حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    الشيباني يحذر إيران من بث الفوضى في سورية    رغم الهدنة.. (إسرائيل) تقصف البقاع    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    تعزيز التعاون الأمني السعودي - القطري    المطيري رئيساً للاتحاد السعودي للتايكوندو    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    جدّة الظاهري    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ارتفاع مخزونات المنتجات النفطية في ميناء الفجيرة مع تراجع الصادرات    وزير الطاقة يزور مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل    الأزهار القابلة للأكل ضمن توجهات الطهو الحديثة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    %91 غير مصابين بالقلق    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    البحرين يعبر العراق بثنائية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    التشويش وطائر المشتبهان في تحطم طائرة أذربيجانية    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    حرس حدود عسير ينقذ طفلاً مصرياً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    ملك البحرين يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسألة الجنوب السوداني والأديان والاثنيات من خلال كتاب جديد : كيف يفكّر جون قرنق؟ وكيف يتصرف ؟؟
نشر في الحياة يوم 16 - 08 - 1998

كانت جامعة الخرطوم * - بعد الانتفاضة التي اطاحت حكم جعفر النميري عام 1985 - تفور كالمرجل وتصطخب بالافكار الجديدة الجريئة. وفي عام 1987 اعارني استاذ شاب في قسم علم الاجتماع المجاور لكليتنا - الآداب نسخة من كتاب بالانكليزية عنوانه: "جون قرنق يتحدث" وبه مقدمة طويلة كتبها الدكتور منصور خالد الذي عمل وزيراً للتربية ووزيراً للخارجية ابان ديكتاتورية النميري ثم صار مستشاراً لزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان الدكتور جون قرنق. كان انطباعي الاول هو: من سوء طالع الحركة الشعبية ان اول شمالي معروف انضم اليها فعل ذلك وهو يحمل امتعة سياسية نميرية عتيقة إذ ارتبط اسمه بحاكم عسكري انقلب عام 1969 على نظام ديموقراطي نيابي منتخب. ولم ينس له الكثيرون ذلك رغم الدور الايجابي الذي اضطلع به داخل نظام النميري حينما ساهم في التوصل الى اتفاقية اديس ابابا عام 1972 التي منحت البلاد احدى عشرة سنة من السلام.
اما اهم قسمات كتاب "جون قرنق يتحدث"، الذي أُعد قبل انتخابات عام 1986، فهي انه تنبأ بأن الانتخابات لن تحدث واثبتت الايام خطل توقعه، وادعى ان الانتفاضة لم تكن سوى انقلاب دبر خارج السودان بموافقة ومشاركة النميري ص 40،. ونفذه جنرالات النميري في الداخل!
وهذا تحليل يدل على تجاهل تام لدور الحركة الشعبية الديموقراطية في الشمال وهي حركة ذات تاريخ طويل وعريق. كما قال جون قرنق ان النميري كان شيوعياً ص 35، وهذه تهمة غريبة تدل على عدم معرفة بالتيارات والاشخاص في الساحة السياسية السودانية ربما تعود للحياة خارج السودان وعدم الالمام باللغة العربية.
وفي الكتاب، وعلى لسان زعيم الحركة الشعبية، عدة تعليقات معادية للوشائج العربية. فهو يقول: "نحن ولد صغير في الدول العربية" ص 127، ويقول: "لن يكون السودان بعد اليوم تابعاً لأي بلد آخر" يقصد مصر ص 60، وان الولايات الاميركية حاربت انكلترا رغم ان اوائل المهاجرين للولايات اتوا من انكلترا.
ماذا فعل قرنق؟
نُشرت كلمات جون قرنق هذه عام 1987. وتدفقت مياه كثيرة عبر بحر الغزال وبحر الجبل منذ ذلك التاريخ:
حارب جون قرنق الديموقراطية وساهم في تصديعها حتى تم اجهاضها للمرة الثالثة عام 1989 عندما استولى المتطرفون الملتحون على السلطة باسم الدين.
