من اللافت والمثير للدهشة والاهتمام، تطور الجدل حول العولمة على نحو جديد وبمنهج جديد. وأعني بالجدل، ليس المناقشات التقليدية التي جرت منذ سنوات، في شأن مفهوم العولمة ودلالاته وحسب، انما ذلك الطور الجديد من التحليل النقدي والمباشر لمضامين هذه الظاهرة وآثارها الاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً نظام ادارتها وآلياته المتمثلة بالمؤسسات الدولية الرئيسية البنك الدولي، صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. وبذلك توافرت امكانية فهم هذه الظاهرة الجبارة وتعززت بصورة علمية وموضوعية، وتم فحص انعكاساتها السلبية والايجابية على أرض الواقع وفي اطار القضايا والمعضلات الحية والساخنة التي تعاني منها الانسانية راهناً ومستقبلاً. وبذلك أيضاً، جرى تجاوز المنهج الارادوي والذاتي السقيم الذي يختزل الموقف والتعامل مع ظاهرة العولمة الى خلق معسكرين أو خندقين متعارضين يتوزع فيهما خصوم وأنصار العولمة بصورة ميكانيكية ومجافية للواقع. ثمة جديد ومهم في منهج التحليل والتعاطي مع ظاهرة العولمة، يتعين الترحيب به، واحتضانه بتدبر ومقاربة عقلانية رحبة. ويتمثل ذلك، بحزمة الأفكار والتحليلات التي أطلقها منذ فترة المفكر الاقتصادي الأميركي المعروف جوزيف ستيغلز J.Stiglitz وعدد غير قليل من علماء الاقتصاد والاجتماع في أميركا وأوروبا واليابان وبعض البلدان النامية. ولعل أهمية هذه المعالجات الثاقبة والرصينة لا تنبع فقط من المكانة الأكاديمية البارزة المشهود له بها في الجامعات الأميركية المهمة، بل للمراكز التي شغلها خلال العقد الأخير حيث كان المستشار الاقتصادي الأساسي للرئيس كلينتون لعدة سنوات رئيس المجلس الاقتصادي الاستشاري للرئيس الأميركي 1993 - 1997 ومن ثم أصبح نائباً لرئيس البنك الدولي لثلاث سنوات لاحقة حتى عام 2000. فضلاً عن تمتعه بخبرة عملية مباشرة استقاها من زياراته وعمله الميداني المباشر في بلدان كثيرة نامية وصناعية متقدمة. وكان من ثمرات ذلك كله، ان حاز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001 على رغم العديد من المحاولات والعراقيل التي افتعلت من أوساط معينة لحجب الجائزة عنه، بسبب أفكاره الناقدة الصريحة و"تمرده" أو "انشقاقه" عن المؤسسة المقدسة وتقاليدها وطقوسها المحافظة... مؤسسة المال والسلطة في أميركا. والواقع ان قلق ستيغلز وتحليلاته النقدية للنظام الاقتصادي العالمي بدأت وظهرت للنور منذ عام 1994 عندما القى مجموعة من المحاضرات الجريئة في "جامعة استوكهولم للاقتصاد" ونشرت تحت عنوان: Whither Socialism الاشتراكية الى أين؟ وتضمنت تلك المحاضرات نقداً للتوجهات الاقتصادية المعلنة باسم توافق واشنطنWashington Consensus من جانب الرئيس ريغان وثاتشر عندما كانا في الحكم في الثمانينات من القرن الماضي. إلا أن أهم ما صدر عن جوزيف ستيغلز وعكس رؤيته الجديدة بصورة شاملة وموثقة هو كتابه الأخير المرسوم ب"العولمة ومساوئها" Globalization and its Discontents. حيث أثار هذا الكتاب، وما زال، ردود فعل واسعة واحياناً غاضبة وجارحة من أوساط نافذة في الجماعة المالية المتنفذة في وول ستريت وكذلك صندوق النقد الدولي وبعض الجامعات الأميركية. كما انعكس ذلك على صفحات