معارضوه. ويرى جابر عصفور "أن غولدمان الذي يزعم انه جدلي، يتخلى عن الجدل في ادراك الحقيقة الجمالية" اذ الوحدة والتلاحم - في رأيه - يلغيان الصراع الذي تنطوي عليه تلك الحقيقة، ومن ثم تبقى "الوحدة" لدى غولدمان وحيدة الجانب، ويبدو "التلاحم" ايضاً "نوعاً من التمسك ببنية ساكنة تقوم على مركز او مراكز ثابتة" وهو ما يلغي "التعارض" في سبيل "التلاحم" مما يعبر عن نزعة "دوغماطية" تؤثر التوحيد. وبعد مداخلة نقضية عميقة تراجع البنيوية لدى غولدمان على الاخص فإن جابر عصفور يرى ان غولدمان قد اقترب في بعض اقواله الاخيرة من "ادراك طبيعة الحقيقة الجمالية بوصفها مجاوزة" لقطبي التنوع والوفرة الحسية من ناحية، والوحدة التي تنتظم هذا التنوع في كل متلاحم من ناحية اخرى".
لقد حاول غولدمان تجنّب مزلق النزعة النسقية المغالية، فكتب عن ضرورة "ان يكشف الناقد في كل عمل فني عظيم عن القيم المرفوضة التي تقمع الرؤية التي تصنع وحدة العمل"، وهو بذلك يبرز اهمية التنوع، القطب الثاني الموازي للوحدة او "التلاحم"، بحيث ينهار "اي معنى للاطلاق" في هذا التعدد. لكنه لم يُسعَف - من العمر - ليمضي مع هذه النتيجة حتى نهايتها المنهجية، فتركها شاهداً على نوع من المراجعة الذاتية، التي تعد في جانب منها استجابة موجبة للنقد الموجه له من ممثلي الجناح الضدي في النقد الماركسي. انها ذات المسؤولية الفكرية التي فرضت نفسها على أفق كتاب جابر عصفور أيضاً، بحيث يمكن اعتباره في محصلته النهائية نوعاً من نقد النقد، أو مراجعة الذات النقدية، فيما يشبه رصداً واعياً وحميماً لسيرة وعيه النقدي النظري، الذي لم تمنعه موضوعيته من نقد منهجي لأصوله المرجعية في أحد أهم مصادرها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.