وانقسمت الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1991 على اسس قبلية اذ انشق الدكتور رياك مشار - من النوير - والدكتور لام اكول - من الشلك - الاستاذان السابقان بكلية الهندسة بجامعة الخرطوم واتهما جون قرنق بالتسلط والنزعة الديكتاتورية، ورفعا راية استقلال جنوب السودان وانفصاله عن الشمال في مواجهة مناداة جون قرنق بوحدة السودان على اسس جديدة.
وانتهى المطاف بهذين المنشقين الى التحالف مع حكومة الجبهة الاسلامية القومية تحت شعار "السلام من الداخل" الذي وقع رياك مشار اتفاقيته في ابريل نيسان 1997. وحدثت على صعيد الاحزاب والنقابات الشمالية المعارضة تطورات مذهلة اذ قبلت بالتحالف مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في اطار التجمع الوطني الديموقراطي الذي كوّن عام 1989 ووقعت عليه الحركة الشعبية في آذار مارس 1990.
تحالفت الحركة بذلك مع الحزبين الكبيرين اللذين كانت تحاربهما عندما كانا في السلطة قبل الانقلاب الاصولي الذي مارس قدراً من القهر الدموي المنظم بصورة مفزعة جعلت الحزبين الكبيرين يقتنعان بأن التحالف مع الحركة مُبرّر لاستعادة الديموقراطية ومؤسسات المجتمع المدني.
لكن تحالف القوى الشمالية غير المسلحة تاريخياً مع الحركة الشعبية الجنوبية المسلحة وضع هذه القوى في موقع الشريك الاضعف رغم ثقلها الجماهيري في الشمال. فسعت لفتح جبهات مواجهة مسلحة في الشرق والغرب، بيد ان البندقية الاكثر فعالية للتجمع هي البندقية الجنوبية. وهذا هو الاطار الذي وافقت فيه القوى الشمالية على حق تقرير المصير للجنوب، في مؤتمر القضايا المصيرية الذي انعقد بأسمرا 15 - 23 حزيران يونيو 1995، الامر الذي فتح الباب على مصراعيه لانشاء علاقات جديدة بين الحركة الشعبية ومصر.
اذا كان السودانيون الشماليون المعنيون مباشرة بالامر يوافقون على حق تقرير المصير للجنوب فان مصر التي يقلقها تاريخياً واستراتيجياً اي موقف سياسي من شأنه ان يؤثر على مياه النيل لا تملك الا ان تعيد النظر في بعض حساباتها. وبالفعل سعى القادة الشماليون وعلى رأسهم قادة الحزبين الكبيرين الى ازالة الشكوك المصرية وتحسين العلاقات بين الحركة ومصر. وهذه هي خلفية زيارة جون قرنق الى مصر والتقائه بقياداتها الرسمية والشعبية في نهاية عام 1997 اي بعد عشر سنوات من صدور الكتاب الاول.
انضم الدكتور الواثق كمير خلال هذه السنوات الى الحركة الشعبية لتحرير السودان ويرد اسمه كمحرر ومترجم للكتاب الذي يوثق هذه الزيارة المهمة.
ولا يحول اختلافنا مع الواثق كمير دون ان نسجل اعتباره مكسباً كبيراً للحركة الشعبية، فهو اكاديمي لا يحمل امتعة سياسية محرجة ولا عداوات سياسية، وهو واحد من كثيرين لم يحتلوا مكانهم الطبيعي في الحزبين الكبيرين بسبب الخلل في توازن التحالف بين المثقفين والقوى الحديثة من جانب والطائفتين من ناحية اخرى. ولسان حال الواثق وامثاله هو بيت المتنبي: "اذا ترحلت عن قوم وقد قدروا/ الا تفارقهم فالراحلون همُ".
