من بين مؤلفات يوهان - سيباستيان باخ الموسيقية، هناك أعمال عدة تعتبر، وفق النظرة السائدة ووفق المعجبين «أفضل أعماله». هناك ألحان «الفوغا» التي كان هو مبدعها الأساسي. وهناك الأعمال الدينية الكبرى وفي مقدمها «الآلام حسب القديس متى». وهناك السونيتات والبارتيتات. وثمة إلى هذا كله أيضاً، الكثير من الكونشيرتوات التقليدية وغير التقليدية. ودائماً ما يحدث أنه ما إن يذكر أيّ من هذه الأعمال، ويقول المعجبون إنها «أفضل ما لحّن باخ» حتى تثور اعتراضات ودائماً من قبل أناس يفضلون أعمالاً أخرى من نتاجات هذا الفنان الموسيقيّ المبدع، وإن كان ثمة حول باخ نفسه، إجماع عام، يشبه الإجماع حول زميليه الكبيرين موتسارت وبيتهوفن. إذاً، انطلاقاً من ذلك كله يمكننا القول إن قلة فقط من أعمال باخ المحددة تلقى، في الحقيقة، تأييداً عاماً بصفتها ذات الحظوة طالما أن الإجماع يقول إن الحظوة يجب أن تكون لأعماله جميعاً، أو لمعظمها على الأقل. ومن هذه الأعمال تلك الكونشيرتوات المسماة «كونشرتوات براندنبورغ»، وهي ستة كما يقول عنوانها الأصلي، كتبها باخ حين كان مقيماً في «كوتهن» وأهداها، كما يذكر هو نفسه في رسالة، إلى كريستيان لودفيغ دي براندنبورغ، مضيفه في تلك المدينة. وهكذا حدث لهذه الأعمال الاستثنائية إن حملت، دائماً، اسم المهدى إليه، فأدخلته التاريخ من حيث لم يكن يدري. حين كتب باخ تلك الأعمال كان بالكاد تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، لكنه كان مع هذا قد بلغ من الشهرة قسطاً كبيراً، هو الذي كان خلال السنوات السابقة من عمره ومن مساره الفني قد وقّع الكثير من أعماله الكبيرة. وكان قد بات في إمكانه بالتالي أن يشعر بقوة بأن عليه أن يجدد، ونعرف من سيرة باخ ومما كتبه عنه كبار مؤرخي حياته وكبار النقاد الموسيقيين أنه كان من النوع الذي لا يتوقف لحظة عن التجديد. فهو كان وبقي طوال حياته من الذين يرون أن التجديد الدائم هو سرّ الفن العظيم وأن الفنان إن توقف يوماً عن التجديد والابتكار سيكون قد انتهى، وهذا كما نعرف هو ما توضحه زوجته في النصوص التي كتبتها عنه وشكلت، على سبيل المثال أساس الفيلم الذي حققه عنه في ستينات القرن العشرين المخرجان جان ماري شتوب ودانيال هويلييه. وباخ جدد بالفعل في تلك القطع الست، التي يمكن النظر إليها، طبعاً، على أنها أعمال متفرقة، يحمل كل منها خصائصه وذاتيته، ولكن في الوقت نفسه، وهذا أفضل بالطبع، يمكن اعتبارها عملاً واحداً متكاملاً. إذ، في مثل هذه الحال، تتخذ تلك الكونشيرتوات طابعاً تجريبياً، لا سيما حين يلاحظ المستمع أن القطع الخمس الأولى ستبدو في نهاية الأمر وكأنها، معاً، تفتح الطريق، للوصول إلى القطعة السادسة. والحال أن المرء ما إن ينتهي من سماع هذا الكونشيرتو السادس، حتى يحس بالحاجة إلى البدء من جديد، لأنه على ضوء السادس، تتخذ القطع الخمس الأولى طابعاً شديد الاختلاف، ويبدو واضحاً في كل منها مقدار التجديد الذي حققه باخ، تلحينياً وأوركسترالياً في كل كونشرتو من هذه الأعمال الستة على حدة. من هنا، قد يكون من الأفضل، لدى أيّ حديث عن هذا العمل الاستثنائي ليوهان - سيباستيان باخ، التوقف أولاً عند الكونشيرتو السادس حيث تؤدي سيطرة المؤلف التامة على كتابته الموسيقية، وقدرته في ذلك الحين على إبداع عمل خالٍ تماماً من أي أثر للكمانات، على إعطاء تلك القطعة طابعاً جميلاً في شكل استثنائي، ما يجعل من «الجيغا» الختامية، ليس خاتمة لهذا الكونشرتو وحده، بل خاتمة للقطع الست معاً، وكأن هذا الفنان شاء ألا تسمع هذه الأعمال إلا معاً، وفي شكل تجريبي خلّاق