مجلة مرموقة هي "الايكونومست" البريطانية في اعداد ثلاثة لها أخيراً وكذلك في مجلة Foreign Affairs الأميركية المعروفة في عددها الأخير. والواقع ان قيمة هذا الكتاب تتجسد في تناوله لمفهوم العولمة وآثارها الاقتصادية والاجتماعية من خلال معايشته وتحليله لتجارب وأزمات خطيرة خلال ممارسته لمسؤولياته في الإدارة الأميركية وصندوق النقد الدولي، فضلاً عن متابعاته لها كباحث وأكاديمي مرموق وصاحب شهرة علمية مميزة. وتدخل ضمن ذلك، تجارب التحول من "الاشتراكية" الى الاقتصاد الحر في روسيا وأوروبا الشرقية والتجربة المهمة الجارية في الصين، وكذلك تحليله العميق للأزمة الخطيرة في بلدان شرق آسيا في عام 1994 ومن ثم الارجنتين وتجارب بعض البلدان الافريقية التي عاش وعمل فيها لعدة سنوات. لذا فإن الكتاب يجمع ما بين مناقشة وتقويم عدد من الطروحات النظرية المتعلقة بالنماذج Models والسياسات الاقتصادية وبين نتائج الممارسات التطبيقية على أرض الواقع. إضافة الى كشفه المنهج الايديولوجي العشري وآثاره المدمرة الذي مورس في المؤسسات الدولية المعنية في مجرى التعامل مع البلدان النامية. ولعل أهم ما يسترعي الانتباه والتوقف الجدي هو القضايا التالية التي تشكل محاور التحليل والمراجعة في هذا الكتاب. أولاً: ابراز الطابع الموضوعي لظاهرة العولمة والتشديد على ان هذه القوة التاريخية الهائلة يمكن أن تخدم المصالح المشتركة للانسانية وهي تمتلك قدرات كامنة لاثراء العالم خصوصاً الشعوب الفقيرة. غير أن المعضلة الماثلة الآن وربما في المستقبل لا تكمن في العولمة ذاتها، كعملية موضوعية وثمرة للتقدم العلمي والتكنولوجي العاصف، وانما تتركز بطريقة ونظام ادارة العولمة Management of Globalization وفي سياسة وبرامج المؤسسات الدولية المعنية بهذا الأمر خصوصاً صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. فهذه المؤسسات العالمية الكبرى تتولى بطريقة أو أخرى التحكم بمجمل الفعاليات والنشاطات الاقتصادية أو بالنظام الاقتصادي الدولي وتؤثر تأثيراً مباشراً على حياة الملايين من سكان المعمورة. لذا يتعين توجيه العمل نحو سياسات وبرامج هذه المؤسسات واصلاحها على أسس ديموقراطية وعادلة ومتكافئة بالنسبة لجميع الأمم. والواقع ان طرح القضية بهذا الشكل المحدد والهادف من شأنه ان يتفادى الجدل العقيم والممل الذي دار ويدور حول طبيعة ظاهرة العولمة وافتعال تنظيرات مجردة في شأنها لا يزكيها الواقع والمنطق التاريخي. فضلاً عن أن هذا الطرح يستدعي السعي لصوغ برنامج ملموس للعمل، ضمن الأطر الرسمية - الحكومية والشعبية على حد سواء للإفادة من الجوانب والقدرات الايجابية للعولمة ومواجهة آثارها ومخاطرها السلبية. فالعولمة، ليست شبحاً ولا مقولة نظرية مجردة، بل هي آليات وبرامج وسياسات وقدرات قابلة للتغيير والتكيف والتطوير في الاتجاه والهدف اللذين يحددهما نضال المجتمع الانساني وقواه الواعية والمؤثرة. ثانياً: التنديد بالمنهج الايديولوجي المتبع في هذه المؤسسات الدولية والذي يتحكم بعملية صنع القرار فيها من غير مراعاة للوقائع والأدلة المتنوعة التي تزخر بها الأوضاع المتباينة والتاريخية السائدة في بلدان العالم. والمنهج الايديولوجي هنا والمطروح في السياق الراهن