فالحزبان الآن يبذلان بعض الجهد لعقد المؤتمرات واتاحة الفرصة للمواهب والمقدرات التنظيمية غير تلك التي يجذبها الولاء الطائفي الموروث. وحتى تظهر ثمرات هذه الجهود فان نفور الشباب واندفاعهم الى اقصى اليسار او الى تنظيمات التطرف الاسلامي سيستمر، وقد يتجهون - في الاحوال الاستثنائية النادرة حتى الآن - الى الحركة الشعبية لتحرير السودان التي اختارها الواثق كمير.
محتويات الكتاب وعناوينه:
يقع الكتاب في مئة واربع واربعين صفحة تبدأ بمقدمة وافية كتبها مثقفان مصريان رفيعا المكانة هما الدكتور صبحي عبدالحكيم الرئيس السابق لمجلس الشورى المصري والدكتور ميلاد حنا. الاول رئيس والثاني عضو المكتب التنفيذي "لاسرة وادي النيل" وهي جمعية دراسات مصرية/ سودانية اسست عام 1996 وتضم في مكتبها التنفيذي ثلاثة سودانيين هم: الدكتور احمد السيد حمد والمهندس توفيق بيومي والسيد محمد سر الختم الميرغني. وهناك توطئة بقلم الواثق كمير تلخص المحتويات وتسبق الفصول الستة: الفصل الاول تناول تاريخي وايديولوجي لوحدة السودان والتزام الحركة الشعبية بها.
والفصل الثاني عن التجمع الوطني الديموقراطي المعارض والتحديات التي تواجهه. اما الفصل الثالث فهو عن محادثات "الايغاد" واحتمالاتها. بينما يعالج الفصل الرابع الحوار مع القوى الحديثة عن السودان القديم و"السودان الجديد" خُصص الفصل الخامس لزيارة جون قرنق لمصر والعلاقات المصرية السودانية وخصص الفصل السادس للمؤتمر الصحافي الذي نُظّم في فندق سميراميس بالقاهرة.
وينتهي الكتاب بمقتطفات من بعض ما نشر في الصحف والمجلات عن زيارة قرنق لمصر: روز اليوسف/ المصور/ الاهرام/ العالم اليوم/ الوفد/ الشرق الاوسط/ الخرطوم التي تصدر بالقاهرة.
تتلو ذلك قائمة بالاحزاب والافراد الذين التقاهم قرنق بالقاهرة وقائمة اخرى بالصحف وقنوات التلفزيون التي اجرت معه مقابلات بمناسبة الزيارة. ثم النص الكامل لاعلان المبادئ الذي تجرى على اساسه مفاوضات "الايغاد" ثم خريطة السودان ويلفت النظر ان منطقة حلايب تبدو داخل الحدود السودانية، وصور فوتوغرافية التقطت للدكتور جون قرنق اثناء لقائه بالرئيس المصري محمد حسني مبارك وغيره من كبار المسؤولين الرسميين والشعبيين، وقائمة بوفد الحركة الشعبية لتحرير السودان الذي رافق زعيم الحركة في زيارته التاريخية.
مقدمة صبحي عبدالحكيم وميلاد حنا وليس مصادفة ان احدهما مسلم والآخر قبطي مسرفة في التفاؤل وترى في الزيارة بشائر خير عميم. بل يريان ان شعار "وحدة وادي النيل" الذي لم يتحقق في منتصف العشرينات "قد يتحقق في اوائل القرن الحادي والعشرين، وذلك ان حركة التاريخ لا تسير في خطوط مستقيمة بل لها طريقتها وفاعليتها التي لا يكتشفها السياسيون الا في وقت متأخر". ص 15. وهذا تنبؤ سيكون دعاة التقارب مع مصر - مثل كاتب هذه الكلمات - سعداء به اذا كان واقعياً. ومما يستلزم الحذر ان المفكرين والسياسيين المصريين سبق ان توقعوا ان يعلن اسماعيل الازهري وحدة وادي النيل بعد ان نال حزبه "الوطني الاتحادي" تفويضاً انتخابياً بذلك عام 1953، لكنه لم يفعل.
