الروائي لورانس داريل صاحب "رباعية الاسكندرية" الشهيرة سيكون له جناح خاصّ في مكتبة الاسكندرية وفيه تعرض مخطوطات له وأشياء خاصة علاوة على كتبه. وكانت زوجته ايفا عشيقة مدينة الاسكندرية التي ولدت وتزوجت فيها الكاتب الشهير، هي التي وهبت المكتبة مقتنيات زوجها وكتبه وأوراقه. انها عودة رمزية للورانس داريل الى المدينة التي قضى فيها ردحاً وكتب عنها وعن معالمها البشرية والاجتماعية. الروائي ادوار الخرّاط، ابن الاسكندرية، يكتب هنا عن داريل وعن نظرته الملتبسة الى هذه المدينة المصرية المتوسطية. وقراءة الخراط أو اعادة قراءته للورنس و"اسكندريته" لا تخلو من بضعة مآخذ جوهربة. هناك اسكندرية أخرى تماماً، غير تلك التي نعرفها جميعاً، قد استطارت لها شهرة ذائعة، حتى لا تكاد تُذكر "الاسكندرية" وخصوصاً في الغرب إلا استرفدت ذِكر رباعية لورانس داريل، وأجواءها، وكذلك اسطوريتها. لكن لورانس داريل لم يعرف الاسكندرية ولا عرف في روايته اسكندرانيين حقيقيين، في تقديري، مع أنه كتب مئات الصفحات من رباعيته الشهيرة. فالاسكندرية عنده اساساً هي وهْم غرائبي، كأنما كتب لكي يرضي نزعة لا تنتزع عند الكاتب وعند قرائه الغربيين سواء، في اختلاق، وابتعاث خرافة راسخة الجذور عن "الشرق" المصطنع الذي يموج ويصطخب بشخوص عجيبة، غير مفهومة، تتقلب بين العنف تارة وبين الخنوع والذلة تارة، ولا تكاد تنتمي الى البشر أياً كانت جنسياتهم وبيئاتهم وثقافتهم، وتحتشد هذه الخرافة الغرائبية عن اسكندرية، بأجواء خارقة، يجهد الكاتب في أن يضفي عليها جاذبية غير المألوف، الى درجة منفرة بل ومقززة أحياناً، فهي جاذبية الخيال المغرِق، والجمال المصنوع، والقبح البارع ايضاً. الاسكندرية عند داريل هي خرافته الشخصية اولاً وأخيراً، خرافة تكونت من مشاهد خارجية التقطتها عين اجنبية اساساً، ومشاهد داخلية تخلقت في نفس منفصلة مبتورة عن قلب البلد وروحها، حصاد خبرة مثقلة بانجازات رازحة وراسخة. لم يعرف داريل من الاسكندرية الا قشرتها السطحية: بيوت ومكاتب الديبلوماسيين والموظفين والملاك، الفئة الفوقية التي تطفو كالزبد او الرغوة على عباب مدينة تمور بالحياة، الشوارع والبيوت التي كانت محرمة على أولاد البلد: مواقع، أو حالات نفسية للأجانب، ولأشباه المصريين، أو مجرد استعارات وأقنعة للمصريين أو "المتمصرين" الذين لم يعرفوا من مصر إلا كيف يستغلونها، ثم من يدور في فلك هؤلاء: الخدم والبغايا الذين لا يراهم داريل الا من خارج، من دون مبالاة، وبشيء قليل من النفور. أما الاسكندرية الحقيقية والتي يسميها، باستعلاء متوقع ومنتظر: "المدينة العربية" أو بعبارة أدق بالعامية المصرية "الحتة البلدي"، فهي عنده مشاهد شرقية تلوح باذخة الزينة وغريبة لها وقع الصدمة، لا صلة لها بالواقع، ولا علاقة لها بالفن الحقيقي. يقول داريل: "أسير في الحي البلدي الصاخب بأنواره التي تشبه الطعنات وروائحه التي تُنهك اللحم" جوستين 1985. في الحي البلدي المصري "تتغير رائحة اللحم: النشادر وخشب الصندل والبوتاس والبهارات والسمك" جوستين ص 66. وفي موضع آخر فإن رائحة هذا الحي هي "رائحة