من بين مؤلفات جان سيباستيان باخ الموسيقية، هناك أعمال عدة تعتبر، بحسب النظرة السائدة وبحسب المعجبين "أفضل أعماله". هناك ألحان "الفوغا" التي كان هو مبدعها الأساسي. وهناك الأعمال الدينية الكبرى وفي مقدمها "الآلام حسب القديس متى". وهناك السونيتات والبارتينات. والعديد من الكونشيرتوات التقليدية وغير التقليدية. وما ان تذكر هذه الأعمال، ويقول المعجبون انها "أفضل ما لحن باخ" حتى تثور اعتراضات، وإن كان ثمة من حول باخ نفسه، اجماع عام، يشبه الاجماع من حول زميليه الكبيرين موتسارت وبيتهوفن. إذاً، قلة من أعمال باخ المحددة تلقى، في الحقيقة، تأييداً عاماً بوصفها ذات الحظوة. ومن هذه الأعمال تلك الكونشيرتوات المسماة "كونشرتوات براندبورغ"، وهي ستة كما يقول عنوانها الأصلي، كتبها باخ حين كان مقيماً في "كوتهن" وأهداها، كما يذكر هو نفسه في رسالة، الى كريستيان لودفيغ دي براندنبورغ، مضيفه في تلك المدينة. وهكذا حدث لهذه الأعمال الاستثنائية ان حملت، دائماً، اسم المهدى اليه، فأدخلته التاريخ من حيث لم يكن يدري. حين كتب باخ تلك الأعمال كان بالكاد تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، لكنه كان مع هذا قد بلغ من الشهرة قسطاً كبيراً، وكان قد وقع العديد من أعماله الكبيرة. وكان بالتالي يشعر بقوة ان عليه ان يجدد. وهو جدد بالفعل في تلك القطع الست، التي يمكن النظر اليها، طبعاً، على انها اعمال متفرقة، يحمل كل منها خصائصه وذاتيته، ولكن في الوقت نفسه وهذا أفضل بالطبع، يمكن اعتبارها عملاً واحداً متكاملاً. اذ، في مثل هذه الحال، تتخذ تلك الكونشيرتوات طابعاً تجريبياً، ولا سيما حين يلاحظ المستمع ان القطع الخمس الأولى ستبدو في نهاية الأمر وكأنها، معاً، تفتح الطريق، للوصول الى القطعة السادسة. والحال ان المرء ما ان ينتهي من سماع هذا الكونشيرتو السادس، حتى يحس بالحاجة الى البدء من جديد، لأنه على ضوء السادس، تتخذ القطع الخمس الأولى طابعاً شديد الاختلاف، ويبدو واضحاً في كل منها مقدار التجديد الذي حققه باخ، تلحينياً وأوركسترالياً في كل كونشرتو من هذه الأعمال الستة. ومن هنا قد يكون من الأفضل التوقف أولاً عند الكونشيرتو السادس حيث تؤدي سيطرة باخ التامة على كتابته الموسيقية، وقدرته في ذلك الحين على ابداع عمل خال تماماً من أي اثر للكمانات، على اعطاء تلك القطعة طابعاً جميلاً بشكل استثنائي، ما يجعل من "الجيغا" الختامية، ليس خاتمة لهذا الكونشرتو وحده، بل خاتمة للقطع الست معاً، وكأن هذا الفنان شاء ألا تسمع هذه الأعمال الا معاً، وبشكل تجريبي خلاق ندر ان داناه واحد من المؤلفين من زمنه. نعرف، طبعاً، ان الكونشرتو كان يعيش في ذلك الزمن، ذروة تألقه، بعدما كان الموسيقيون الايطاليون الكبار، على خطى كوريللي، قد اعطوه طابعه وقواعده. لكن باخ حين صاغ قطع هذه المجموعة، لم ينح نحو قواعد كوريللي في كتابة "الكونشرتينو" حيث كان يفترض دائماً ان يقوم عماد العمل على آلتي كمان وآلة فيولينتشيلو واحدة تتواكب مع مجموعة من الآلات