الا ان المطالع لصفحات الكتاب يجد عذراً لكاتبي المقدمة فالدكتور جون قرنق يطرح في القاهرة وجهة نظر تختلف اختلافاً كبيراً من تلك التي نشرت له عام 1987.
فهو يقول انه اكد لكبار المسؤولين المصريين الذين التقاهم ان الحركة الشعبية ليست ضد الاسلام كما يشيع نظام الخرطوم ولا ضد العرب كما تشيع الخرطوم ايضاً. ص 105
ثم يذكر انه يؤيد مشروع قناة جونجلي التي كانت موضوع اطروحته للدكتوراه في الولايات المتحدة: "القناة لها منافع تعود على كل اهالي المنطقة فضلاً عن شمال السودان ومصر، ولم يكن هناك خلاف على ذلك" ص 105.
اما دور مصر في صنع السلام في السودان فهو يقول عنه: "في الوقت الراهن نحن نتفاوض مع النظام في الخرطوم في اطار وساطة "الايغاد"، ويمكننا ان نفكر في اشكال ملائمة حتى تشارك مصر واقطاراً اخرى عملية صنع السلام بالسودان. هذا امر يجري النقاش حوله، ونحن لا نتجنبه او نغض الطرف عنه.
في الواقع جاءت وساطة "ايغاد" وتطورت كمبادرة اقليمية من دول المنطقة، ودار حديث حول توسيع المشاركة فيها لتشمل باقي القوى السياسية للتجمع الوطني الديموقراطي، وناقشنا هذه المسألة في هيئة قيادة التجمع. لكن الايغاد هو في الاساس منبر اقليمي، وعدد الدول الاعضاء في المنظمة محدود، عددها سبع على وجه التحديد، ولا يمكن فنياً او عملياً زيادتها" ص 109.
الصراحة المفقودة:
بوسع المرء ان يقول هنا ان جون قرنق لم يكن صريحاً مع مستضيفيه. الايغاد مبادرة سياسية، ويمكن فنياً وعملياً زيادة اعضائها اذا توافرت العزيمة والارادة السياسية لذلك. وأنصع دليل على ذلك مظلة "اصدقاء الايغاد" الذين صاروا الآن "شركاء الايغاد" ويضمون دولاً مثل النروج وهولندا وكندا ليست لها علاقات تاريخية او تقليدية تقارن بعلاقات مصر بالسودان والقرن الافريقي.
فاستبعاد مصر والقوى السياسية الشمالية الكبرى موقف سياسي مدروس استراتيجياً. ويفترض جون قرنق في مستضيفيه جهلاً فاضحاً حينما يحاول اقناعهم بغير ذلك.
فالمقصود من المبادرة ترجيح كفة جنوب السودان كأداة لجر السودان كله بعيداً عن الساحة العربية والقضية الفلسطينية. ونذكر انفسنا ان الاحزاب الشمالية الكبرى قبلت مبادرة "الايغاد" دون تحفظ وتحمست لها. ولم تكتشف الا تدريجياً ان تحالفها مع الحركة الشعبية لا يعني بالضرورة ان هناك تطابقاً استراتيجياً في المقاصد البعيدة المدى. ثم ان سياسة "تقزيم الحلفاء" ليست جديدة في الساحة السودانية. الجديد هو ان الحركة الشعبية تمارسها ضد الاحزاب الشمالية في تبادل للمواقع والادوار. وقد ورد في الانباء ان "اللجنة الفنية لشركاء الايغاد" اجتمعت في الهيغ بهولندا 17 - 18 حزيران ووضعت تصوراً لاحتمالات السلام في السودان لا مكان فيه لدور مصري او عربي.