المدافن المفتوحة حديثاً" كليا 97. وكما لاحظ بحق عبدالعزيز موافي يربط داريل بين أهل البلد "المتخلفين" عنده دائماً وبين محض وجود جسدي، أما الأوروبيون فهم متحضرون، خصوصاً جوستين اليهودية المتعاطفة بل المتواطئة على إنشاء دولة اسرائيلية، فهي عنده مرتبطة بما يمكن أن نسميه عقلانية أو تجريداً ذهنياً متسامياً. داريل يرى الحي البلدي في الاسكندرية على النحو الآتي: "يستنشق مع كل نفس يأخذه خليطاً من روائح التراب والبراز وافرازات الخفافيش. يرى الميازيب التي تسدها أوراق الشجر. وكسر الخبز وقد نقعت في البول ! أكاليل من الياسمين صفراء فاقعة البهرجة. أضف الى ذلك تلك الصرخات التي تنبعث في الليل من خلف نوافذ الآخرين في ذلك الشارع الملتوي: البِك يضرب نساءه.. بائعة العشب العجوز التي تبيع نفسها كل ليلة فوق الأرض المنبسطة بين المنازل المتهدمة.. أنين حزين غامض. الدبيب الرخو للأقدام السوداء العارية وهي تسير ليلاً في الشوارع التي جف فيها الطين". وفي مقابل تلك الصورة للحي العربي في الاسكندرية فإن داريل يضعها في مقابلة مع الصورة / الضد للأوروبي "ونعيش نحن الاوروبيين في تنافر مع تلك الحال الصحية الحيوانية المخيفة للسود من حولنا.. إنهم نمور سوداء لهم أسنان لامعة وفي كل مكان البراقع والصراخ والقهقهات المجنونة تحت أشجار الفلفل.. الخَبَل والمصابون بالجذام". يرى عبدالعزيز موافي إذاً أن داريل "يختزل فكرة التخلف الشرقي من خلال ملامح جسدية: اللون الأسود، والجنس. وعلى رغم أنه يقدم لنماذج مشوهة للإنسان الأوروبي فإنه يضع حدوداً لهذه الحيوانية، تبدأ بعدها درجات من التسامي عليها. فالأوروبي هو تعبير عن فكرة الإنسان الذي يتوزع بين الطين والروح، أما الشرقي فهو مصنوع من طين فقط. تبدو لنا جوستين - مثلاً - باعتبارها تجمع بين النقيضين السمو والانحطاط. وربما لم تقع جوستين في الحب على الاطلاق". ومع إعجاب موافي بداريل فإنه لا يتردد في أن يرى كيف يقرن الشرق و"الانسان الشرقي" بالتخلف والبهيمية والدونية. ذلك يقابل النشوة اللغوية بل اللفظية المبهرجة المحلّقة في مقاطع شعرية: "الجاموس المعصوب العينين يدير السواقي في أبدية من الظلام.. جوانب كاملة من السماء والأرض تتزحزح وتنفتح كغطاء أو تنقلب رأساً على عقب. قطعان الغنم تدخل وتخرج من هذه المرايا المعوجة تظهر وتختفي تحفزها صيحات الرعاة غير المرئيين مرتعشة فيها خُنَّة. فيض دافق من صور رعوية من التاريخ المنسي ما زالت تعيش جنباً الى جنب مع تلك التي ورثناها، سحب النمل ذي الأجنحة الفضية تطفو صاعدة تلتقي بوهج نور الشمس. صمت الركود الكامل، ولكن ريف مصر كله يقاسمه ذلك الشعور الكئيب بالهجران، بأنه قد تُرك يتردى ويذبل يصطلي ويتشقق ويتفتت تحت الشمس المتقدة..". أنظر الإيحاء بأن الريف في مصر مهمل وراكد ولا أمل فيه. أو عندما يقول: "وسمعت صوت المؤذن الأعمى، حلواً، من الجامع يتلو "العبادات" التي يسميها داريل "عبيد" - فهو لا يعنى كثيراً بأن يدقق كلماته العربية، أتصور أن ما يهمه هنا هو مجرد ايقاعها الغريب، صوت معلّق كأنه شعرة في الأهوية العلوية التي