لسياسة وبرامج هذه المؤسسات الدولية يتمثل بتقديس "أصولية السوق" Market Fundementalism وجعلها مرجعاً نظرياً وعملياً للقرارات المتخذة. وهنا يبرع ستيغلز في دحض هذا المنهج من ناحيتين مهمتين. الأولى بالعودة الى الحلول والبرامج التي تقدم بها الاقتصادي الانكليزي الشهير جون كينز لمعالجة آثار الأزمة الاقتصادية الكبرى التي وقعت في عام 1929 والسنوات اللاحقة، وألحقت بالاقتصادات الرأسمالية الرئيسية خسائر كبيرة على مستوى البطالة والتضخم وتوقف الدورة الاقتصادية المعتادة. حيث دعا كينز لزيادة الطلب الاجمالي العام من طريق زيادة الانفاق الحكومي وتدخل الدولة، مما فتح مجالات واسعة لمعالجة آثار تلك الأزمة ولا سيما زيادة حجم التشغيل والحد من البطالة آنذاك. أما الناحية الثانية، فتتمثل في ايراده الناجح للتجربة التاريخية الحية لبعض بلدان شرق آسيا، خصوصاً كوريا الجنوبية وماليزيا والصين التي زاوجت بين دور الدولة السياسة العامة ودور السوق وآلياته كمنهج مرشد في سياستها وبرامجها الانمائية والتي أفضت الى نتائج ايجابية مهمة على صعيد النمو والاصلاحات الاقتصادية. ولعل أصولية السوق هذه، شأنها شأن المسلمات الايديولوجية الجامدة، تنبع من جذر طبقي معين، يستهدف قولبة التطور الاجتماعي والاقتصادي لخدمة أغراض ومصالح اجتماعية معينة. وهو منهج غير علمي ولا يقيم وزناً للتجربة التاريخية ولا يحسب حساباً لوقائع الحياة المعاشة والقوانين الاقتصادية الموضوعية. وتبدو هذه الأصولية - ايديولوجية السوق - وكأنها الوجه المقابل لأصولية أخرى، أصولية القطاع العام النابعة هي الأخرى من انحراف ايديولوجي والذي ألحق أضراراً بالغة بالتجارب الاقتصادية المسماة بالاشتراكية ومنها في المنطقة العربية. ثالثاً: تسليط الأضواء على سياسات وبرامج المؤسسات الدولية ولا سيما صندوق النقد الدولي بصفتها امتداداً وتجسيداً لتوصيات وغايات ما سمي آنذاك ب"توافق واشنطن" Washington Consensus الذي جرى التوصل اليه في الثمانينات من القرن الماضي بين الرئيس ريغان والسيدة ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك. وتتمثل دلالات هذا التوافق في عدة نقاط رئيسية منها: - خروج المؤسسات الدولية الصندوق والبنك عن اهدافها الأصلية والتفويض الرسمي الموكول لها، وشروعها بالتدخل في رسم وتغيير السياسة الاقتصادية للعديد من البلدان النامية، واتخاذها مواقف منحازة للبلدان الرأسمالية الكبرى إزاء المشكلات الاقتصادية الدولية. ويمثل "التوافق" برنامج أو سياسة مشتركة لكل من الصندوق الدولي والبنك الدولي ووزارة الخزانة الأميركية. - اعتماد اقتصاد السوق أصولية السوق لموجه وحيد للنماذج الاقتصادية المقترحة للبلدان النامية. - ولعل النقطة الأهم المستخلصة من توافق واشنطن هو تخلي البلدان الرأسمالية الكبرى عن التزاماتها إزاء البلدان النامية والمتمثلة باصلاح النظام الاقتصادي الدولي وحل مشكلة الاستدانة، وزيادة المعونات الاقتصادية، ومعالجة مشكلة الفقر والتخلف بوجه عام. وهي الاجراءات التي اتخذت في اطار الأممالمتحدة خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، وانعكست في الدعوة الى مفاوضات شاملة بين البلدان الصناعية والبلدان النامية لمعالجة هذه