تصف الوثيقة جون قرنق بأنه يتمسك بوحدة السودان لكن قاعدته الشعبية انفصالية. وهذه حقيقة لا يخفف من وقعها الا القول بأن موقف عامة الجنوبيين يتأرجح حسب الرياح السياسية المتقلبة.
كانوا يميلون للوحدة ابان سريان اتفاقية اديس ابابا 1972 - 1983 التي وفرت لهم حكماً ذاتياً اقليمياً. وهم يجنحون الآن الى الانفصال تأثراً بتصعيد الحرب الاهلية وتزايد الهوس الديني في الشمال واعلان الجهاد ومخالب المجاعة المرعبة. ولا يُستبعد ان يميلوا مرة اخرى نحو الوحدة اذا ما استعيدت الديموقراطية واحسوا بالمساواة وامكانية الحياة كمواطنين كرماء في ديارهم، لا ذميين ولا مقهورين بحد السيف.
التعتيم على المراحل الديموقراطية:
وهناك سمة مشتركة بين كتاب "جون قرنق: رؤيته للسودان الجديد" وبين كتاب "جون قرنق يتحدث" الذي نشر عام 1987، هي التعتيم على مزايا الفترات الديموقراطية السودانية. "فالسودان القديم" يشمل في قاموس الحركة الشعبية لتحرير السودان حكم الجبهة الاسلامية القومية وحكم جعفر النميري وحكم الجنرال ابراهيم عبود، كما يشمل المراحل الديموقراطية الثلاث على حد سواء. ويدمغ هذه جميظها بخاتم واحد ونعت واحد دون ان يذكر ان المراحل الديموقراطية السودانية صانت وطورت مؤسسات المجتمع المدني:
حققت حرية الصحافة واستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، واستقلال الجامعات وحرية البحث العلمي. نالت المرأة في الديموقراطية السودانية حق التصويت وتولت ارفع المناصب بما في ذلك عضوية محكمة الاستئناف. جرت في السودان انتخابات نزيهة باشراف لجنة انتخابات محايدة يرأسها قاض، واشاد بنزاهة الانتخابات المراقبون الاجانب ومنهم الباحث الاميركي الامين بيتر بختولد في كتابه "السياسة في السودان" 1976.
وعرف السودان في الفترات الديموقراطية حرية التنظيم النقابي والتنظيم الحزبي حتى بالنسبة للاحزاب التي لا تؤمن بالديموقراطية مثل الحزب الشيوعي وتنظيمات التطرف الديني وابرزها تلك التي تولى قيادتها الشيخ حسن الترابي.
يتحدث جون قرنق وكأن السودان - عندما يسترد الديموقراطية - سيستهل اعادة التأهيل والبناء من الصفر. في حين ان التراث السوداني في الحريات ومؤسسات المجتمع المدني نادر المثال وهو شكل اساساً ترتكز عليه اية محاولات مستقبلية للاصلاح. بل ان تعبير "السودان الجديد" نفسه الذي يكرره جون قرنق في تصريحاته وفي كتابيه ليس جديداً بل ورد عشرات المرات في ادبيات الحركة السياسية السودانية في الشمال قبل ان يولد جون قرنق بسنوات طويلة. واسس المرحوم احمد يوسف هاشم صحيفة اطلق عليها اسم: "السودان الجديد".
وعندما يقول قرنق ان الظلم الذي حاق بالجنوب هو سبب الحرب الاهلية فاننا لا نختلف معه. لكنه عندما يواصل الحديث فيقول: "الجبهة الاسلامية القومية ليست هي وحدها المسؤولة عن ذلك، بل مجمل سياسات السودان القديم" ص 104، فانه يتناسى ان النقابات في المراحل الديموقراطية طالبت بالاجر المتساوي للعمل المتساوي لصالح الجنوبيين كان العامل الجنوبي ينال اجراً اقل بحجة ان احتياجاته اقل!، كما يتناسى ان مواطناً جنوبياً مسيحياً هو السيد سرسيو ايرو كان يتولى منصب رئيس مجلس السيادة عندما تحين دورته في المجلس الخماسي. اي انه كان يتولى رئاسة الجمهورية. صحيح ان الحزبان الكبيران اجهضا هذه المعادلة الحكيمة في ما بعد، لكن عدم ذكرها وعدم التمييز بين الديكتاتورية والديموقراطية في التراث السياسي السوداني امر بعيد عن روح الموضوعية.