ابتردت من النخيل في الاسكندرية.. "سماءٌ من المخمل المرتعش النابض يقطعها الاشتعال العاري من ألف مصباح كهربي. كان الليل يمتد فوق شارع التتويج مثل قشرة من القطيفة. لم تكن هناك إلا أطراف المآذن المضاءة ترتفع فوقه بسيقانها الرشيقة غير المرئية - تبدو أطرافها معلّقة في السماء، ترتعد ارتعاداً هيناً بالوهج كأنما على وشك أن تبسط قبازعها مثل ثعابين الكوبرا". كليا ص 259. ليس من قبيل الصدف الشعرية فقط أن المآذن تشبه ثعابين الكوبرا. وهكذا إلى ما لا نهاية له من الشعر المبرقش المبطن بالغرائبية، والمنطوي أساساً على الرفض، والتبعيد، والانفصال، والتعالي، بل على الإساءة والتحقير. أنظر مثلاً إشارته الى حميد - الخادم المصري الذي يفرش سجادة الصلاة في شرفة المطبخ والذي يقول عنه إنه "يركبه الجن" - انه لا يفتأ يكرر باستمرار "دستور .. دستور"، إذ يصب المخلفات في حوض المطبخ. "لأنه هناك يسكن جنيٌ قوي لا بد من التماس عفوه وسماحه. والجن يقطن الحمام كذلك، وكان حميد يستخدم المرحاض الخارجي، ويستصرخ الجن كلما جلس عليه "بالاذن.. يا مباركين..!" وإلا سحبه الجن إلى مواسير المجاري، وكان يتحرك، في نعله القديم، مثل ثعبان البُوَا القابض يتمتم بخفوت. جوستين ص 87. ينتقل داريل من سخرية الاستهانة الى التشويه الصريح: "الاسكندرية التي تبدو من الظاهر مسالمة الى ذلك الحد، لم تكن في الواقع آمنة بالنسبة الى المسيحيين"، ثم يحكي حكاية مروعة عن رأس زوجة نائب القنصل السويدي التي تدحرج رأسها من حجر بدوية في طريق مطروج يقصد مطروح - بالحاء لا بالجيم - ولكن ذلك ما يفعله دائماً. أهذه هي الاسكندرية التي عشتُ فيها وعاشت فيها عائلتي وعائلات أقربائي وجيراني وأهل "ملتي" وأجيال من المصريين وغير المصريين، أهي حقاً مكان غير آمن؟ أم أن ذلك تشويه مسموم؟ أما إذا كان يقصد "المسيحيين" الأجانب - فهم أيضاً عاشوا فيها، دائماً، بأمان وبُلهْنية من العيش، كما يقال. هذا التجني الغرائبي المبطن بسحر الشعر المصنوع يتحول أحياناً إلى فضيحة حقيقية عندما يصف مشهد وقاعٍ صريح بين اثنين من أهل البلد، بغيّ وصاحبها، كأنما يُجري عليهما - كما يقول هو نفسه - اختباراً معملياً، كأنهما من نماذج حيوانات التجارب، في أثناء عملية الممارسة الجنسية جوستين 187 وما بعدها أو عندما يصف حياً للبغايا - ليس له وجود، اعترف بعد ذلك في حديث صحافي "أنه خلط بين هذا المشهد وبين مكان آخر" وليس له حتى صدقية الشعر المصنوع. ص 189. وهو يصف الاسكندرية على النحو الآتي: "معزولة على رأس أردوازي ضارب في البحر، لا يسند ظهرها الا مرآة حَجَر القمر في بحيرة مريوط، أبدياتُها المتصلة من الصحراء المشعثة - تهف عليها رياح الربيع بخفة فتحيلها الى كثبان من الساتان لا نسق لها وجميلة كمشاهد السحاب - وما زالت الطوائف تعيش وتتواصل: التُرك مع اليهود، العرب مع القبط، والشوام مع الأرمن، والطلاينة مع اليونانيين" بلتازار ص 141 - 152. فانظر كيف تدفعه أهواؤه إلى أن يسمي المصريين "عَرَباً" من ناحية "وقِبْطاً" من ناحية أخرى ولكن لا يسميهم "مصريين" قط، وكيف يساوي بينهم وبين