ليس سراً أن الولاياتالمتحدة الأميركية قد استغلت الجريمة الإرهابية التي وقعت يوم 11أيلول من العام 2001م، وان هذا الحدث كان نقطة تحول في سياسة أميركا تجاه العرب والمسلمين، وهي اعتبرت أن هذه المنطقة هي مصدر خطر عليها ووصفت مجتمعاتنا بأنها تمثل بيئة يترعرع فيها التطرف، وأخذت الصالح بجريرة الطالح، ولم تلتفت إلى أن نسبة المتشددين في المجتمعات العربية والإسلامية ضئيلة وأنها لا تصل إلى واحد بالألف ولم تكن هذه الحركات المتطرف ذات أثر إلا في حالات معينة وأقطار محددة تعرضت لتقلبات سياسية وتغيرات وانقلاب في المواقف، كما هو الحال في المثال الجزائري في مرحلة ما ولكن كل هذه الظواهر ظلت شأناً داخلياً. وقد كانت الإدارة الأميركية المحكومة بعقلية اليمين الديني المتطرف بحاجة إلى صدمة مثل 11أيلول لتبدأ مشروعها العولمي الامبراطوري ضد هذه المنطقة وليس لأنها تريد محاربة الإرهاب كما تدعي، بل لأنها على العكس تريد توليد إرهاب أوسع عبر السياسات الاستفزازية وقد بات مؤكداً أن التشدد والتطرف قد تزايد في المنطقة بعد احتلال أفغانستان وبعد احتلال العراق وبعد اندفاع أميركا في تأييد السياسات العنصرية الصهيونية التي يقودها شارون عبر المجازر اليومية والانتقام العشوائي من كل الشعب الفلسطيني. أما أخطر ما سببته السياسات الأميركية التي تقودها الإدارة الحالية فيتمثل في خلق تأييد خفي وتعاطف يائس مع المجموعات الإرهابية وهذا التعاطف لا يعني التأييد مع هذه الفئات الظلامية ولكنه مثل حالة رفض وكراهية للسياسة الأميركية التي تقوم على الاستكبار والعدوان وتدعي أنها تريد الإصلاح بينما تعمل بكل الوسائل لتدمير المنطقة وإرباكها ومحاولة تفكيكها وكل ذلك مفهوم لو أنه يتم خدمة للمصالح والأطماع والطموحات الامبراطورية الأميركية، إلا أن أسوأ ما في هذه السياسات اليوم هو أنها تنفذ خدمة لصالح المشروع الصهيوني في المنطقة. وتسعى الولاياتالمتحدة الأميركية إلى تنفيذ سياساتها الراهنة بكل الوسائل وهي تريد أن تثبت للعالم بأنها لا ترى في الحرب طريقاً وحيداً لتحقيق أهدافها، وتحاول من خلال تعاملها مع العديد من الأقطار العربية وخاصة التي كانت تسميها محور الشر أن تترك الباب مفتوحاً أمام أنظمة الحكم في هذه البلدان لتعيد تأهيل نفسها لتكون مقبولة في النظام العالمي الجديد ومتطابقة مع الاشتراطات والمتطلبات الأميركية، بالإضافة إلى تخلي كل هذه الأقطار عن دورها كقوة اعتراض ضد مشروع التسوية في المنطقة الذي انطلق برعاية أميركية في مؤتمر مدريد في العام 1991وإذا كانت عناوين التسوية في مدريد واضحة ومحددة فقد عقد مدريد آنذاك بإرادة أميركية وشروط إسرائيلية ولكن في ذلك الوقت تمت مراعاة الوضع العربي بعد حرب الخليج الثانية حيث أطلقت الولاياتالمتحدة الأميركية وعوداً بحل يقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام وادعاء الالتزام بالشرعية الدولية لكن تداعيات التسوية بعد "أوسلو" وبعد فشل قمة كامب ديفيد في العام 2000أفرزت واقعاً جديداً وعقيدة سياسية أميركية - صهيونية تتبنى تصفية القضية الفلسطينية بفرض الأمر الواقع. واستناداً إلى ما ذكرنا فإن سياسة الترهيب قد أبرزت وطبقت