بدأت الإدارة الأميركية تدرك أخيراً أنها تواجه معضلة حقيقية في العراق بعدما أصبح واضحاً للعيان عجزها التام عن السيطرة على الوضع الأمني وعدم امتلاكها أي وسيلة فاعلة لوقف نزيف الدم الذي يتزايد هناك يوماً بعد يوماً. كما باتت هذه الإدارة مدركة أيضاً حقيقة أن المسألة العراقية ستفرض نفسها، شاءت أم أبت، على الانتخابات الرئاسية الأميركية التي بدأت عجلة الاستعدادات لحملتها الكبرى تتحرك. ولأن الهدف الأول والأخير لأي رئيس أميركي هو الفوز بفترة رئاسية ثانية، فمن المؤكد أن اختيار الإدارة الحالية من بين البدائل المتاحة أمامها لمواجهة الموقف المتأزم في العراق سيتقرر على أساس مدى تأثير كل منها في شعبية الرئيس، وبالتالي في فرص فوزه في الانتخابات، وليس بالضرورة في مدى فاعليتها الاستراتيجية لحسم معركة العراق لمصلحة الولاياتالمتحدة. وهناك دلائل عدة تشير إلى أن الإدارة الأميركية بدأت تحس بالخطر من الاحتمالات السيئة لاستمرار سياستها تجاه العراق على ما هي عليه، وأن البدائل المتاحة أمامها لمواجهته تبدو محدودة، ما يجعل من مأزقها الحالي في العراق مأزقاً مزدوجاً. فحرص الرئيس بوش على الفوز في الانتخابات سيجبره على اعتماد خيارات قد تلحق به ضرراً استراتيجياً يحد من قدرته على الانتصار النهائي في حرب العراق. وإذا حدث ذلك فستبدو خسارة الولاياتالمتحدة للحرب في العراق وكأنها الثمن الذي يتعين عليها أن تدفعه مقابل إصرار الرئيس بوش على كسب معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة مهما كان الثمن. وفي تقديري أنه لن يكون بمقدور الرئيس بوش كسب انتخابات الرئاسة والحرب في العراق معاً إلا في حالة واحدة فقط وهي أن ينجح في إعادة القوات الأميركية المحاربة في العراق إلى أرض الوطن قبل تشرين الثاني نوفمبر 2004، وتنصيب حكومة عراقية موالية وقادرة على السيطرة على الوضع الأمني في الوقت نفسه، وهو أمر يبدو مستحيلاً بكل معنى الكلمة في ظل الظروف الراهنة. فالانسحاب المتعجل للقوات الأميركية يفتح الباب أمام أحد احتمالين: سيطرة حكومة عراقية معادية، أو اندلاع حرب أهلية في العراق. وفي كلتا الحالتين تكون احتمالات الخسارة مزدوجة: خسارة الولاياتالمتحدة للحرب وخسارة الرئيس بوش للانتخابات. وتنصيب حكومة عراقية موالية قادرة على ضبط الأوضاع الأمنية يتطلب بقاء القوات الأميركية في العراق لفترة زمنية أطول بكثير مما تتطلبه مقتضيات الحملة الانتخابية، إذ تبدو الفترة الزمنية القصيرة التي تتيحها للإدارة الحالية سيفاً مسلطاً على رقبتها. وبقاء القوات الأميركية خلال الحملة الانتخابية يعرضها للمزيد من الخسائر في الأرواح، ويزيد بالتالي من احتمالات خسارة الرئيس بوش لانتخابات الرئاسة. وهنا نلاحظ أن المقاومة العراقية بدأت تركز هجماتها في الفترة الأخيرة على القوات غير الأميركية المتواجدة في العراق كي تردع الدول الأخرى وتثنيها عن إرسال قوات تخفف العبء على القوات الأميركية. في هذا السياق لا يبقى أمام الإدارة الأميركية الحالية، في تقديري، سوى بديلين لا ثالث لهما. الأول: نقل السلطة إلى حكومة عراقية موقتة توكل إليها صلاحيات واسعة، بما في ذلك مسؤولية حفظ الأمن، بما يسمح بخروج القوات الأميركية من المناطق السكنية وإعادة انتشارها وتمركزها في مواقع حصينة بعيدة عن المدن الرئيسية تقلل من احتمالات تعرضها للهجوم. البديل الثاني: تصعيد الموقف برمته عن طريق تهيئة الظروف المناسبة لافتعال أزمة يكون هدفها الأساسي إسقاط النظام في إيران أو في سورية أو فيهما معا، تأسيساً على مقولة أن الشعب الأميركي يلتف حول رئيسه عادة في أوقات الخطر والأزمات. ويبدو أن الإدارة الأميركية حسمت خيارها، موقتاً، لمصلحة الخيار الأول، لكن الخيار الثاني يظل في