يحتل الحديث عن نية الولاياتالمتحدة غزو العراق صدارة الاهتمامات العربية والدولية، ويشكل مادة السجال والنقاش على مستوى كل دولة من الدول في المنطقة، وفي مراكز القرار الدولي، لما لهذا الأمر من انعكاسات وآثار كبيرة. وإذا كان قرار الإدارة الأميركية ضرب العراق اتخذ من حيث المبدأ، إلا ان الشروع في تهيئة المناخات وتوفير الشروط لذلك أظهر عقبات وصعوبات كثيرة ليس من السهل تذليلها، إن كان على مستوى المنطقة، خصوصاً الدول المحيطة بالعراق، أو على المستوى الدولي، وهو ما أثار نقاشات في الكونغرس الأميركي حذرت من المخاطر والمضاعفات وركزت على ضرورة توفير الشروط قبل الاقدام على ضرب العراق. على أن الأسئلة التي تثار هي: لماذا وضعت ادارة الرئيس الأميركي على جدول أعمالها غزو العراق وتغيير النظام هناك؟ وما هي الأهداف المضمرة التي تسعى اليها واشنطن من وراء القيام بمثل هذا العدوان الواسع؟ وهل أن تحقيق هذه الأهداف سهل المنال أم أن هناك عقبات كثيرة قد تقلب الأمور رأساً على عقب؟ وأخيراً ما هو الموقف العربي المطلوب لمنع العدوان وتفادي مضاعفاته عربيا؟ كانت الولاياتالمتحدة قبل أحداث 11 أيلول سبتبمر في مأزق نابع من فشل سياسة الاحتواء المزدوج، وبدء انفراط نظام العقوبات المفروض على العراق، بعد تآكل المبررات والحجج الأميركية لاستمرار حصار العراق ومعاقبته. وبعد هجمات أيلول وجدت ادارة بوش الفرصة مواتية لاستغلال اعلان حربها على ما يسمى "الإرهاب" في العالم، وعمدت الى الربط القسري بين العراق والإرهاب، من أجل تهيئة المناخ الأميركي ومن ثم الدولي للقيام بضرب العراق. وشكل نجاح القوات الأميركية السريع بإسقاط نظام طالبان في أفغانستان ومن ثم تنصيب حميد كارزاي رئيساً لأفغانستان، اغراء لتيار الصقور السائد في الإدارة الأميركية، لتكرار ذلك في العراق. وعلى هذا الأساس بدأت الخطط والسيناريوات الأميركية للقيام بالعدوان ضد العراق، وبلغت الذروة في الفترة الأخيرة، بالسيناريو الأخير الذي يتحدث عن إنزال للقوات الأميركية في قلب بغداد بعد التمهيد بقصف تدميري وعنيف لكل المواقع العسكرية والحيوية في العراق، بما يسمح لها بالسيطرة السريعة وحسم الموقف بفترة زمنية قصيرة. لكن لماذا وضعت ادارة بوش على جدول أعمالها غزو العراق بغية تغيير النظام؟ في هذا الإطار تبرز الأمور الآتية: 1 - ان واشنطن أصبحت منذ فترة ما قبل 11 أيلول أسيرة شعار أطلقته وهو العمل على تغيير النظام العراقي، بعدما مارست تعبئة متواصلة في هذا السياق، لم تعد قادرة على التراجع عنها. 2 - شعور الإدارة الأميركية، أن استمرار الواقع الحالي سيفضي الى تفكك نظام العقوبات المفروض على العراق وانهياره لمصلحة روسيا والدول الأوروبية التي تتنافس منذ فترة على توطيد العلاقات مع بغداد وابرام العقود والصفقات الاقتصادية الضخمة لإعادة بناء العراق، والتي تكلف مئات البلايين من الدولارات وسط اغراءات يقدمها العراق لهذه الدول على هذا الصعيد، ويساعده على ذلك كونه يملك ثروة هائلة تمكنه من تحويل عملية اعادة بناء ما دمرته الاعتداءات الأميركية من اللحظة التي يتم فيها وضع حد لنظام العقوبات، ولذلك فإن واشنطن تسعى الى قطع الطريق على الأحلام الأوروبية والروسية من خلال الإفادة من مناخات ما بعد 11 أيلول كي توجه ضربة عسكرية للعراق، وتسيطر عليه بما يتيح لها ابعاد أوروبا وروسيا عن العراق نهائياً. 