بشكل صارخ عبر احتلال أفغانستان والعراق عبر الحرب الشاملة واحتلال البلدين ليكون ذلك نموذجاً وعبرة ودرساً وأسلوباً للتعامل، وقد سارعت الدول المطالبة بتغيير سياساتها وتغيير جلدها إلى عمل كل ما يمكن لتنال رضى أميركا وعلى سبيل المثال فإن نظاماً مثل النظام الليبي قد انقلب على كل طروحاته وسياساته وبدأ يتذلل لأميركا ويهرول لكسب ودها ويدفع المليارات ويعادي أمته ويتبنى طروحات ويقدم تنازلات تقربه من أميركا، كما أن إيران فعلت كل ما بوسعها للتأهل وتجنب الصدام العسكري مع أميركا، وقد أظهرت سوريا مرونة وحكمة، لكن أبرز الأمثلة على إعادة التأهيل كان النموذج السوداني الذي أرادته أميركا نموذجاً مغايراً ويمكن القول ان العام 2005م قد بدأ بداية سعيدة بالنسبة للسودان وذلك بتوقيع الاتفاقية التي أنهت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وقد كان مفترضاً أن تنجز هذه الاتفاقية وتوقع في بدايات العام المنصرم لولا ان هنالك الكثير من التعقيدات اعترضتها ولكن هذه الاتفاقية تأثرت بصراع داخلي سوداني برز بعد أن بدأت تباشير التوصل إلى اتفاق في الجنوب، وهنالك تشاؤم بأن تؤثر الأوضاع في "إقليم دارفور" على اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب حتى بعد توقيعها، ولكن هذا التشاؤم يقابله تفاؤل وهو أن يساعد اتفاق الجنوب والشمال على حل الخلافات في "دارفور" لكن هذا الاتفاق يمتلك مقومات النجاح لأن أميركا هي التي ترعاه ومعنية إلى حد كبير بنجاحه. وما تعنينا الإشارة له هو أن الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في مطلع هذا العام ينهي نزيف الحرب التي دامت أكثر من 20عاماً كما أن وقف الصراع لابد أن يكون مقدمة لأمن واستقرار السودان والحفاظ على وحدته وفتح الأبواب نحو المستقبل الأفضل للشعب السوداني. أما في الإطار السياسي العام للسودان ولافريقيا وللمنطقة وللأمة العربية فإننا كنا نتمنى لو ان هذا الاتفاق تم التوقيع عليه في عاصمة عربية هي القاهرة حيث مصر هي أكبر دولة عربية وأهم دولة افريقية، ولكن الاتفاق تم توقيعه في بلدة "نيفاشا" الكينية وحمل دلالات على أن حل مشكلة السودان قد تم في الإطار الافريقي وبتأكيد أن مبادرة "الايغاد" كانت مرتكز الحل لهذه المشكلة، والمؤسف أن الدور العربي في حل مشكلة جنوب السودان كان متواضعاً بل كان معدوماً عملياً لكن الدور الافريقي أيضاً كان دوراً ظاهرياً وشكلياً، فالدور الأساسي في حل هذه المعضلة كان مع الأسف الشديد دوراً أميركياً.. فحكومة الولاياتالمتحدة الأميركية هي التي غذت هذا الصراع خاصة في السنوات الأخيرة، وقد حرصت أميركا على زيادة حدة الخلافات وسلمت حركة التمرد وشجعتها على رفع وتيرة العنف وأججت الحرب المشتعلة وإلى حد كبير شعرت الحكومة السودانية ان الدور الأول والأساسي في حل الصراع هو الدور الأميركي، ولذلك سعت الخرطوم بكل الوسائل إلى إعادة تأهيل نفسها لتكون مقبولة من الولاياتالمتحدة الأميركية وغيرت بشكل خاص شكل النظام الإسلامي الذي كان قائماً في السودان حيث قررت إقصاء الشيخ حسن الترابي وحزبه من السلطة وتجميد كل النشاطات العقائدية، وكان ذلك يفتح الطريق أمام تسهيل التفاهم