تقديري وارداً لأسباب سنتعرض لها في ما بعد. تدلّ المؤشرات الى أن الإدارة الأميركية حسمت خياراتها، في المرحلة الراهنة، لمصلحة البديل. فخلال الأسبوع الماضي تم استدعاء السفير بول بريمر، الحاكم الأميركي للعراق، إلى واشنطن للتشاور، وصدرت عقب زيارته تصريحات رسمية تشير إلى أن الإدارة الحالية تعكف بجدية على دراسة السبل الكفيلة بنقل السلطة إلى حكومة عراقية موقتة ذات صلاحيات واسعة قبل نهاية العام المقبل، أي قبل موعد الانتخابات الرئاسية. ومعنى ذلك أن النية تتجه إلى تغييرات جوهرية في الخطط الأميركية في العراق اضطرت إليها الإدارة الحالية تحت المقاومة العراقية العنيفة حيث بدأت تقبل الآن ما كانت ترفضه منذ أقل من شهر واحد حين كانت الدول دائمة العضوية تحاول تضمين قرار مجلس الأخير حول العراق جدولاً زمنياً واضحاً لعملية سياسية يتمكن الشعب العراقي في نهايتها من اختيار حكومة ديموقراطية. غير أن هناك فرقاً كبيراً بين انعقاد عزم الإدارة الأميركية على نقل السلطة إلى حكومة عراقية موقتة، وبين قدرتها على إنجاز تلك المهمة. فلكي تنجح الحكومة الموقتة في ضبط الأوضاع وتمكين القوات الأميركية من إعادة انتشارها وتمركزها في مواقع جديدة آمنة، يجب أن تكون هذه الحكومة مستقلة فعلاً وقادرة على اتخاذ قراراتها بعيدا عن سلطة الاحتلال الأميركي، وهو أمر يتعذر حدوثه إلا في حالة واحدة فقط وهي أن تجري العملية السياسية بكاملها تحت سلطة وإشراف الأممالمتحدة، ابتداء من تشكيل الحكومة العراقية الموقتة وحتى إقرار الدستور وقيام حكومة ديموقراطية منتخبة، وهو أمر لا تزال الولاياتالمتحدة ترفضه بإصرار ولا توجد أي مؤشرات تدل على أنها يمكن أن تقبله في المستقبل القريب أو البعيد إلا إذا اضطرت لذلك اضطراراً. لذلك يبدو لي أن التغيير المقترح في الخطط الأميركية يستهدف فقط "عرقنة" الحرب، أي تحويلها إلى حرب عراقية - عراقية تدعم الولاياتالمتحدة أحد طرفيها، وليست حربا بين "قوات الاحتلال الأميركي" و"قوات المقاومة العراقية". وفي هذا السياق يصبح نقل السلطة المقصود هو مجرد تفويض الشريحة العراقية المتعاونة مع الاحتلال بخوض الحرب نيابة عنه ضد الشرائح الرافضة له، إلى أن تنتهي الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثم تعود لتأخذ زمام الأمور بيدها مباشرة وتواصل مشروعها في لبنان إلى أن تتمكن من هندسة عراق جديد. و لا يخالجني أي شك في ان العراق الجديد المطلوب هو عراق مقطوع الصلة بعروبته وبإسلامه ومخترق بالكامل من جانب إسرائيل. وفي تقديري أن فرص نجاح هذا الخيار محدودة، وذلك للأسباب الآتية: 1- ان الحكومة الموقتة المطلوبة يجب أن تكون قادرة على اتخاذ القرارات الفورية والسريعة، وبالتالي يجب أن تكون حكومة مركزية مشكلة على أسس غير طائفية. وسوف يستحيل على الاحتلال الأميركي أن يشكل، في الظروف الراهنة، حكومة عراقية على أسس غير طائفية تحظى بقبول وارتياح الجميع. 2- انها يجب أن تكون قوية وقادرة، من وجهة النظر الأميركية على الأقل، على دحر المقاومة المسلحة وتفكيك بنيتها. لكن المشكلة أن هذه الحكومة لا تملك الأدوات اللازمة للقيام بالمهمات المطلوبة منها. فالجيش وأجهزة الأمن والشرطة تم حلها جميعاً، ويعاد بناؤها على أسس جديدة، ترضي المعايير الأيديولوجية الأميركية، يحتاج إلى سنوات، والمهلة الانتخابية المتاحة محدودة. ومعنى ذلك أن الحكومة العراقية الموقتة ستعتمد اعتماداً كاملاً ومباشراً على القوات الأميركية، وهو ما قد يؤدي إلى إضعافها ثم إلى عزلها وأخيرا إلى استهدافها بغية إسقاطها. 