الوترية بحيث قد يضاعف العدد ولكن دائماً بالنسبة نفسها. هنا، مع باخ، في هذه الأعمال المبتكرة راحت الأوركسترا تتألف من احجام وأشكال شديدة التنوع، خارقة كل القواعد الموضوعة سلفاً. ومع هذا في الكونشيرتو الأول من مقام "فا" كبير لدينا بداية عادية مع توزيع معهود، ولكن سرعان ما تبدأ اصوات الكمان الصغير بالتفرد، ثم بالترافق مع اصوات من آلات أوبوا وبوقين. ومن الواضح، بحسب دارسيه، ان باخ التجريبي الى أقصى الحدود في كل هذه الأعمال كان ينحو هنا الى اقامة نوع من التوليف بين "الكونشرتو" التقليدي و"التتابع"، وهو أمر تشهد عليه خاتمة هذه القطعة الأولى حيث يستعين الموسيقي بألحان البولونيز و"المنويه". والكونشرتو الثاني وهو ايضاً من مقام "فا" كبير ينتمي، اصلاً، الى "الكونشيرتو غروسو" على النمط الايطالي الفينسي، تحديداً مع تركيز على آلات النفخ والكمان، ولا سيما آلة الترومبيت التي تظل حاضرة طوال الوقت، باستثناء الحركة الثانية، حيث يتميز صوت البيانو الحنون المشكل خلفية صوتية لا سابق لها. وفي الكونشيرتو الثالث من مقام "صول" كبير يتحرك باخ مبتعداً تماماً عما كانت الحال عليه في القطعتين الأوليين. اذ انه يركز هنا على الآلات الوترية في هندسة ثلاثية: 3 كمانات، 3 آلتو، و3 فيولونسيل، اضافة الى آلة كونترباص واحدة. وهذا الكونشرتو لا يتألف الا من حركتين على عكس ما كان معهوداً، اذ ان باخ يحرص هنا على عدم وجود حركة "اندانتي". أما الكونشرتو الرابع من مقام "صول" كبير فإن العزف المنفرد فيه يقتصر على نايين وآلة كمان واحدة، ما يجعل هذه القطعة تبدو منتمية الى "موسيقى الحجرة أكثر من انتمائها الى عالم الكونشرتو. وفي القطعة الخامسة، قبل الأخيرة، يضع باخ مستمعه أمام مفاجأة جديدة مدهشة، حيث يجعل آلة البيانو تتدخل على الفور في عزف منفرد، الى جانب الناي والكمان، ما يضفي على عزف الكمان المنفرد هذا أهمية استثنائية ولا سيما في الحركة الأولى. وهذا التجديد في حد ذاته اضفى على فن الكونشرتو في ذلك الحين تجديداً لا سابق له، لكنه لن يكون الأخير اذ اننا، ودائماً بحسب دارسي موسيقى باخ سوف نلاحظ تكرار هذا الأسلوب الثوري، في بعض اجمل أعمال فرانز ليست وروبيرت شومان. ويضيف الدارسون ان من يتتبع هذه الكونشيرتوات معاً، سيلاحظ نوعاً من التداخل في التجديدات في ما بينها، كما سيلاحظ نوعاً من حركة هابطة تصل الى نوع من الخفة يمهد لما في الكونشرتو السادس الذي سبقت الاشارة اليه، وهذا ما يجعل من الأفضل لهذه الأعمال الستة ان تسمع معاً، وكأنها اجنحة لقطعة كبيرة واحدة. غير ان هذا لم يكن التجديد الوحيد الذي ادخله جان سيباستيان باخ 1685-1750 على فن الموسيقى. فالحال ان كل ما ألفه، سواء أكان دينياً أو دنيوياً، عاطفياً أو عقلانياً وكثير من موسيقى باخ "يتهم" عادة بأنه عقلاني على اية حال، كان في مجاله وفي زمنه تجديدياً، بحيث ان تاريخ الموسيقى يجعل جزءاً كبيراً من هذا الفن مدين لهذا الذي لم يكن ليعرف الهدوء أو الراحة، منذ كان طفلاً، وحتى قضى باكراً.