مسألة "الهوية" ايضاً:
ويعالج جون قرنق مسألة "الهوية" باسلوب يغفل تاريخ الحركة الوطنية السودانية ويوحي بأنه هو مكتشف "الهوية السودانية". يقول: "كل السودانيين سواء كانوا عرباً او افارقة هم سودانيون في المقام الاول" ص 108. وينطبق على جون قرنق هنا حال الذي فسر الماء بعد الجهد بالماء. فالسودانيون الشماليون يسمون انفسهم سودانيين منذ ايام الحكم الثنائي. وقد وجه قادة الحركة الوطنية الناس بكتابة "سوداني" بدلاً عن اسم القبيلة في الموضع المخصص لذلك في شهادات الميلاد والوثائق الرسمية. وقد أُلّفت المسرحيات ونظمت الاشعار واذيعت الاغاني التي تحتفي بكلمة "سوداني" وتتباهى باللون الاسمر. ثم يأتي جون قرنق ليؤسس حركة سياسية وعسكرية عام 1983 تنبهنا الى هويتنا كسودانيين!
هل نفترض انه لم يسمع بوثائق مؤتمر الخريجين 1938 او تاريخ الاحزاب السياسية الشمالية لكي يبشر بنظرية اكدت دولياً عندما اعلن استقلال البلاد تحت اسم "السودان" يوم 1/1/1956؟
السودانيزم التي يدعي جون قرنق انه مكتشفها وردت في مقالات محمد احمد محجوب في "الفجر" عام 1935 ومن اشهر المنادين بها احمد خير في كتابه "كفاح جيل".
كلا الرجلين - ونحن نقتدي بهما - لم يريا تناقضاً بين الهوية السودانية او الشخصية السودانية المتميزة وبين الثقافة العربية/ الاسلامية.
وليس هناك تناقض حتى يومنا هذا فالسودان يتسع لعدة هويات سودانية متآخية ومتعايشة في وئام ومساواة تشمل المسلم والمسيحي والوثني في ظل حكم تعددي معياره وحدة المواطنة وشعاره "الدين لله والوطن للجميع".
واذا كانت الولايات الاميركية قد حاربت حكم انكلترا رغم انها البلد الذي هاجر منه اوائل سكان الولايات الاميركية، فان السودانيين الشماليين المسلمين المنحدرين من اصول عربية والمستعربين حاربوا اثناء الثورة المهدية 1881 - 1885 الاتراك والمصريين المسلمين من اجل المصالح السودانية وتعبيراً عن بدايات الهوية السودانية.
ويصيب جون قرنق عين الحقيقة عندما يتحدث عن الاجحاف الذي عانى منه الجنوب وينادي بالانصاف والتنمية المتوازنة. ومما يثلج الصدر ان كاتبي المقدمة عبّرا عن تقدير لهذه العوامل وعن اهمية التكفير عن اوزار تجارة الرقيق التي كان الجنوبيون ضحيتها. وهذا كلام لا نسمع مثله من القوميين والاسلاميين العرب الذين يتخذون موقف العداء السافر القاطع لكل ما يتصل بالجنوب والجنوبيين السودانيين، امتداداً لمواقف قومية مشابهة من الاكراد والبربر والاقباط والاقليات الاخرى في مختلف البلدان العربية.