القضايا. غير أن شيئاً من هذا القبيل لم يحصل، واستعيض عنها بتوافق واشنطن. رابعاً: نقد الدعوة لسياسة التحرير المطلق للتجارة وأسواق رأس المال والاندفاع المحموم في الخصخصة. وهنا يثير ستيغلز نقطتين جديرتين بالدراسة والانتباه. الأولى تتعلق بخطأ الأخذ بهذه السياسات قبل توفير الجو الملائم للمنافسة المتكافئة بكل ما تعنيه من تنمية للقدرات الوطنية والنفاذ الحر للأسواق الأجنبية. والنقطة الثانية، تركز على الحاجة لبناء بنية مؤسسية هيكلية للنهوض بمهمة التحرير سواء بالنسبة للتجارة أو أسواق رأسمال المال، وتتضمن وضع ضوابط ادارية وقانونية من شأنها أن تحد من المؤثرات الخارجية وتصون الاقتصادات الوطنية بوجه الهزات الطارئة ولا سيما تلك المنبعثة من تدفقات النقود رؤوس الأموال الساخنة الطليقة والمنغمسة في المضاربات بالدرجة الأولى. وهو يعتقد أن التحرير المالي، من غير ضوابط، لا يؤدي بالضرورة الى زيادة النمو والى تخصيص أكثر كفاءة ورشداً للموارد. خامساً: يكرس ستيغلز حيزاً كبيراً من تحليلاته للعواقب الاجتماعية، وعنصر الاستراحة المنشودة، الناجمة عن التطور الاقتصادي. ومن خلال التجارب المتبعة في بلدان عدة، جرى اسقاط هذه المسألة، واتبعت سياسات لا تعكس أية حساسية إزاء معاناة الناس وحاجاتها الاجتماعية وافضت بالنتيجة الى حراك اجتماعي نشيط وأزمات سياسية حادة. سادساً: ويربط ستيغلز بصواب بين المنافسة المتكافئة وتوفير المعلوماتية المتناظرة asymmetric information وهو الموضوع الذي اشتهر بمعالجته وقدم فيه مساهمة علمية ثمينة. ويرى بأن غياب المعلومات عن أحد طرفي أية معادلة لا يمكن أن يجعل منها معاملة متكافئة. ولا بد أن تسفر عن الاضرار بمصالح الطرف الأضعف في هذه المعادلة. ففي الوضع العالمي الراهن، والمتميز بهيمنة البلدان الرأسمالية الكبرى على أرصدة المعلومات بكل آلياتها ومنتجاتها، تنشأ حالة غير متوازنة بين الأمم والدول في ميدان المعلوماتية وتخلق الاساس لتعامل دولي غير متكافئ. ومع أن أفكار وتحليلات ستيغلز باتت مثيرة لجدل جديد ومناقشات حامية في اوساط عدة داخل اميركا وخارجها، الا انه من الأمانة العلمية القول بأن بعضها قد نادى به العديد من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع وانعكس ايضاً في تقارير ودراسات معروفة لدى مؤسسات دولية خصوصاً الأممالمتحدة. ومن ناحية ثانية، نجد ثمة تناغماً ملحوظاً بين ستيغلز وتقويماته لأداء وسياسات المؤسسات الدولية وبين رجل الأعمال والبليونير المعروف جورج سوروس. وهو أمر مثير للدهشة ويدعو للحيرة والتساؤل. فما الذي يدعو هذا الرأسمالي الكبير، والذي صنع ثروته الطائلة من خلال المضاربة بالعملات والأسواق المالية، ان يتخذ موقفاً ناقداً وربحاً حذرياً من أداء البنك والصندوق الدوليين. ففي كتاب جديد، صدر أخيراً لجورج سوروس بعنوان جورج سوروس يتحدث عن العولمة تجد تحليلات نقدية مشابهة لما يدعو اليه جوزيف ستيغلز. فهل نحن من جديد أمام ظاهرة الرأسماليين "المستنيرين" على ما كان يطلقه القائد السوفياتي لينين على الرأسماليين الأوروبيين الذين استجابوا لدعوته آنذاك، للمساهمة في تنفيذ "السياسة الاقتصادية الجديدة" في روسيا في بداية العشرينات من القرن الماضي. * كاتب عراقي.