ندر أن داناه واحد من المؤلفين من زمنه. نعرف، طبعاً، أن الكونشرتو كفنّ له استقلاليته، كان يعيش في ذلك الزمن، ذروة تألقّه، بعدما كان الموسيقيون الإيطاليون الكبار، على خطى كوريللي، قد أعطوه طابعه وقواعده. لكن باخ حين صاغ قطع هذه المجموعة، لم ينح نحو قواعد كوريللي في كتابة «الكونشرتينو» حيث كان يفترض دائماً أن يقوم عماد العمل على آلتي كمان وآلة فيولينتشيلو واحدة تتواكب مع مجموعة من الآلات الوترية بحيث قد يضاعف العدد ولكن دائماً بالنسبة نفسها. هنا، مع باخ، في هذه الأعمال المبتكرة راحت الأوركسترا تتألف من أحجام وأشكال شديدة التنوع، خارقة كل القواعد الموضوعة سلفاً. ومع هذا في الكونشيرتو الأول (من مقام «فا» كبير) لدينا بداية عادية مع توزيع معهود، ولكن سرعان ما تبدأ أصوات الكمان الصغير بالتفرد، ثم بالترافق مع أصوات من آلات أوبوا وبوقين. ومن الواضح، وفق دارسيه، أن باخ - التجريبي إلى أقصى الحدود في كل هذه الأعمال - كان يهدف هنا إلى إقامة نوع من التوليف بين «الكونشرتو» التقليدي و «التتابع»، وهو أمر تشهد عليه خاتمة هذه القطعة الأولى حيث يستعين الموسيقي بألحان البولونيز و «المنويه». والكونشرتو الثاني (وهو أيضاً من مقام «فا» كبير) ينتمي، أصلاً، إلى «الكونشيرتو غروسو» على النمط الإيطالي (البندقي، تحديداً) مع تركيز على آلات النفخ والكمان، لا سيما آلة الترومبيت التي تظل حاضرة طوال الوقت، باستثناء الحركة الثانية، حيث يتميز صوت البيانو الحنون المشكل خلفية صوتية لا سابق لها. وفي الكونشيرتو الثالث (من مقام «صول» كبير) يتحرك باخ مبتعداً تماماً عما كانت الحال عليه في القطعتين الأوليين. إذ إنه يركز هنا على الآلات الوترية في هندسة ثلاثية: 3 كمانات، 3 آلتو و3 فيولونسيل، إضافة إلى آلة كونترباص واحدة. وهذا الكونشرتو لا يتألف إلا من حركتين على عكس ما كان معهوداً، إذ إن باخ يحرص هنا على عدم وجود حركة «أندانتي». أما الكونشرتو الرابع (من مقام «صول» كبير) فإن العزف المنفرد فيه يقتصر على نايين وآلة كمان واحدة، ما يجعل هذه القطعة تبدو منتمية إلى «موسيقى الحجرة - أكثر من انتمائها إلى عالم الكونشرتو». وفي القطعة الخامسة، قبل الأخيرة، يضع باخ مستمعه أمام مفاجأة جديدة مدهشة، حيث يجعل آلة البيانو تتدخل على الفور في عزف منفرد، إلى جانب الناي والكمان، ما يضفي على عزف الكمان المنفرد حين يبدأ هنا أهمية استثنائية، لا سيما في الحركة الأولى. وهذا التجديد في حد ذاته أضفى على فن الكونشرتو في ذلك الحين تجديداً لا سابق له، لكنه لن يكون الأخير إذ إننا، ودائماً وفق دارسي موسيقى باخ سنلاحظ تكرار هذا الأسلوب الثوري، في بعض أجمل أعمال فرانز ليست وروبيرت شومان. ويضيف الدارسون أن من يتتبع هذه الكونشيرتوات معاً، سيلاحظ نوعاً من التداخل في التجديدات في ما بينها، كما سيلاحظ نوعاً من حركة هابطة تصل إلى نوع من الخفة يمهد لما في الكونشرتو السادس الذي سبقت الإشارة اليه، وهذا ما يجعل من الأفضل لهذه الأعمال الستة أن تسمع معاً، وكأنها أجنحة لقطعة كبيرة واحدة. * غير أن هذا لم يكن التجديد الوحيد الذي أدخله يوهان - سيباستيان باخ (1685 - 1750) على فن الموسيقى. فالحال أن كل ما ألفه، سواء كان دينياً أو دنيوياً، عاطفياً أو عقلانياً (وكثير من موسيقى باخ «يتهم» عادة بأنه عقلاني على أية حال)، كان في مجاله وفي زمنه تجديدياً، كما أشرنا أعلاه، بحيث إن تاريخ الموسيقى يجعل جزءاً كبيراً من هذا الفن مديناً لهذا الذي لم يكن ليعرف الهدوء أو الراحة، منذ كان طفلاً، وحتى قضى باكراً. [email protected]