براغماتية مميزة:
ويقضي الانصاف ان نسجل ان براغماتية جون قرنق تميزه عن حلفائه الشماليين في التجمع المعارض.
فهو على اتم استعداد لمفاوضة الحكومة - لكن "الموقف المبدئي للتجمع هو عدم الدخول في اي مفاوضات مع نظام الجبهة اسلامية، ولا يزال التجمع على موقفه" ص 109. فالقول بأن النظام ينبغي ان يباد ويُجتث من جذوره موقف نظري على الورق.
السؤال هو: كيف نزيل نظاماً له خلية مسلحة في كل حي ولا يتورع عن اطلاق الرصاص الحي على طالبات الجامعة وطلاب المدارس الثانوية؟
اذا كانت آلية القضاء "بالضربة القاضية" غير متوافرة فلم لا تستكشف المعارضة احتمالات القضاء التديجي على النظام؟ عندما يتراجع النظام مضطراً ويعلن وثيقة مثل الدستور بها تنازلات لا يستهان بها فان على المعارضة ان تتقدم وتنتزع المكاسب وتوطدها، لا ان تقول: "اما كل شيء او لا شيء!"، وفي هذا السياق فان اقتراح الحركة الشعبية لتحرير السودان بتكوين حكومة وحدة وطنية ينبغي ان يجد قبولاً عند قوى المعارضة الشمالية.
يقول جون قرنق: "تقدمنا ايضاً خلال المحادثات في نيروبي باقتراح ثالث لا يتحدث عنه الناس كثيراً اذ قلنا: دعونا نكون حكومة وحدة وطنية تشتركون فيها انتم الجبهة الاسلامية ونحن الحركة الشعبية والجيش الشعبي فضلاً عن باقي القوى السياسية في التجمع الوطني الديموقراطي" ص 75. بالطبع ستكون هناك خلافات حول تمييز الدين عن الدولة وحول التعددية - لكن الاقتراح يشكل بداية عملية للحوار لاخراج البلاد من المأزق الحالي، وانقاذ الجنوب والشمال من ويلات الحرب الأهلية والمجاعة المعلنة وغير المعلنة.
ويدل مجرد تقديم مثل هذا الاقتراح على حنكة سياسية تحمد للدكتور جون قرنق. وليس هناك ما يدعو القوى الشمالية المعارضة للقلق عندما تسمع بانعقاد محادثات في ايطاليا تحت رعاية الأمم المتحدة ومؤسسة فريدرش ايبرت الألمانية بين الحركة الشعبية والنظام السوداني 22 - 24 تموز/ يوليو. الموقف الأكثر حصافة ان يقول المعارضون الشماليون:
أشركونا فنحن أيضاً على استعداد للتفاوض مع الجبهة الاسلامية ونظامها في روما أو ايطاليا أو نيروبي أو الخرطوم. اما عقلية الثأر والانتقام وتصفية الحسابات مع الأفراد - مهما كانت بشاعة جرمهم وفسادهم وافسادهم - فهي لا تصلح برنامجاً سياسياً جامعاً.
ولنتأمل الطريقة التي سلكها نيلسون مانديلا وحزبه فركزوا على التغيير لا على الثأر.
وحدة "وادي النيل":
ومن أخطر ما جاء في تصريحات جون قرنق في مصر الحديث الصريح عن وحدة وادي النيل بصورة تذكرنا بعلي عبداللطيف وهو ضابط جيش من قبيلة الدينكا التي ينتمي اليها قرنق، صار في العشرينات رئيساً لجمعية "اللواء الأبيض" الثورية السرية التي نادت بوحدة وادي النيل. وانتهى به الأمر منفياً في القاهرة حيث توفي ودفن في اعقاب اخفاق ثورة 1924 المسلحة التي قادها. لم تسمح استراتيجيات الدول الكبرى وعوامل اخرى بتحقيق وحدة كهذه في القرن الماضي وفي العشرينات وفي منتصف هذا القرن ويستبعد ان تبدي الدول الكبرى حماسة لها في نهاية هذا القرن أو بدايات القرن المقبل.