الأتراك والأرمن الذين تمثلتهم مصر حقاً وحولتهم الى مصريين اسكندريين. ومع ذلك فإن "رباعية الاسكندرية" التي كتبها داريل - وهو الذي اشتغل في مكتب الاستعلامات الاستخبارات الانكليزية في الاسكندرية - تلقى اشادة واعجاباً لا أفهمهما من مثقفين وكُتاب، اللهم إلا إذا كانوا لم يقرأوها حقاً - أعني القراءة الحقيقي - ولم يدركوا الخلفية السياسية التي كتبت فيها هذه الرواية التي دس فيها داريل كل السم في الدسم الظاهري. فقد نشرت "جوستين" سنة 1957، أي بعد شهور قلائل من جلاء القوات البريطانية عن مصر وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي البريطاني - الفرنسي - الاسرائيلي على الأخص، ونشرت "ماونت اوليف" سنة 1958 أي بعد الوحدة المصرية - السورية، فهل من الصدف البحتة أن داريل يصف تلك العائلة القبطية الاسكندرانية وهي عائلة صنع أبطالها من محض شطحات فانتازية لكنها موظفة في تقديري توظيفاً مقصوداً لكي تعطي صورة شائهة مغرضة للعلاقات بين مواطني مصر المسلمين والاقباط، ما يكاد يشارف تحريضاً - او على الاقل إضماراً - لزرع بذور التفرقة والفتنة، وهو الهدف الاسرائيلي المعلن في أكثر من وثيقة. تشير سحر الموجي في دراسة ممتازة الى "صورة القبطي في رباعية الاسكندرية وفي ترابها زعفران ويا بنات اسكندرية"، إلا ان داريل في تصويره القبطي يسعى الى تمزيق هذا الشطر عن الأمة المصرية الذي يزعم الغرب أنه لم يستوعب تماماً في الدولة العربية الاسلامية. ومن ناحية أخرى يرى ناقد مثل روجر بوين أن الرباعية هي آخر هتاف للامبراطورية البريطانية الآفلة. وتتعدد أشكال هذا التشويه المتعمد في رباعية داريل، ومن الخطل الجسيم اعتبار هذه الأقوال والأفعال "تجسيماً للشخصيات". فهي في القراءة الصحيحة ترجمة لأفكار كولونيالية او استعمارية جديدة، إذ أن فلتاؤوس - مثلاً - يحرص على أن يعدد قائمة المظالم التي يعانيها الاقباط، كما يحرص على تأكيد أن الاقباط هم "السكان الاصليون والورثة الحقيقيون للأرض، اصحاب الذكاء الأكثر تفوقاً وهم الأكثر استقامة وأمانة" الى آخر المزاعم المألوفة عند اصحاب العقلية الكولونيالية التي تهدف الى ارساء الشعار الاستعماري المأثور: "فرّق تسد". فهناك ايضاً ناروز الذي يتنبأ أو يدعو بأن "مصر ستعود الى أصحابها الحقيقيين: الاقباط". ونسيم - كما رأينا - هو صاحب مشروع تأسيس سلطة قبطية، بالتآمر مع الصهيونيين، يبدأ المؤامرة بزواجه من يهودية، بل ان بوحه بأنه مشارك في هذه الجريمة هو وحده الذي دفع جوستين الى قبول الاقتران به، صحيح أن تصوير هذه المؤامرة كلها يبدو صعب التصديق، أو بعيداً من الاقناع، لكنه في النهاية قائم، يلعب دوراً حاسماً في الرؤية التي يبدعها رجل الاستخبارات البريطانية للاسكندرية المختلقة او المصنوعة وفق اهواء كولونيالية استشراقية وغرائبية. ومع ذلك فقد أخرس داريل صوت الاقباط الحقيقي، وشوههم ووصفهم بالتعصب والخيانة والممالأة وبالتواطؤ مع الصهاينة. وكما اشارت سحر الموجي بذكاء، فلعله كان أصدق بكثير مما كان يتصور عندما قال في مقدمته ان شخصياته لا تحمل أي وجه شبه بأشخاص حقيقيين.