السياسي بين نظام الحكم في الخرطوم وبين حركة التمرد بقيادة جون قرنق التي ترفض الاتحاد مع دولة ذات طابع ديني إسلامي عقائدي. وكما هو واضح فإن الولاياتالمتحدة الأميركية تعتبر هذا الاتفاق أحد إنجازاتها بل أبرزها في القارة الافريقية واعتبرته أحد انتصارات سياساتها الخارجية وكما يحمل الإيماء بأن الولاياتالمتحدة الأميركية ليست دولة حرب نفط وأنها تسعى للتغيير بالوسائل السلمية لكن إذا وجدت ذلك متعذراً فإنها لن تتردد في استخدام القوة كما أكد ذلك دونالد رامسفيلد في مناسبة سابقة عندما كان يتحدث عن المسألة السودانية حيث هدد باجتياح السودان بعد أن هدد بفرض عقوبات عليه، ولكنه كان يردد دوماً أن فرض عقوبات على السودان بات ضرورياً لكن الحرب لن تكون مستبعدة فيما لو دعت الحاجة لذلك. وحسب وجهة النظر الأميركية فقد تمكن النظام السوداني من التأهل وتمكن من إنجاز المطلوب منه كما تمكن من تجنب الحرب والاحتلال..!!! وفي كل الأحوال فإن إنجاز الاتفاق بين الشمال والجنوب هو لصالح الشعب السوداني حتى لو كان تحت وطأة الهيمنة الأميركية، كما أن الفرح والزهو الأميركي بإنجاز هذا الاتفاق لا يقلل منه فقد وصفه وزير الخارجية الأميركية بأنه انتصار تاريخي وقال باول: "إن الولاياتالمتحدة سوف تدعم بقوة تطبيق اتفاق السلام الذي سيبدأ بعد احتفالات التوقيع في التاسع من الشهر الحالي من أجل إعطاء دفع للاستقرار والازدهار والديمقراطية في سودان موحد". ولكن ومع عدم جهلنا بالنوايا الأميركية ومعرفتنا أن الولاياتالمتحدة الأميركية تعمل لخدمة مصالحها أولاً وأخيراً فإن هذا الاتفاق تحول هام إيجابي في حياة الشعب السوداني. وإذا كان التفاهم الأميركي السوداني نموذجاً فإن احتلال العراق هو النموذج المقابل لكن في الحالتين وفي كل الأحوال الأخرى فإن تطورات الحالة العراقية والسودانية وكل التطورات الأقل دراماتيكية في المنطقة هي حصيلة الصدمة والتداعيات التي تلت 11أيلول من العام 2001م وكان الحدث مبرمجاً وكانت كل فصول السيناريو مدروسة ومعدة سلفاً وضمن تخطيط محكم. أما ذروة المأساة على الصعيد العربي والإسلامي فهو إصرار الولاياتالمتحدة الأميركية على توظيف كل قدراتها وتغول قوتها وانفرادها في حكم العالم ابتداء من السيطرة والهيمنة على منطقتنا لهدف واحد وهو تسخير كل امكانياتها وكل سياساتها لخدمة المشروع الصهيوني الرامي إلى تصفية القضية الفلسطينية، فهي تريد أن تتحول هذه المنطقة إلى قالب "جاتوه" تقطعه بسكاكينها الماضية على مقاس الجشع الإسرائيلي.. وهكذا فإن كل خيارات أميركا السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية هي أسلحة في يد الصهاينة وعصابة اليمين الديني المحافظ والمتصهين والمتطرف الذي يحكم البيت الأبيض اليوم حيث لا تخفي المجموعة الحاكمة فكرها وموقفها فهي على يمين شارون وأكثر تشدداً من غلاة الصهاينة، وكل ذلك يدفعنا إلى الاقتناع بأن الأنظمة العاقلة هي التي تجنب بلدانها وشعوبها الاحتلال وويلات الحروب كما تحافظ على أنظمتها في ظل هذه العاصفة العاتية التي بدأت بعاصفة الصحراء في عام 1990م ضد العراق لكنها بعد 11أيلول تحولت إلى عاصفة تهب على الجميع وفي كل الاتجاهات.