لكن جون قرنق العليم بالكثير من خفايا السياسات الدولية تجاه السودان يقول: "نقبل أنفسنا كسودانيين بدون تمييز وبغض النظر عن العرق أو الدين. بعد ذلك... يمكن ان نطمح الى وحدة ارحب، مجتمع أوسع، أي وحدة مع مصر على سبيل المثال، وبعد ذلك تشمل كل وادي النيل" ص 78، ثم يقول ان وحدة السودان شمالاً وجنوباً مجرد مقدمة للتلاحم "مع شعب مصر وكل شعوب حوض النيل حتى نخلق سوقاً كبيرة. ويشكل سكان مصر اضافة الى باقي سكان حوض النيل الذي يبلغ مجمل سكانه حوالى 250 مليون نسمة مما يجعلها سوقاً كبيرة تعزز تطوير وتنمية المنطقة ورفع معدلات رفاهية شعوبها ومستوى معيشتها تدريجياً" ص 110.
أهذه كلمات جون قرنق دي مابيور أم هي كلمات محمد علي باشا الكبير أم محمد نورالدين السياسي الشمالي الاتحادي الاندماجي أم علي عبداللطيف؟
كلمات لها وقع الموسيقى على آذان كثيرة ولا ينبغي ان تجد أي رد فعل غير الترحيب على افتراض انها صادرة من القلب. ونخطئ اذا فسرناها بأنها مجرد محاولة لبيع الترام للمصريين في زمن تبادل الأدوار!
وهناك ملاحظة أخرى: رغم ان الواثق كمير كان رئيساً لاحدى المناسبات اثناء زيارة جون قرنق لمصر، إلا أنه لم يكن عضواً في الوفد الرسمي للحركة الشعبية. بينما يضم الوفد اسم مابيور ابن جون قرنق، فهل يعني ذلك ان الحركة الشعبية تسير على درب الحزبين الكبيرين في الشمال واليسار التقليدي في الاعتماد على الولاءات العائلية المضمونة؟ مجرد سؤال.
خلاصة القول إن كتاب "جون قرنق، رؤيته للسودان الجديد"، والزيارة التاريخية التي توثق في صفحاته استكمال لحلقة مفقودة في وادي النيل.
ففي عام 1953 اتفقت حكومة الثورة في مصر مع الأحزاب الشمالية السودانية على موقف موحد "كحل نهائي لا يمكن الرجوع عنه" حول مستقبل السودان على ضوء المباحثات التي دارت بين مصر وبريطانيا. وكان البند الأول في "اتفاقية الأحزاب" كما صارت تُعرف هو "موضوع الجنوب". ولم يكن هناك سوداني جنوبي واحد في الاجتماع أو في المشاورات أو عند التوقيع: اذ اعتبر الجنوب كما يبدو وكأنه حقيبة يحملها الشماليون معهم أينما ساروا! وقد دفع السودان ثمن ذلك التصور الخاطئ حروباً أهلية طاحنة وتطرفاً ومرارة في الجنوب يبدو ازاءها جون قرنق في غاية الاعتدال.
لكننا لن نعرف الشقة بين أقوال قرنق وأفعاله الا بعد سنوات. هل هو استنساخ جنوبي لاسماعيل الأزهري؟ أم انه مفكر استراتيجي له مقدرات أكبر من حدود المديريات الجنوبية الثلاث؟ سنعرف الاجابة عند صدور الكتاب الثالث.
* الواثق كير تحرير وترجمة. صبحي عبدالحكيم وميلاد حنا تقديم: جون قرنق - رؤيته للسودان الجديد/ قضايا الوحدة والهوية. المجموعة الاستشارية لتحليل السياسات واستراتيجيات التنمية، القاهرة. 1998.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.