3 - حاجة ادارة بوش الى الهاء الرأي العام الأميركي بعيداً من الأزمة الاقتصادية الأميركية وفضائح الفساد الضخمة التي تكشف عنها انهيار الشركات الأميركية العملاقة، والتي تطاول الإدارة بأبرز رموزها مما ينمي النزعة العسكرية لتصدير الأزمة الى الخارج، خصوصاً أن ذلك يحصل مع اقتراب موعد انتخابات الكونغرس الأميركي ما يزيد الحاجة الى التغطية على الفضائح. وإذا كانت هذه هي الأسباب التي جعلت الإدارة تدفع الأمور باتجاه القيام بغزو العراق، فما هي الأهداف التي تبغي تحقيقها من ذلك؟ في هذا المجال يمكن القول ان واشنطن تسعى الى تحقيق ما يأتي: 1 - استكمال الخطة الأميركية للسيطرة على المنطقة بواسطة القوة العسكرية المباشرة، والتي بدأت عملياً في حرب الخليج الثانية، بهدف تقويض قوة العراق والآن من خلال السيطرة المباشرة عليه بغية تقسيمه بما يشبه سايكس بيكو أميركي، والغاية الأساسية من ذلك إحكام السيطرة على منابع واحتياطات النفط في العراق بعدما تمت هذه السيطرة على المنابع الأخرى في المنطقة سنة 1990 - 1991. وإذا كانت حرب الخليج الثانية انتهت بتعزيز أحادية النفوذ الأميركي في الخليج على حساب النفوذ الأوروبي، فإن خطة غزو العراق تستهدف استكمال هذه العملية بما يضع نهاية للنفوذ الأوروبي في كل الخليج. 2 - السيطرة على العراق، تمكّن أميركا من محاصرة ايران، ومحاولة عزل سورية بما يمهد لتنفيذ الخطة الثانية من الاستراتيجية الأميركية وهي العمل على تقويض استقرار سورية وايران اللتين تشكلان بسياساتهما التنموية والوطنية المستقلة خط الممانعة الرئيسي لمشروع الهيمنة الأميركية في المنطقة، الى جانب ان واشنطن تريد أيضاً الحيلولة دون نشوء محور سوري - عراقي - ايراني، يجري الحديث عنه منذ فترة، ومنع استكمال عملية المصالحة العراقية - الخليجية التي نجحت سورية في وضع المداميك الأولى لها والتي تجلت في القمة العربية الأخيرة في بيروت، وهو ما أزعج ادارة بوش التي كانت في حينه تعمل على تهدئة الوضع في فلسطينالمحتلة لتهيئة المناخات لضرب العراق. 3 - العمل على محاصرة الانتفاضة والمقاومة في فلسطين، والمقاومة في لبنان، من خلال محاصرة ايران وعزل سورية بما يسمح باشغالهما والحد من قدراتهما على احتضان ودعم الانتفاضة والمقاومة، وبالتالي يسمح للكيان الصهيوني الاستفراد بالانتفاضة في محاولة للقضاء عليها بعدما فشل في ذلك على رغم استخدامه كل أساليب القمع والإرهاب والقوة التي في حوزته. وفي هذا الإطار تتكامل المصلحة الاسرائيلية - الأميركية في العدوان على العراق، فشارون يدفع بهذا الاتجاه لحرمان سورية من أي عمق عراقي أو ايراني في حال نشوب حرب واسعة. إذا كانت هذه هي الأهداف الأميركية فهل من السهل تحقيقها؟ من الواضح ان هناك الكثير من المضاعفات والعقبات والمخاطر التي تواجه واشنطن عدا عن النتائج التي يمكن ألاّ تأتي في مصلحة الخطة الأميركية وهو ما يبرز في تحذيرات البعض في واشنطن من عواقب الضربة العسكرية لأسباب عدة: 1 - على الصعيد العسكري: على رغم الاغراء الذي تشكله افغانستان ويشجع تيار الصقور على القيام بمغامرة عسكرية في العراق، فإن هناك تخوفاً لدى الكثير من الخبراء وحتى العسكريين الأميركيين من المخاطر، وينبع هذا الخوف والقلق أيضاً من فقدان عامل المفاجأة. فالعراق أصبح مستعداً لمواجهة العدوان، وهو وضع نفسه في جاهزية عالية على كل المستويات العسكرية والاقتصادية والشعبية، حيث قام وللمرة الأولى كما تفيد الأنباء بتوزيع السلاح على الشعب، الى جانب المواد الغذائية الأساسية لفترة شهرين. 2 - عدم وجود مناخ عربي مؤيد للضربة، بل على العكس فإن السعودية الدولة الخليجية الأهم ترفض الضربة وأعلنت ذلك رسمياً مما عرضها لحملة انتقادات أميركية، وعندما يكون هذا هو موقف السعودية، فمعنى ذلك ان الدول الخليجية الأخرى لن توافق على ضرب العراق، فكيف بسورية وايران، الى جانب ذلك فإن المناخات التي كانت سائدة في أعقاب اجتياح العراق للكويت والتي خلقت الفرصة أمام مجيء القوات الأميركية للمنطقة، تغيرت جذرياً، بعد تكشف حقيقة الأهداف الأميركية في المنطقة، وعملية النهب المنظمة التي قامت بها واشنطن لثروات الخليج، فيما الشارع العربي لم يعد منقسماً حول الموقف من أميركا كما كانت الحال في حرب الخليج الثانية، فهو أصبح اليوم موحداً في العداء للسياسة الأميركية. هذا الواقع الجديد، يخلق صعوبات كبيرة أمام القوات الأميركية الغازية، ويضع أي دولة تتعاون مع العدوان الأميركي في موضع صعب أمام الشارع ويهدد بزعزعة استقرارها. 3 - ان مناخاً من هذا النوع الى جانب وجود سلطة مركزية في العراق، واستعداد لمقاتلة القوات الأميركية، قد يؤدي الى غرق هذه القوات في حرب استنزاف، حيث يتساءل جوزف بيدي رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، وريتشارد لوغار رئيس الأقلية في المجلس وعضو اللجنة: "ما هي الردود المحتملة للتهديد العراقي، فإذا انتظرنا طويلاً حتى يصبح الخطر واضحاً وقريباً قد يفوت الأوان للرد، ولذا يعتقد بعضهم ان الاطاحة بالرئيس العراقي هي أفضل وسيلة، ولكن الرد العسكري يطرح مشكلات أخرى، فقد نضطر الى استعمال أسلحة الدمار الشامل مما يجر المنطقة الى حرب اقليمية لا ندري حتى اليوم من سيكون الحليف ومن سيكون العدو فيها". أما غراهام أليسون مساعد وزير الدفاع السابق في ادارة كلينتون فيقول: "قبل اتخاذ خيار الحرب لا بد للإدرة من أن تدرك ان الإطاحة بالنظام من طريق الحل العسكري المقترح هو أسوأ خيار يمكن أن تتخذه". من هنا هناك خوف أميركي من عدم القدرة على السيطرة على الوضع في العراق بعد انهيار النظام حيث ستدب الفوضى وبالتالي يصعب ضبط الأمور وفق ما تريد أميركا، خصوصاً في ظل مناخ عام في المنطقة يزداد عداء للسياسة الأميركية، فكيف إذا ما قامت واشنطن بعدوان ضد العراق وشعبه من دون أي مسوغ أو مبرر أو ذريعة. 