3- ان مشاركة القوات الأميركية مباشرة في عمليات الدهم والقتال ضد المقاومة سيعرضها لخسائر مستمرة، لا يوجد ما يشير إلى أنها ستكون أقل بالضرورة. ومعنى ذلك أن الإدارة الأميركية سرعان ما ستجد نفسها في طريق العودة إلى نقطة الصفر مرة أخرى، في ظل حملة انتخابية تزداد ضراوة يوما بعد يوم ويشتد إلحاح الأسئلة الهائمة بلا إجابة حتى الآن حول أسبابها الحقيقية في ظل انكشاف كذب أسلحة الدمار الشامل. وهنا قد تجد الإدارة الحالية نفسها في حالة هروب إلى الأمام عن طريق تصدير مأزقها الداخلي إلى الخارج بافتعال أزمة مع إيران وسورية. وفي هذا السياق يصبح الخيار الثاني الذي سبقت الإشارة إليه وارداً تماماً. ربما يعتقد البعض أن اللجوء إلى مثل هذا الخيار هو نوع من الجنون قد يكون واردا بالنسبة إلى دولة تسلطية يحكمها فرد معرض، لسبب أو لآخر، للاصابة بلوثة أو بخلل عقلي يدفعانه إلى اتخاذ قرارات غير رشيدة، لكنه ليس وارداً بالنسبة إلى دولة تحكمها مؤسسات تخضع للمساءلة والمحاسبة على مستويات عديدة. ورغم أنني أعرف أن كثيرا من المثقفين المصريين والعرب، لا يزالون، رغم كل ما حدث، يحسنون الظن بالإدارة الأميركية الحالية، بحسن نية أو بغير ذلك، وأن صوتهم يبدو زاعقا في وقت يفترض فيه أن يتواروا خجلا، إلا أنني لا أشاطرهم رأيهم هذا، وذلك للأسباب الآتية: 1- اننا بصدد إدارة أميركية من النمط العقائدي، من النوع البراغماتي النمطي أو التقليدي المعهود. ولأن الرؤية أو العقيدة التي تحكم سلوك هذه الإدارة هي رؤية يمينية شديدة التطرف ومبنية على مقولات تصل إلى حد العنصرية، فلا أتوقع منها أي سلوك رشيد على الإطلاق. وهي في رأيي لا تختلف كثيرا، من حيث دوافعها ومنطلقاتها ودرجة عنادها، عن أي إدارة نازية أو فاشية أو ستالينية. 2- ان أي مؤسسات ديموقراطية قد تتعرض، خصوصا في مرحلة الأزمات الحادة، للاختطاف أو للشلل، وهو ما حدث كثيرا في التاريخ. والمؤسسات الأميركية ليست استثناء. ولأن المجتمعات الديموقراطية قابلة لإفراز زعامات من أمثال هتلر وموسوليني وشارون وجورج دبليو بوش، فهي أيضاً مجتمعات قابلة للتخدير وللتغييب، ولو موقتاً، من خلال دغدغة المشاعر والنعرات الوطنية أو القومية أو الطائفية، وهو ما حدث للمجتمع الأميركي بعد 11 أيلول سبتمبر. فجورج دبليو بوش نجح بالتعويض في ملحق المجمع الانتخابي، بعدما رسب في امتحان الاقتراع العام بحصوله على أقل من 50 في المئة، لكنه ما لبث أن أصبح بطلا قوميا يهتف باسمه 85 في المئة من الشعب الأميركي في لحظة غيبوبة لم تنته بالكامل بعد. 3- أن إسرائيل أصبحت شريكاً كاملاً في صنع القرار الأميركي لأسباب لا تتعلق بالمصالح الاستراتيجية المشتركة وحدها، ولكن أيضاً، وهذا هو الأخطر، لأسباب عقائدية معروفة. ومحاربة الأصولية الإسلامية أصبحت عقيدة أميركية إسرائيلية مشتركة وليس مجرد هدف سياسي يتخفى تحت شعار "الحرب العالمية ضد الإرهاب". وكما كانت الأوساط الموالية لإسرائيل هي أشد الأوساط تحريضا لضرب العراق فستصبح كذلك أكثرها تحريضا لإسقاط النظام الحاكم في إيران كمقدمة تراها ضرورية لتصفية حزب الله اللبناني ومنظمات حماس والجهاد الفلسطينيتين، ومن دونه لا يصبح الطريق ممهداً لإعادة تشكيل خريطة المنطقة. لهذا السبب لا أستبعد أن يلجأ اليمين الأميركي المحافظ إلى المبالغة في تضخيم الخطر الإيراني باعتباره "رأس الأفعى الإرهابية" التي يتعين فصلها لكسب الحرب ضد الإرهاب، خصوصاً إذا دخل الخيار الأول في مأزق ينذر بخسارة الانتخابات المقبلة. ربما يدرك اليمين العنصري في الولاياتالمتحدة أن ضرب إيران هو مقامرة كبرى غير مأمونة العواقب، لكن أوهامه الأيديولوجية قد تزين له في الوقت نفسه بأن الشعب الأميركي سيلتف حول العلم ثانية، خصوصاً إذا كان الصيد ثميناً هذه المرة وفي حجم إيران. ألم يفعلها هتلر من قبل مع الاتحاد السوفياتي ضارباً عرض الحائط بكل العواقب المحتملة؟. * كاتب وأكاديمي مصري.