4 - الوضع الدولي ليس مماثلاً أيضاً لما كان عليه اثر اجتياح العراق للكويت، فالدول الأوروبية وروسيا والصين ليست مستعدة لإعطاء الغطاء لضربة أميركية للعراق بعدما باتت على قناعة بأن أحد أهداف واشنطن من ذلك، هو إقصاؤها عن العراق. وحتى بريطانيا الحليفة الأقرب الى واشنطن تبدي تململاً في تأييد الضربة وسط مناخ شعبي بريطاني معارض لأي مشاركة عسكرية، فيما كشفت حملة الانتخابات في المانيا عن معارضة شعبية قوية لضرب العراق. 5 - ومن الناحية الاقتصادية، هناك تخوف أميركي من أن تؤدي الضربة الى الإضرار أكثر بالمصالح الأميركية في حال النجاح أو الفشل في تحقيق أهدافها، عدا عن نفقات الحملة ومدة بقاء القوات في العراق. فالحرب ستدور في قلب المنطقة التي تختزن أكبر احتياطي نفط في العالم، وتزود الدول الصناعية الكمية الأكبر من حاجاتها، وهذا سيؤدي الى واحد من أمرين: إما ارتفاع أسعار النفط الى 60 دولاراً للبرميل، في حال تعرض حقول النفط للقصف بالصواريخ ما سيلحق الضرر الكبير بالاقتصاد الأميركي والأوروبي الذي يعاني من الركود. وإما هبوط سعر البرميل الى ستة دولارات، في حال تمكن واشنطن من السيطرة على العراق ورفع وتيرة انتاجه النفطي لتمويل اعادة اعماره، الأمر الذي سينعكس سلباً على أوضاع الدول النفطية. لهذا دعا الكونغرس الى حشد الدعم المحلي والدولي قبل الإقدام على فعل متسرع ضد العراق. هل الضربة قدر لا راد له؟ الأمر الذي يجب، التشديد عليه، أن هناك فرقاً شاسعاً بين أن تجد أميركا الموقف العربي خائفاً ومربكاً وغير قادر على قول لا للعدوان الأميركي بقوة وحزم، وبين موقف موحد ومتضامن في وجهها يرفض تقديم أي تسهيلات لها ويصر على رفض أي عدوان على العراق واعتبار ذلك تهديداً خطيراً للأمن القومي العربي لن يسلم منه بلد عربي، ومن شأن مثل هذا الموقف أن يسهم في ردع أميركا على عكس ما يعتقد الخائفون، وكلنا شهد كيف أن موقف القمة العربية الذي تجسد في رفض أي عدوان على العراق، وفي المصالحة العراقية - الخليجية أزعج واشنطن وأسهم في دفعها الى تأجيل ضرب العراق. والأمر بأيدي العرب جميعاً الذين عليهم الاتعاظ من دروس حرب الخليج الثانية ونتائجها المدمرة على المنطقة العربية كلها، والتي تجلت في استنزاف ثروات العرب وإفقارهم واستجلاب الجيوش الأجنبية واعادة السيطرة المباشرة، وانقسام العرب وتشتيت قواهم واستفرادهم من قبل الأعداء. وإذا ما حصل أي عدوان جديد فانه سيؤدي الى زيادة هذه النتائج سوءاً وبالتالي إحداث المزيد من النزف في الجسم العربي وتعزيز السيطرة الاستعمارية والإمعان في تمزيق الصفوف العربية. من هنا فإن الواجب الوطني والقومي والمصلحة المباشرة لكل بلد عربي تقتضي التوحد والتضامن والاستنفار للوقوف بحزم في وجه الخطر المتربص بالعراق ومن خلاله بالعرب جميعاً ولقطع الطريق على أميركا في تنفيذ العدوان على العراق. * كاتب فلسطيني مقيم في لبنان.